رؤى

كوبا وأفريقيا.. رفاق السلاح

في مطلع التسعينات من القرن الماضي ، وعقب إطلاق سراحه من سجن دام نحو ٢٧ عاماً٫ اختار المناضل الجنوب أفريقي- والرئيس لاحقاً- نيلسون مانديلا كوبا كأول وجهة له لزيارة خارجية.

كان الخيار مفاجئًا للبعض في الولايات المتحدة وأوروبا٫ لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لمن يعرفون تاريخ الثورة الكوبية وعلاقتها بحركات التحرر في القارة الافريقية.

بدأت علاقة كوبا- التي يُشكل ذوو الأصول الأفريقية أكثر من عشرين في المائة من سكانها- مع ثورات افريقيا بعد عام واحد من انتصار ثورتها في مطلع ١٩٥٩.

حيث آمن قائد الثورة فيديل كاسترو بضرورة مد يد العون الى ثورات ما يُعرف بالعالم الثالث بشكل عام وأفريقيا بشكل خاص التي كانت شعوبها تناضل آنذاك للتخلص من استعمار أوروبي دام قروناً عدة.

وترجم كاسترو ذلك بإرسال مساعدات طبية وعسكرية إلى الجزائر عقب نيلها الاستقلال عام ١٩٦٢.

في أزمة الكونغو

وكانت بداية التدخل العسكري الكوبي في أفريقيا مع أزمة الكونغو مطلع الستينات التي أسفرت عن إقالة واغتيال رئيس الوزراء المنتخب باتريس لومومبا على يد نظام الجنرال موبوتو المدعوم من كل من الولايات المتحدة وبلجيكا٫ المستعمر السابق للكونغو.

أحدث اغتيال لومومبا صدى واسعاً في دول عدة٫ لكن في الكونغو ذاتها٫ أدى إلى نشأة حركة مقاومة مسلحة لنظام موبوتو بقيادة عدد من أنصار لومومبا٫ وبحلول عام ١٩٦٤ تمكن الثوار من السيطرة على مساحة واسعة من البلاد٫ وهو ما أقنع كاسترو بإرسال مجموعة دعم عسكري بقيادة رفيق دربه وثورته الأرجنتيني أرنستو “تشي” جيفارا  إلى الكونغو.

الا ان جيفارا ومن قادهم من الكوبيين لم ينجحوا في مهمتهم خاصة مع الدعم الهائل الذي تلقاه نظام موبوتو من الولايات المتحدة ودول أوروبية عديدة اضافة الى ارسال النظامين العنصريين في كل من جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي حالياً) عناصر من المرتزقة لنجدته.

إلا أن هذا الإخفاق لم يغير من قناعة كاسترو بضرورة دعم الثورات وحركات التحرر الأفريقية٫ وسرعان ما تلقى مناضل افريقي اخر دعما كوبياً وهو اميلكار كابرال الذي قاد حركة المقاومة في غينيا بيساو ضد الاستعمار البرتغالي٫ وحصلت هذه الحركة على تسليح وتدريب كوبي٫ اضافة الى مشاركة عدد من المقاتلين الكوبيين في المعارك.

 تحرير أنجولا

ومع نيل عدة دول افريقية استقلالها عن البرتغال منتصف السبعينيات٫ ألقت كوبا بثقلها خلف إحدى هذه الدول وهي أنجولا، وتحديداً الحركة الشعبية لتحرير أنجولا ذات التوجه اليساري بقيادة أوغستينو نيتو التي دخلت عقب الاستقلال في صراع عنيف مع فصائل اخرى مدعومة من الولايات المتحدة ومع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا المتاخمة لها على الحدود.

وبحلول عام ١٩٧٥ زاد كاسترو من إلحاحه على الاتحاد السوفيتي لإرسال مساعدات لحلفائه في أنجولا وهو ما رفضه القادة السوفييت٫ فقرر كاسترو التحرك بشكل مستقل عن موسكو وإرسال قوات كوبية الى انجولا بداية من أغسطس من ذلك العام.

تدفقت القوات الكوبية على أنجولا في الوقت  الذي بدأت فيه قوات جنوب افريقيا هجومها عبر الحدود وبحلول نوفمبر عام ١٩٧٥ تواجه الطرفان : كوبا وحلفاؤها ونظام الفصل العنصري وحلفاؤه في معركة كويفانجوندو التي أسفرت عن هزيمة قوات النظام العنصري.

استمر الصراع في انجولا حتى أواخر الثمانينات وبحلول عام ١٩٨٨ تجدد القتال بين القوات الانجولية وبين فصيل مدعوم من الولايات المتحدة هو “يونيتا” جنوب البلاد وهو ما دفع قوات نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا للتدخل من جديد لدعم يونيتا.

هنا للمرة الثانية على التوالي٫ قرر كاسترو إنقاذ حلفائه دون مشورة موسكو٫ وزاد عدد القوات الكوبية الموجودة في انجولا الى ٥٥ ألف مقاتل.

وفي صيف ١٩٨٨ تواجه الطرفان مرة أخرى في معركة كويتو كوانافالي التي وصفها بعض المؤرخين بأنها شهدت أكبر معارك للدبابات في القارة الافريقية منذ الحرب العالمية الثانية.

استمرت المعركة عدة أشهر دون نتيجة حاسمة وإن كان كلا الطرفين قد أعلن النصر بشكل منفرد٫ وأدى هذا الجمود العسكري الى مفاوضات بين الطرفين تم التوصل فيها الى حل وسط: حيث تعهدت كوبا بسحب قواتها من أنجولا في مقابل سحب جنوب افريقيا قواتها من كل من أنجولا وناميبيا ومنح شعب هذه الأخيرة الذي كان يرزح تحت حكم النظام العنصري حق تقرير المصير.

تضحيات حقيقية

انسحبت القوات الكوبية من أفريقيا بحلول عام ١٩٩١ بعد أن قدمت للقارة السمراء ١٥٠ ألف كوبي ما بين قتيل وجريح وبعد أن ساهمت في تحرير عدة دول افريقية من بينها : غينيا بيساو وموزمبيق وأنجولا٫ ناهيك عن المساهمة في اسقاط النظام العنصري في جنوب أفريقيا عبر إلحاق هزيمة عسكرية به وهي الهزيمة التي رأى فيها مانديلا في سجنه دفعة قوية لصالح المناضلين السود ضد النظام العنصري.

لذلك٫ لم يكن مشهد نيلسون مانديلا في العاصمة الكوبية هافانا مصافحاً فيديل كاسترو و موجها له الشكر على دعمه لقضية شعبه أمراً مستغرباً لمن يعرفون هذا التاريخ الطويل من الدعم الأممي الذي قدمته كوبا٫ ذلك الدعم الذي لخصه قائد القوات الكوبية في انجولا في جملة بليغة حين قال: “كنا القوة الوحيدة التي أتت الى القارة ولم تخرج منها بأي من خيراتها٫ لم نخرج من افريقيا بذهب أو بماس٫ لم نستخرج من ارض افريقيا سوى جثامين رفاقنا التي عدنا بها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock