“شد القلوع
يا مراكبي
مافيش رجوع
يا مراكبي”
بهذه الكلمات التي صاغها الشاعر مجدي نجيب ولحنها الفنان الراحل احمد منيب يتغنى المطرب المصري محمد منير في واحدة من أشهر أغانيه بالمراكبي.
والمراكبي هو لفظ يطلقه المصريون على كل من يتخذ من مركبه مصدراً للرزق ومن النيل سكناً ووطناً٫ سواء كان صياداً يلتقط الأسماك من أعماق النهر أو كان ينقل الناس بمركبه٫ سياحاً كانوا أو تجاراً أو غير ذلك٫ عبر ضفاف النهر.
النهر .. حياة
والمراكبي هو شخص عرك النهر وأدرك أسراره حتى حفظ منحنياته ودروبه والنيل بالنسبة له ليس مجرد مصدر للرزق بل للحياة ذاتها بل لا أبالغ ان قلت انه لبعض من يمتهنون هذه المهنة هو الحياة ذاتها حيث يعيشون على صفحة مياهه متخذين من مراكبهم بيتاً ولا يقربون البر إلا في القليل النادر.
ويتصل بمهنة المراكبي مهن كثيرة متشعبة ومتداخلة مع بعضها البعض مثل صانع المراكب الخشبية وهي مهنة تنشط في مدن ساحلية كدمياط مثلاً أو على ضفاف بحيرات مصر ال١٤ مثل مدينة برج البرلس المقامة على ضفاف البحيرة التي تحمل نفس الاسم.
وهو ما يرصده ببراعة المخرج التسجيلي هاشم النحاس في فيلمه “الناس والبحيرة” موضحاً كيف تعتمد فئات متعددة على النيل كمصدر للحياة كما أسلفت.
ويختتم النحاس فيلمه بأغنية على لسان أحد المراكبية يوضح فيها فلسفته في التعامل مع النيل٫ فوفقاً لكلمات الأغنية فإن المراكبي يدرك تماماً أن “البحر قاسي” ولكنه يحذر قائد المركب او “الريس” من أن ييأس من ناحية أو يغتر بخبرته من ناحية أخرى وذلك لأن
“البحر طبعه قاسي
ياما ذل حر”
ويحذره أيضاً من أن يطلب حب الرئاسة أو القيادة لأن
“حب الرياسه عكاسه
وقالوها ناسي”
النيل ..مراكبي
لقد سيطر الاهتمام بالمراكبية على كثير من مبدعي مصر٫ ووجدت أغانيهم طريقها إلى المسرح والشاشة الفضية٫ ففي أوبريت معروف الإسكافي يتغنى الموسيقار المصري الراحل داوود حسني بالمراكب في أغنية تقول كلماتها :
“إن شالله نروح بالسلامة
ونيجي بالسلامة ان شالله
يا بحر لا تقسى علينا
وهات ايدك في ايدينا
يا ريس حل قلوعك
يا ريح هوني يا زينة
قولوا إن شا الله
إن شا الله نروح بالسلامة
ونيجي بالسلامة ان شا الله”
أما كوكب الشرق ام كلثوم فلا تنسى الإشارة إلى المراكبي في أغنيتها “على بلد المحبوب” حيث تقول كلمات الأغنية التي تعكس الارتباط الوثيق بين مصر ونيلها :
“يامسافر على بحر النيل
أنا ليّ فى مصر خليل
من حبه مابنام الليل
على بــلد المحبوب وديني”
بل ان النيل ذاته يتخذ صورة المراكبي كما تخيله الشاعر محمود حسن إسماعيل في قصيدة لحنها وتغنى بها الموسيقار محمد عبد الوهاب حيث تقول القصيدة:
“مسافرٌ زاده الخيالُ والسحر والعطر والظلالُ
ظمآن والكأس فى يديه والحب والفن والجمالُ”
وفي عام ١٩٩٥ يقدم كل من المخرج أحمد ضياء الدين وكاتب السيناريو احمد عوض فيلماً بعنوان “المراكبي” يصور حياة هذه الفئة من أهل النيل -إذا صح التعبير- والتي لا تعرف سوى النهر سكناً وداراً وماذا يحدث لواحد منهم إن قرر أن يخرج من بيئته الطبيعية هذه إلى البر الذي لا يعرف عنه شيئاً.
وهذا تحديداً ما يواجه بطل الفيلم المراكبي (صلاح السعدني) حين يقرر إدخال ولده الاصغر إلى المدرسة فيصطدم٫ كونه لم يعرف يوماً الوثائق والأوراق الرسمية٫ باجراءات صارمة وقوانين روتينية أكثر صرامة تقلب حياته راساً على عقب.
لكن المراكبي مدفوعاً بتعطش ولده لنيْل العلم٫ وبإرادة لا تلين٫ يتمكن في نهاية الأمر من تجاوز هذه العقبات.
وفي مسلسل الاصدقاء لكل من المؤلف كرم النجار والمخرج الراحل إسماعيل عبد الحافظ يختار المناضل الاشتراكي حسن (فاروق الفيشاوي) أن يعمل كمراكبي رغم كونه حاصلاً على مؤهل جامعي٫ موكداً لأصدقائه الذين باتوا يتبوأون مناصب هامه انه اختار ما أراده وأحبه “شمس ومياه صافية و شراع مفرود”.. وهكذا كان المراكبي دائما حاضرا في الفن والثقافة والذائقة المصرية وربما زاده ارتباطه بالنيل تميزا وتفردا وزخما يليق بالنهر العظيم .