رؤى

الإسلام السياسي بين مطرقة الأصولية و سندان الحداثة

 قراءة في كتاب الإسلام السياسي صوت الجنوب قراءة جديدة للحركة الإسلامية في شمال أفريقيا تأليف فرانسوا بورجا،ترجمة د.لورين ذكري،مراجعة وتقديم د.نصر حامد أبو زيد،دار العالم الثالث، ط2، القاهرة.

تمهيد: هذا الكتاب الذي بين أيدينا من الكتب المهمة التي تناولت ظاهرة الإسلام السياسي في شمال أفريقيا، وذلك لأنه يقدم هذه الظاهرة من منظور المراقب الغربي، أي الباحث الخارجي الذي تتمتع رؤيته بدرجة من الموضوعية، كما أنه يعرض لظاهرة الإسلام السياسي في المغرب العربي، من هنا تنبع أهمية الكتاب. ورغم أن الظاهرة في مجملها تتمتع بخصائص متشابهة في كل أنحاء العالم العربي و الإسلامي، فإن الخصوصيات المحلية غائبة إلى حد كبير، وهذا يرجع إلى التعتيم الإعلامي في كل إقليم عربي لما يحدث في الإقليم،خاصة إذا كان مرتبطًا بظاهرة الإسلام السياسي. أيضا ترجع أهمية الكتاب إلى أنه ليس بحثا في الأيدولوجيا، أو اشتباكًا مع مقولات أو مفاهيم، بقدر ما هو بحث في الفاعلية الحركية السياسية و الاجتماعية ،وهو أمر مفتقد إلى حد كبير في الكتابات العربية التي تدخل مباشرة في سجال فكري مع أو ضد. وفي هذا السياق يجب أن نشير إلى أن ظاهرة الإسلام السياسي ليست نبتًا دخيلًا طارئا كما يحلو للإعلام أن يصوره، بل هي محصلة طبيعية ناشئة عن مناهضة الاستعمار و متطورة عن فشل الخطاب النهضوي. ومن هنا نتوصل إلى نتيجة مفادها أن الإسلام التاريخي المدون في النصوص المقدسة، ليس وحده المولد لظاهرة الإسلام السياسي، بل الظاهرة متولدة عن واقع مركب معقد.

ويقع هذا الكتاب في 462 صفحة ، و يشتمل على مقدمة وستة فصول و خاتمة. الفصل الأول بعنوان(التشدد الإسلامي والأصولية و الإسلام السياسي-حول صعوبة التسمية . أما الفصل الثاني فيندرج تحت عنوان(من الإسلام إلى الإسلام السياسي . والفصل الثالث جاء موسوما ب(من الخطبة إلى الانتخابات ) أما الفصل الرابع فهو بعنوان(غنوشي و عباس مدني و الآخرون منطق الاختلاف ) أما الفصل الخامس فهو بعنوان (تونس نموذجًا لدول شمال أفريقيا) والفصل السادس و الأخير يندرج تحت عنوان(الجزائر-ليبيا-المغرب) .وأخيرا الخاتمة .

حيرة “المستقبَل”

جاءت المقدمة لتلفت انتباهنا إلى حقيقة مهمة و هي أنه منذ سنوات أصبحت دول شمال حوض البحر المتوسط(وهي تمثل منتج كبير للأيديولوجيات ومصدر لها) تأخذ في الاعتبار أن هناك منافسًا قويًا في الجنوب يقوم في إطار جوقة الأيديولوجيات، بتقويض مواضع يقينهم ، وبمزاحمتهم في مناطق نفوذهم. و في هذا السياق فإن اللغة النضالية التي يستخدمها الإسلام السياسي ،تبدو نوعًا من أنواع التهديد بالنسبة للحكام الذين قاموا بعملية التحديث في الجنوب،ومن هنا يرى الشمال في العبارات الدينية التي يستخدمها الإسلاميون نوعًا من التحدي و الرفض. ورغم ذلك فالإسلام السياسي هذا الصوت الجديد الآتي من (الجنوب) يواصل طريقه في مناخ عام يتسم بأوجه عدم اليقين الاقتصادي و الاحباطات السياسية، و الأزمات الثقافية ،ومع ذلك يجب أن نشير إلى قدرة الإسلام السياسي على تعبئة الجماهير ([1]).

الإسلام السياسي صوت الجنوب قراءة جديدة للحركة الإسلامية
غلاف الكتاب

ومن خلال تحليل ظاهرة الإسلام السياسي و كيف تزايد الاهتمام بها، يرى المؤلف أن التضخم اللغوي،فيما يتعلق بالمصطلحات التي يستخدمها المحللون مثل مصطلحات الإسلام السياسي-الأصولية- الخومينية-الإخوان المسلمين، والتي كانت في البداية تعبر عن حيرتهم ، ثم أصبحت تعبر عن قلقهم تجاه هذه الظاهرة-وهذا يعكس بنفس الدرجة الاهتمام الذي تثيره هذه الظاهرة(لا أتفق معه في تلك النظرة في أن الاهتمام بظاهرة الإسلام السياسي جاء من التضخم اللغوي لبعض مفردات اللغة، بل هناك عوامل أخري اجتماعية و سياسية و ثقافية جعلت الاهتمام يتزايد بظاهرة الإسلام السياسي) ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن فهم ظاهرة الإسلام السياسي يستدعي قبل كل شئ إدراك المزالق المختلفة الكامنة في طيات المستشرقين، ومن هنا نُلمِح إلى أنه في خلال السنوات الماضية  قدم عدد من المفكرين ابتداء من إدوارد سعيد حتى برنارد لويس ومن حسن حنفي حتى فؤاد زكريا دراسات قيمة في هذا المجال ، لكن  هذا لا يمنع الشعور بالحيرة أمام صعوبة توقع تعدد الاتجاهات التي ستطرأ على المد الإسلامي في المستقبل([2]).

ولعله من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن من أهم الصعوبات و العقبات التي تقف أمام فهم ظاهرة الإسلام السياسي هي وفرة الخطاب الإسلامي و تشعبه، وتعدد التصورات الخاصة به.و الإسلام السياسي بوجه عام يمثل تيارا من التيارات الاجتماعية و السياسية التي وجدت عبر تاريخ كوكبنا، ومن هنا فهو يتضمن حركة ديناميكية تجعله يتطور باستمرار ، لذا يجب على الدراسات التحليلية أن تركز اهتمامها على الاتجاه الذي يميل إليه تطور الخطاب الإسلامي أكثر من الاهتمام بالخطاب الإسلامي في حد ذاته في فترة ما. وفي هذا السياق نود التأكيد على أن من أهم وظائف الإسلام السياسي التي يجب أن يقوم بها ،أن يمثل مرحلة الدفع لصاروخ القضاء على الاستعمار ، و يعبر ذلك بالفعل عن مرحلة من أهم مراحل تعجيل عملية بحث الجنوب (المهيمن عليه) عن وضع جديد في إطار علاقته بالشمال. وينبهنا المؤلف إلي حقيقة مهمة وهي أن العنف يمثل سمة جوهرية في تيارات الإسلام السياسي، و السؤال المطروح هنا لماذا تلجأ تيارات الإسلام السياسي إلى العنف؟ السبب الجوهري كما يشير المؤلف يرجع إلى المناخ السياسي غير الديمقراطي ، و هذا العنف لا يقل في عدم مشروعيته عن العنف الذي تمارسه الدول. ومن هنا يتم التوصل إلى نتيجة مفادها أننا سندرك في يوم ما –بعد دراسة جادة لظاهرة الإسلام السياسي أن العنف الذي نلصقه بالمظاهر الهامشية المتطرفة للتيار الإسلامي تمارسه في الغالب نظم الحكم و العكس ليس صحيحا ([3]).

“لا أتفق مع وجهة النظر هذه لان العنف الذي مارسته جماعات الإسلام السياسي تحت شعار الدين ،هو عنف يفوق أي عنف آخر،ولنا في داعش نموذجا للعنف و التطرف الديني تحت ستار الدين.”

داعش

تحليل المصطلحات

ثم يتطرق الحديث بعد ذلك عن تحليل مصطلحات مرتبطة بالإسلام السياسي مثل الأصولية- التشدد الإسلامي-الخومينية –التقليدية وغيرها. ومن خلال هذا التحليل نرى أن هذه كلها أسماء ظلت تتردد لفترة طويلة –سواء في كتب المتخصصين أو في الكتابات الصحفية وذلك من أجل وصف الاضطرابات التي تصاعدت في البلدان الإسلامية في الآونة الأخيرة. وفي هذا السياق نشير إلى أن الصعوبة في التسمية أي تسمية الإسلام السياسي ترجع إلى الصعوبة الواضحة التي نواجهها عندما نحاول فهم هذه الظاهرة سواء فيما يتعلق بخصوصيتها أو بتنوعها. وبناء على ذلك نشير أنه تم تقديم بعض التفسيرات المهمة في مجال المصطلحات الخاصة بهيمنة عودة الإسلام ، ومن هنا نحن اليوم على وشك التوصل إلى إجماع نسبي فيما يتعلق بالعناصر التالية: 1-إذا كان مفهوم الإسلام السياسي(Islamism) يفرض نفسه شيئا فشيئا ،فهو مع ذلك لم يعد يصلح كلما تجدد معناه –لتغطية جميع المواقف الاجتماعية أو الممارسات السياسية التي ترتبط أو تتأثر بالدين الإسلامي.

ومن أهم المفاهيم التي تم تحليلها و إلقاء الضوء عليها تلك العلاقة المتداخلة بين الإسلام و الإسلام السياسي، وفي هذا السياق نود أن نشير إلى أننا من الممكن أن نكون مسلمين (musulamans) دون أن نكون إسلاميين أي بمعنى الانتماء إلى تيار الإسلام السياسي ،ومع أن هذا التمييز الأول بديهي،فإن عددًا كبيرًا من الناس يجهله. وفى هذا الإطار نود الإشارة إلى المقارنة التي وضعها (راشد الغنوشي) -وهو منظر الإسلام السياسي الرئيسي في تونس- تلك المقارنة بين حداثة حركة الإسلام السياسي وبين قدم الدين الإسلامي في تونس.([4]).

مظاهرات السلفيين في تونس
مظاهرات السلفيين في تونس

ونود التأكيد على أن الحدود التي تفصل بين الإسلام و المؤمنين به من ناحية، و بين مناضلي الإسلام السياسي من ناحية أخري ليست حدودًا مطلقة. كذلك من المصطلحات التي تم إلقاء الضوء عليها علاقة الإسلام السياسي بالتصوف، ومن الأهمية بمكان  هنا أن نوضح أن بعض المراقبين الذين يفتقرون للدقة إلى حد كبير ، يربطون بين الاتجاهات الصوفية المرابطية و بين الإسلام السياسي ، رغم وجود مسافة كبيرة تفصل بين هذه الاتجاهات ، وبين مواقف وممارسات الإسلام السياسي الذي يعترف إلى حد ما بالحداثة. وفي هذا السياق نشير إلى أن منظري الإسلام السياسي يتخذون موقفا متحفظا تجاه التصوف ، فهم يؤاخذونهم على رفضهم الاعتراف بأهمية العمل السياسي، أي على سلبيتهم أمام تدهور الأمة. كما تم إلقاء الضوء على العلاقة بين الإسلام السياسي و الأصولية ، فهناك تمايز جوهري بين الإسلام السياسي و الأصولية ، فعلى عكس التيارات التقليدية تنطلق الأصولية فكريا و منهجيا من نفس أرضية الإسلام السياسي ، و على المستوى المذهبي تعتبر الأصولية هي الإطار المرجعي الأساسي للتيار الإسلامي-ويتم الفصل في كثير من الأحيان بين الإسلام السياسي و الأصولية ، فالأصولية هي الإسلام السياسي إذا افرغناه من بعده السياسي. وتعتبر الأصولية المدخل الطبيعي أو المنبع الأصلي لموقف التيار الإسلامي ، لكن المصطلحات المستخدمة في هذا المجال بعيدة كل البعد عن أن تكون شيئا متفقا ، وفي الواقع يستخدم مصطلح الأصولية للإشارة إلى سلوك ممثلي الإسلام الرسمي و علماء المؤسسات الدينية أكثر مما يستخدم للإشارة إلى سلوك من هم خارج المؤسسات([5]).

ثم يتطرق الحديث إلى علاقة الإسلام السياسي بالخومينية ، وهنا نشير إلى أنه لا يمكننا القول أن ثمة تطابقا تاما بين الإسلام السياسي و الخومينية ، لكن هذا لا يمنع أنهما يتشابهان إلى حد كبير، وربما يمكننا القول أن الخومينية هي قبل كل شئ هذا الإسلام السياسي الذي أحرز نجاحا. وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى أن إيران الخومينية هي فعلا أول دولة باستثناء باكستان استطاع فيه مشروع الإسلام السياسي أن يتولى الحكم بعد أن ظل منحصرا في أشكال الخطاب السري.

الثورة الإسلامية الإيرانية
الثورة الإسلامية الإيرانية

ثم يتطرق الحديث عن الإسلام السياسي في شمال أفريقيا  وكيف أن أهم الطبقات التي شكلت ديموغرافيا شمال أفريقيا هي طبقات ثلاثة –طبقة البربر، وطبقة العرب المسلمين ، ثم طبقة الأوروبيين. ويؤكد المؤلف في هذا السياق على أن التواجد الغربي في تونس و المغرب كان عبارة عن  تدخل اقتصادي ،وعندما وصل هذا التدخل إلى المرحلة العسكرية ، بدأا يأخذ أبعاد السيطرة ، وفي ظل المناخ السياسي و الاقتصادي و الثقافي الذي ساد المجتمعات المستعمرة ، من المؤكد أن سيطرة النظام الجديد تمت بالتدريج على حساب النظام القديم. وفي هذا الإطار نلفت الانتباه إلى أن الإسلام السياسي كان رد فعل تجاه السيطرة التلقائية الغربية. ومن هنا يرى أنصار الإسلام السياسي أن حركات الاستقلال لم تحقق وعودها السياسية و الاقتصادية، ويبدو ذلك بصورة أوضح في المجال الثقافي في انتشار الفرانكفونية و التحدث باللغة الفرنسية([6]).

وإذا كانت هذه الإيديولوجية تنادي بالعودة إلى الأصول فهي أسلوب معارضة، وإذا كان الخطاب الإسلامي في قبضة السلطة إلى حد ما، فهو على وجه الخصوص وسيلة لمقاومتها، و العبارات الدينية التي تتصاعد من المساجد تعبر في نفس الوقت عن رفض الغرب و عن رفض الحاكم العلماني لأنه مهتم بأن يخدم الغرب. وفي هذا السياق نود الإشارة إلى أنه إذا كان الإسلام السياسي يقدم معالجة (للجماعة) فهو يقدم أيضا و بنفس القدر من الأهمية معالجة للاضطرابات الفردية. ونود لفت الانتباه إلى أنه في الإطار المرجعي للإسلام السياسي تتم إدانة التبعية الثقافية باسم نموذج بديل يليق به أن يستعيد مكانته، إذ أن هذا النموذج البديل  يشير بطريقة صريحة إلى حد ما إلى الشريعة والى التراث. وفي هذا السياق يرى فؤاد زكريا أن نقطة ضعف الحركة الإسلامية ترجع إلى عجز مناضلي التيار الإسلامي عن إقامة علاقة لا تشوبها العاطفة تجاه أمجادهم السالفة. وبناء على ذلك نتوصل إلى نتيجة مفادها أن جزءا مما نجهله بخصوص مستقبل الإسلام السياسي يتعلق إلى حد ما بالانتجلنسيا العلمانية ، إذ أن موقفها تجاه المعتقدات الإسلامية أصبح رغم تصلب المواقف التكتيكية –أقل تشددًا عما كان يبدو لنا في وقت ما.([7]).

ثم يعرج المؤلف إلى نقطة محورية وهي إذا كانت التعبئة الإسلامية في دول شمال أفريقيا قد بدأت تتكون بحذر في أوائل السبعينات بعد هزيمة الناصرية ، فلأنها وصلت إلى مرحلة النضج مع نقطة التحول التي تتسم بها الثمانينات، وبذلك خرجت من المرحلة السرية التي كانت تتم في مساجد الضواحي لتصل عن طريق الجامعة إلى الساحة العامة. وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى أنه مازال المسجد من طرابلس إلى مراكش هو الذي يمثل الإطار الأول لتكوين الخطاب الإسلامي، و أول وعاء يستقبله ، فالمسجد كان يقوم بدور المخبأ الذي يحمي أتباع الإسلام السياسي  عندما كانت تتم صياغة الخطوات الأول في طريق النضال (لا أتفق معه في هذه الرؤية لأن المسجد له دور أكبر من ذلك فهو دور تربوي تهذيبي و مركز إشعاع في جميع مجالات الحياة منه تنطلق الجيوش، و يتخرج جيل من العلماء فهو منارة للدين و الحياة) ومن هنا أدركت الحكومات خطورة السماح بالحرية في عقد الاجتماعات داخل المسجد، ولذلك سرعان ما أصبح المسجد هذا المكان الروحي الذي يتمتع بقيمة دلالية عالية ، أحد الميادين التي تمت فيها المواجهة بين الإسلام السياسي و السلطة. ومن هنا أصبح مناضلو التيار الإسلامي و خاصة في الجزائر يقيسون قدرتهم على المناورة تجاه النظام الحاكم بعدد المساجد التي يتم بناؤها([8]).

داعش في الصحراء الكبرى
داعش في الصحراء الكبرى

 ورغم بناء المساجد  لم تتواصل  علاقة ود بين الحكومات و أنصار الإسلام السياسي، إذ سرعان ما لجأت الحكومات إلى تبرير أشكال الرقابة على تلك المساجد، و الرقابة المباشرة على خطبهم . و يجب أن نلفت الانتباه هنا إلى أن وظيفة المسجد هي وظيفة سياسية عند أنصار الإسلام السياسي،وهذا ما أكده عباس مدني ،قائد جبهة الإنقاذ الجزائرية ،”إننا لا يمكن أن ننفي أن وظيفة المسجد وظيفة سياسية حقا”.ولعلنا نشير في هذا السياق إلى أن من أهم أساليب النشاط السياسي الحديث بالنسبة لأنصار تيار الإسلام السياسي هو الانضمام إلى أحزاب و ممارسة الانتخابات و المشاركة فيها .ونود التأكيد على حقيقة تاريخية وهي إذا كانت ظاهرة الإسلام السياسي متجذرة في أرضية مشتركة إلا وهي رد الفعل تجاه الاجتياح الاستعماري، فإن هذا لايمنع أن المواقف تختلف بشكل ملموس، من دولة إلى أخري. ومن هنا نشير إلى أن اختلاف خط سير حركات الإسلام السياسي يرجع قبل كل شئ إلى تنوع الظروف التاريخية التي تم فيها اللقاء مع الغرب، لذا فإن مضمون العلاقات الثقافية مع الغرب ارتبط بالسياسات الاستعمارية، كما ارتبط بالسياسات التي اتبعتها النخبة القومية التي تولت زمام الحكم غداة الاستقلال في البلدان المختلفة. ومن هنا نود أن نلفت الانتباه إلى أن العوامل التي تؤدي إلى استقلالية تيارات الإسلام السياسي لا ينبغي أن تجعلنا نتجاهل وجود اتجاه عكس ذلك، ألا وهو العوامل التي تؤدي إلى التجانس بينها.([9]).

معطيات متباينة

ثم يحلل  المؤلف كيف نشأت تيارات الإسلام السياسي في الجزائر و تونس و ليبيا، ويرى أن جمود سياسة الحزب الواحد في الجزائر،وسياسة نظيره الليبي، بالإضافة إلى تأخرهما في إجراء عملية الانفتاح الأيديولوجي كانت دافعا قويا لظهور تيارات الإسلام السياسي، أما في الجزائر فإن رياح الليبرالية هبت على الاقتصاد إلى النظام السياسي بعد ما يقرب من عشرة سنوات مما أدى إلى نشأة جيل من المواطنين المستبعدين المحبطين. وفي هذا السياق يؤكد أن تيار الإسلام السياسي في تونس يعد من أقدم التيارات الإسلامية في شمال أفريقيا، وهذا يرجع إلى (الشفافية) النسبية التي يتمتع بها التيار التونسي و التي افتقدها نظيراه في الجزائر و ليبيا لمدة طويلة، أيضا من أسباب أهمية التيار التونسي هي قوة هيكله التنظيمي، والإستراتيجية الشرعية التي يتبعها الفرع الرئيسي لهذا التيار . وفي هذا السياق نشير إلى أن اقدمية التيار الإسلامي التونسي بالنسبة لنظرائه في شمال أفريقيا تماثل اقدمية التيارات الإسلامية المصرية و التونسية بالنسبة لخلفائها في بلد المغرب. ونظرا لهذه الأهمية يرى دارسو التيار التونسي، كما يرى الساسة أيضا أنه يمثل حالة نموذجية، لأنه يتجاوز العديد من المراحل التي مازالت التيارات الاخري تجهلها إلى حد ما، بل انه بدا حركته بداية غير مسبوقة عن طريق الطفرة، وساهمت شخصية راشد الغنوشي في إضفاء طابع مرجعي تأسيسي على التجربة التونسية.([10]).

ومما يعضد الطابع الخاص لهذا الموقف خصوصية التثقيف الذي تم في دول شمال أفريقيا في المجال اللغوي بطريقة أكثر تكثيفا مما تم في دول المشرق، و الذي أفرز الإسلام السياسي في شمال أفريقيا.

ثم يتحدث المؤلف بعد ذلك عن علاقة كل من الجزائر وليبيا و المغرب بتيارات الإسلام السياسي،ويشير في هذا السياق إلى أن التيار الجزائري كان خلال مدة طويلة اقل التيارات اكتمالا و اقلها تنظيما، ومن هنا فان أنصار المستقبل ظلوا بالنسبة لجبهة الإنقاذ الإسلامية منحصرين مدة طويلة في إطار السرية ، لا يخرجهم منها سوى الأضواء التي تسلطها عليهم الأنباء المتعلقة بالأحداث. أما عن علاقة المغرب بتيار الاسلامى السياسي فهي علاقة لها خصوصية، وفي هذا السياق نشير الى الخطاب الشديد اللهجة الذي وجهه عبد السلام ياسين  مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان الإسلامية في المغرب إلى  الملك الحسن الثاني، فهو يمثل التعبير الأول للتيار الإسلامي، كما أنه يمثل واحدة من الصياغات الأولى لهذا المذهب على اقل تقدير. هذا إن لم يكن هذا الخطاب مكن التيار الإسلامي من تجاوز دائرة الصمت الإعلامي المضروب حوله.وفي هذا السياق يرى ريمي ليفو انه بعد أن كان الإسلام قوة معارضة ، أصبح غداة الاستقلال قوة تضفي الشرعية على السلطة ، ولم تمنع خصوصية هذه العلاقة بين السلطة و الدين، حدوث عملية علمنة عميقة داخل المجتمع المغربي. أما عن علاقة ليبيا بتيار الإسلام السياسي فهي علاقة خاصة جدا ، وذلك لأن الثراء البترولي، وعملية القضاء على الاستعمار الثقافي الذي قام به العقيد القذافي براديكالية ليس لها مثيل –أدى إلى تأجيل نشأة تيار الإسلام السياسي في ليبيا خلال مدة طويلة . وفي هذا السياق نشير إلى أن ممارسات نظام الحكم الليبي قد استبقت في مجالات عديدة مطالب الاتجاه الإسلامي، وبذلك احتلت أصولية الدولة كل الأرضية التي قد تحتلها أصولية المعارضة([11]).

القذافي
القذافي

ثم في الخاتمة يتوصل المؤلف إلى مجموعة من النتائج لعل من أهمها: وجود معطيات سياسية تشهد بوجه عام على ديمومة كبرى لأنظمة المغرب و العالم العربي، وهذه الديمومة هي قبل كل شئ ثمرة نزعة سلطوية متصلة تتميز بها هذه الأنظمة. أيضا من أهم النتائج وجود تطورات داخلية خاصة بالحركات الإسلامية  عندما تكون في السلطة (خاصة في إيران و في السودان) وهذه التطورات ذات طابع تكتيكي من جهة، لكنها أيضا مذهبية. وهناك أخيرا تطورات في الإدراك الأكاديمي الغربي، فقد ظلت التيارات الإسلامية موضع افتنان متصل من جانب مؤسسات بحوث غربية ، وما يظل سائدا لوقت طويل هو الأطروحة التي تتحدث عن ظاهرة ذات طابع مرضي فقط. وأيضا من النتائج المهمة انه عندما يجري إضفاء الشرعية على بعض التشكيلات الإسلامية الثانوية(مصر-الجزائر –المغرب) فإن ذلك لا يكون إلا بهدف التغطية بشكل أفضل على استبعاد التشكيلات الأكثر إزعاجا بينها([12]).

وفي الخاتمة أيضا يتوصل إلى ان ميراث المعارضة الإسلامية قد تأثر بشكل منطقي جدا بطبوغرافيا ساحات السياسة المتباينة جدا من بلد إلى آخر . وفي هذا السياق نشير إلى أنه في داخل التيارات الشرعية ، ليست المواقف المذهبية موحدة وحدة صخرية متجانسة ، علي سبيل المثال تشددات الحرس القديم للإخوان المسلمين(خاصة المصريين) إنما تتباين في مكون آخر لهولاء الإخوان المصريين أنفسهم وعند راشد الغنوشي و عند عبد السلام ياسين، ولكن أيضا عند عادل حسين أو فتحي يكن، مع مواقف إصلاحية بشكل واضح. وفي الخاتمة أيضا نود الإشارة إلى نقطة محورية وهي تداخل التيارات الإسلامية مع قيم الحداثة المعاصرة ، وليس أدل على ذلك من رفض راشد الغنوشي مبدأ الحكم بالإعدام على المرتدين، و لكن مع الأخذ في الاعتبار أن الحداثة الغربية ليست مقبولة بصفة مطلقة من دون شرط ، بل لابد أن يكون هناك قيود لقبول تلك الحداثة الغربية. من هنا يدعو المؤلف إلى استعادة الثقافة الإسلامية دورها في إنتاج الحداثة العالمية، و أن يكون هذا الدور فعال. وهذا يتطلب تحولات كبيرة من جانب الإسلاميين ، كذلك من جانب الغرب، وهذا يتطلب الخروج من الأشكال المتوازية للانحرافات المتمحورة حول العرف والتقاليد، والمبادرة بالفعل في حالة الغربيين ، والتي تشكل رد فعل في حالة الإسلاميين. كل هذا سيدفع الثقافة الإسلامية للمشاركة في إنتاج الحداثة المعاصرة([13]).

الدكتور/عماد الدين إبراهيم عبد الرازق-أكاديمي مصري

[1]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب،ترجمة.د.لورين ذكري،مراجعة د.نصر حامد أبو زيد، دار العالم الثالث،ط2،القاهرة،2001 ،ص17.

[2]-حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، مكتبة مدبولى،القاهرة،1991،ص35 .

[3]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب، ص20 -22.

[4]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب،ص33.

[5]-فرانسوا بورجا : الاسلامى السياسي صوت الجنوب،ص56 .

[6]-ريشار جاكمون:الترجمة والهيمنة الثقافية،مجلة فصول، صيف 1992 ،ص45.

[7]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب،ص93-90 .

[8]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب،ص107-109.

[9]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب، ص117 .

[10]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب، ص176.

[11]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب، ص326-330.

-[12] المرجع السابق:ص350.

[13]-فرانسوا بورجا: الاسلامى السياسي صوت الجنوب، ص370.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock