رؤى

بين الخوف والحُب

على أحد مواقع التواصل الاجتماعي المخصصة لعرض وتبادل مقاطع الفيديو، طالعني عنوان لمقطع فيديو بدا لي لافتاً٫ كان من الواضح أنه فيديو يصور خطبة ل”داعية ” ما ..لا أعرفه٫ وكان العنوان يشي بأن موضوع الخطبة  حافل بالترهيب بل إن صاحب الفيديو لم ينس أن يضيف تحذيراً الى العنوان “ليس هذا لأصحاب القلوب الضعيفة” وكأنه يبشر  من سيشاهد الفيديو ويسمعه  مسبقاً بما ينتظره.

ثقافة الترهيب

لم يثر لا العنوان ولا التحذير دهشتي٫ إذ يمثل الترهيب ركناً أساسياً من ثقافة تم تكريسها على مدار عقود٫ ثقافة تعتبر أن الخوف.. والخوف وحده كفيل بأن يجبر الفرد على التقرب الى الخالق وهجر ما يعتبره أصحاب هذا الخطاب معاصيَ وخطايا.

وبالتالي يسرف دعاة هذا التيار – إذ صح الوصف- في خطبهم في ذكر كل ما من شأنه ان يثير الذعر ويُرجف القلوب سواء كان حديثهم عن الجحيم أو العذاب أو العالم الآخر…الخ٫ كما أن هذا الخطاب الذي يُصوَّر على أنه خطاب ديني يحتفي وبشدة بالخائفين ويختار عمداً من قصص التاريخ قصص التابعين الذين تصورهم كتب التراث وهم يرتجفون خوفاً ورهبا  حين يقيمون الصلاة أو حين يرفعون اكفهم بالدعاء ويعتبر أصحاب هذا الخطاب أن هذه الصورة صورة ايجابية ويحثون مستمعيهم ولاسيما من جيل الشباب على الاقتداء بها.

انتشار التنفير من الدين بسبب الغلاظة في الدعوة
انتشار التنفير من الدين بسبب الغلاظة في الدعوة

على المستوى الشخصي٫ لا أعتبر أن هذه الصورة ايجابية على الاطلاق٫ فمن يُشَّدُ الى الله تعالى شداً بدافع الخوف سينتهي به الحال في أغلب الظن إلى أن يكون شخصاً ضعيفاً مهتزاً لا يمكن أن يُعول عليه في بناء الوطن او دفعه قُدماً الى الامام.

إذ كيف يمكن لمن يخشى الإقدام على أي خطوة خوفاً من أن يقع فيما يعتبره حراماً ويجلب عليه سخط الخالق تعالى أن يقود بني وطنه وهو ما يحتاج بالضرورة حسماً وقوة وجرأة في اتخاذ القرار؟

كما أنني أعتبر أن تأسيس علاقة الفرد مع الخالق على الخوف أمراً شديد الخطورة، فهي تصور الخالق تعالى وكأنه ساخط أبدا ، غاضب دوماً٫ لا يتغاضى عن أية هفوة مهما كان حجمها٫ يرقب عباده بعين الريبة ويسجل ملائكته خطاياهم حتى يلقوا بهم في الجحيم!

وهي صورة أبعد ما تكون عن تلك التي رسمها المولى تعالى لذاته العلية في كتابه الكريم٫ فهو الرحمن والرحيم والغفور و”غافر الذنب” و”قابل التوب” وهو الذي يوصي عباده ألا ييأسوا من رحمته أبداً حتى وإن أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والذنوب أي أكثروا منها : ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (الزمر ٥٣).

وهو الذي غفر لأبي البشرية آدم خطيئته الأولى حتى قبل نزوله إلى الأرض حين استغفر الأخير لذنبه “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (البقرة ٣٧).

لكن  دعاة التخويف والترهيب لا يذكرون الرحمة ولا الغفران  إلا فيما ندر٫ إذ لا يبدو أن لهذه الكلمات مكاناً في معجمهم الذي تملؤه مفردات العذاب والتنكيل.

درجات الحب العليا

وأغلب ظني- وقد أكون مخطئاً- أن التصوف الاسلامي نشأ ولو بشكل جزئي كرد فعل على دعاة الترهيب .

إذ يحمل التصوف الإسلامي في طياته رفضاً لفكرة أن يساق البشر إلى خالقهم بدافع الخوف ويطرح بدلاً من ذلك الحب كأساس وعماد للعلاقة بين الإنسان وخالقه.

ويتجلى هذا الفهم في قول أحد شعراء الصوفية مناجياً ربه أن يعبده لذاته العلية لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وهو ذات المعنى الذي ذهبت إليه شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية في قولها :

” احبّكَ حُبَّينِ حُبَّ الهَوَى

                         وحُبّاً لأنكَ أهْلٌ لِذَاكَ

فَأمَّا الذِي هُوَ حُبّ الهَوى

                  فشُغْلِي بذكرِكَ عمَّنْ سِوَاكَ

وأمَّا الذِي أنْتَ أهْلٌ لَهُ

               فكَشْفُكَ لِي الحُجْبَ حتَّى أرَاكَ”

ويُعرِّف الإمام أبو حامد الغزالي العشق الإلهي بقوله: (فاعلم أن مَن عَرَف الله أحبَّه لا محالة، ومَن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته، والمحبة إذا تأكدت سُميت عشقًا، فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة”.

هذا الحب هو غالباً ما يدفع الصوفي لمناجاة الخالق مناجاة المحب لا مناجاة الخائف المرتعد٫ ووصف العبادة بأنها لقاء للمحبوب وبطبيعة الحال فإن الحبيب لا يذهب للقاء محبوبه خاىفاً بل سعيداً فرحاً مشتاقاً ومقبلاً على هذا اللقاء وهو لا يتجنب المعاصي خوفاً من النار والسعير بل خوفاً مما يُعده أسوأ من هذا كله وهو إغضاب المحبوب وهو أمر لا يطيقه على الاطلاق أو كما قال الشاعر: “وليتك ترضي…والأنام غضاب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock