فن

“في الغرب.. لا شيء جديد” تحفة ريمارك الخالدة تُبعث من جديد

في العام 1928، كتب الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك، رواية “Im Westen nichts Neues” “في الغرب.. لا شيء جديد” والتي ذاع صيتها في العالم، بعد أن تحولت إلى فيلم سينمائي أنتجته أمريكا عام 1930، بعد انتقال الكاتب إلى هناك، هربا من ملاحقة السلطات الألمانية بعد صعود هتلر إلى قمة السلطة.

شارك ريمارك في الحرب العالمية الأولى، ورأى مأساة إزهاق أرواح مئات الآلاف من الشباب دون مبرر، وسجّل تلك التجربة المريرة في روايته؛ لتكون صرخة مدوية ضد عبثية الحرب وكارثية نتائجها على جميع الأطراف.

حقق الفيلم الذي أخرجه الأمريكي من أصل روسي لويس مايلستون – قبل نحوٍ من تسعة عقود- نجاحا كبيرا، وحصد جائزتين من جوائز الأوسكار، إحداهما جائزة أحسن فيلم.

في العام 1979، أنتج فيلم تليفزيوني عن الرواية من إخراج الأمريكي ديلبرت مان المعروف بنزوعه الشديد نحو الكآبة.. ليشهد العام الماضي أول فيلم ألماني عن الرواية من إخراج المخرج والكاتب الألماني إدوارد بيرجر، مع إعادة العنوان الأصلي “في الغرب.. لا شيء جديد”، لكن بيرجر لم يلتزم بقصة ريمارك، وقدم رؤية جديدة تناولت أبعادا أعمق لمأساة الحرب.. منذ المشاهد الأولى للجندي هاينريش غيربر الذي يفقد حياته في إحدى معارك الجبهة الغربية، لنرى جثته ضمن كومة من الجثث، تعد للدفن في عجالة بعد تعريتها، في عملية اعتيادية لجمع الملابس لإعادة تدويرها ليلبسها جنود آخرون يأتون إلى الميدان، منتشين بروح الوطنية والبطولة، ليصطدموا بالحقيقة.. أنه لا يوجد في تلك الخنادق سوى الجوع والبرد القارس والموت.

في المشاهد الأولى يضعنا بيرجر الذي شارك أيضا في كتابة السيناريو مع إيان ستوكيل وليزلي باترسون أمام انعدام قيمة الإنسان في مواجهة آلة الحرب التي يديرها القادة من مقراتهم الفخمة التي ينعمون فيها بالدفء، ويتناولون أطايب الطعام.. بينما يتشارك الجنود في ساحات المعارك الخبز العفن مع الفئران التي لا تتوقف عن نهشهم أحياء وأمواتا.

لا يصنع بيرجر نسخة سينمائية جديدة من الرواية.. إنه يغض الطرف عامدا عن مواطن عديدة تتعلق بالعلاقات بين رفاق السلاح.. لا يجب أن يلطف شيء من تلك القسوة، التي تحطم الروح لتترك الإنسان في معزل رهيب، لا هو بالحي ولا بالميت.

يتعرض الجندي بيومر بطل القصة للعقاب بسبب تأخره في ارتداء القناع الواقي من الغاز؛ لأنه ساعد صديقه لودفيغ في ارتداء القناع.. ويوبخه الآمر بأن عليه أن يأكل جيدا لأنه بهذا البطء في تنفيذ الأوامر سيموت قبل الفجر.

في الخندق الذي سرعان ما سينهار فوق رءوسهم، يلتقي بيومر بكاتزنسكي الذي سيمنحه بعض الشراب، وسيخبره بأن السلطة تحول الرجل إلى وحش.. سيودع بيومر – بعد ذلك-  لودفيغ أول الضحايا، وداعا حارا وسيحرص على إحكام السترة على الجسد الممزق تحت وطأة القصف.. سيودع بيومر الرفاق واحدا تلو الآخر لكن ليس بنفس لوعة وداع الصديق الأول لودفيج الذي فرح كثيرا بالنظارات الحربية ذات الأربطة التي استبدلها بنظاراته.. لكنها تحطمت تحت أقدام بيومر، والتي بها استدل على موت لودفيج.

ستكون الأشياء الصغيرة بعد ذلك عنوانا على رحيل أصحابها.. منديل العشيقة الفرنسية العابرة الذي احتفظ به فرانز، وتبادله الرفاق يستنشقون عبيره.. سيخبر كات عن موت فرانز، الملصق الذي احتفظ به ألبرت للمرأة الجميلة.. أخبر عن موته أيضا حين بقي معلقا على الجدار دونه، أما تشادن الذي حلم بالترقية لضابط صف، فكان انتحاره بشوكة طعام وهو الأكول.. وخنفساء كات ماتت في علبتها بعد موته العبثي على يد طفل.

أما بيومر فلم يحمل تذكارا ولم يكن له شيء يتعلق به؛ لقد حمل الموت منذ البداية، فكان شحوب وجهه وزرقة شفتيه طوال الوقت أكبر دليل على أنه جثة تتحرك.. رغم ما يبديه من تعاطف للرفاق، حتى للجندي الفرنسي الذي ندم بيومر على قتله – في الحفرة- أشد الندم.

مع اليقين بالهزيمة، يتحرك الساسة الألمان لنيل الهدنة، ويتمادى الفرنسيون في إذلالهم بشروط مجحفة ستكون جارحة للكبرياء الألماني، وستتسبب في اندلاع الحرب من جديد بعد نحو عقدين.

بعد إقرار الهدنة المذلة التي ستبدأ في الحادية عشرة من صباح اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي لعام 1918، يطلب القائد الألماني من رجاله المنهكين خوض معركة أخيرة من أجل شرف الوطن، ردا على الصلف الفرنسي.. يستجيب الجنود مرغمين.. ويتحرك بيومر كالمخدر بين زملائه ليقاتل معركته الأخيرة التي ستشهد موته المؤجل منذ سنوات.. لم تُبْقِ تلك الأهوال التي عاينها بيومر، فيه شيء يصلح لموت جديد، كان حين أسلم الروح قد مات بالفعل منذ زمن، لم يكن حتى ساعتها في هيئة الميت.. كان جالسا مغمض العينين، كأنما يتألم من شيء أو في غفوة.. لكنه وقبل بدأ الهدنة لحق برفاقه دون أسى.. فهو لم يعرف من هذه الحياة ما يأسى عليه؛ هو حتى لم يتذكر أمه كثيرا في خضم الموت المتلاحق الذي كان يخوض غماره.. وهو ما عبّر عنه بالقول “أنا شاب، عمري عشرون سنة، لكنني لا أعرف عن الحياة سوى اليأس والموت والخوف، والسطحية السخيفة التي تجعلني على هاوية الحزن”.

الفيلم رائع وصادم أيضا لا شك في هذا.. وهو يستحق عن جدارة المشاهدة لأكثر من مرة، وقد اختارته ألمانيا ليمثلها رسميا في الترشح لجوائز الأوسكار، وقد رُشّحَ الفيلم فعليا لتسع جوائز أوسكار.

أنجز إدوارد بيرجر فيلمه في 54 يوما فقط في براغ بجمهورية التشيك، واستخدم المخرج منطقة عسكرية ومطارًا شمال براغ لتصوير ساحة المعركة. التي كانت ملعبًا ضخمًا من الطين بحجم عشرة ملاعب كرة قدم.

الممثل النمساوي فيليكس كاميرر، الذي برع في أداء الشخصية الرئيسية في الفيلم (الجندي بول بيومر)، تدرب لعدة أشهر بالركض يوميا عشرة كيلومترات، وهو يرتدي سترة تزن عشرة كيلوجرامات؛ ليبدو طبيعيا في حركته في مشاهد المعارك في الفيلم.

التدريبات القتالية التي أشرف عليها ماريك سفيتيك، استخدمت فيها أسلحة نارية حقيقية في المحاكاة العسكرية!

وبينما تدخل الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، مع توقعات بتطور القتال ليشمل عدة جبهات اخرى، ومع زيادة التوتر بين الولايات المتحدة والصين حول تايوان ما ينذر بمواجهة وشيكة، ومع تصاعد الممارسات الإجرامية للاحتلال الصهيوني في الأرض العربية المحتلة، ومحاولات بعض الأطراف جرَّ إيران إلى حرب إقليمية جديدة – يرسل إلينا صُناع الفيلم رسالة بالغة القوة عن قذارة الحرب وعبثيتها وضراوتها في الفتك بالإنسان، وتحويله إلى حطام لا قيمة له.. فهل يعي المتلاعبون بالنار هذه الرسالة؟ أم سيندفع العالم مجددا بجنون أعمى للسقوط في هوة الحرب السحيقة، قبل أن تهدأ ميادين القتال وقد غطتها مئات الآلاف من الجثث، في حين يتبادل القادة أنخاب النصر المزعوم.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock