نقلًا عن صفحة دكتور عاطف معتمد (أستاذ الجغرافيا الطبيعية المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة) على الفيسبوك
بينما العالم مخطوف بحرائق في الجزائر واليونان، وألومبياد في اليابان، وحرب أهلية في منابع النيل الحبشية، يسدل الستار على رحلة عشرين عاما في غزو واحتلال دولة ملعونة بموقعها الجغرافي في وسط الجنوب الأسيوي.
في 11 سبتمبر المقبل تحل ذكرى مرور 20 سنة على ما عرف بأحداث سبتمبر التي اتخذتها الولايات المتحدة ذريعة لتخريب عدة دول في العالم في مقدمتها أفغانستان.
الرئيس الأمريكي الجديد نفذ أحد وعوده الانتخابية بسحب الجيش الأمريكي من العراق وأفغانستان.
على مدار الشهر الماضي أتابع أخبار مراحل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. جاءت الولايات المتحدة لهزيمة ودحر جماعة طالبان المتهمة بالإرهاب وتجارة المخدرات واضطهاد المرأة والعداء للآثار والثقافة، بعد عقدين كاملين تنسحب الولايات المتحدة تاركة طالبان تستعيد البلاد فصارت حتى تاريخ كتابة هذه السطور تسيطر على نصف مساحة البلاد الهائلة، وكأن شيئا لم يتغير: فلماذا كان الغزو والحرب والتدمير على مدار 20 سنة؟!
السؤال الأخير يحتاج إلى تفصيل جيوبوليتيكي نقرأ فيه علاقات الدول الإقليمية خاصة باكستان وإيران ودور روسيا عبر دول آسيا الوسطى، نقرأ فيه حقيقة الاندفاع الأوروأمريكي لـ “ملء الفراغ” في آسيا الجنوبية بعد خواء في القوى الدولية بانحسار الاتحاد السوفيتي قبل 30 عاما، نقرأ فيه خرافة “الإرهاب الإسلامي” المصنوع والممول على عين أربابه، وكلفة الحرب ونتائجها.
ولعل أهم ما نقرأ هو الخريطة العرقية/الدينية لأفغانستان لأنها تقوم على واحدة من مشتركات العالم العربي والإسلامي المتمثل في تشرذم الانتماءات على هويات مذهبية وعرقية وقبلية.
مدرسة الصحافة المحترفة في العالم تقدم الأخبار بوضع الهامش مكان النص الأصلي فلا تحدثك عن انسحاب الدبابات والطائرات بل عن قصص تبدو تفصيلية في الهامش لا في المركز.
على هذا النحو تتابع شبكة BBC نشر سلسلة مقالات عن مشكلة تخلي الولايات المتحدة عن المترجمين الذين عملوا معها في الحرب، كلما استعادت طالبان مدينة قامت بتصفية واغتيال أحد هؤلاء المترجمين عقابا له على “خيانته”.
من الطرائف التي في غير موضعها اعتبار المترجم في الأوساط الأدبية خائنا للنص لأنه لا يفلح أبدا في نقل المحتوى الأصلي إلا بتحريف وزيادة ونقصان وتبديل في المعاني أحيانا، لدرجة قيلت فيها العبارة الشهيرة “أيها المترجم..أيها الخائن”.
لكن العبارة السابقة قيلت في أجواء السلام والصالونات الثقافية على المقاعد الوثيرة الفخيمة، أما تهمة الخيانة بمعناها الدموي الثأري فتلاحق المترجمين الأفغان اليوم بضرب أعناقهم حقا لا مجازا.
كشفت الولايات المتحدة عن وصول 200 مترجم إلى أراضيها في الأيام الأخيرة إنقاذا لهم من التصفية الطالبانية وتقديرا للعمل في خدمة الجيش الأمريكي لنحو 20 سنة.
المدهش أن الأرقام المعلنة تشير إلى أن هناك 50.000 مترجم ينتظرون الحصول على تأشيرات وإذا أضفنا إليهم عوائلهم وأسرهم فإن الرقم قد يتضاعف إلى 100 ألف إنسان أفغاني.
تأخذك الدهشة: خمسون ألف مترجم؟! هذا رقم كتيبة عسكرية كاملة وليس عدد من المتعاونين بالترجمة. ما لم تقله الأرقام أن هؤلاء المترجمين كانوا يحملون السلاح أيضا حماية لأنفسهم ويشاركون في مهام الاستطلاع والتواصل مع السكان المحليين وتقديم المعلومات إلى الجيش الأمريكي.
القصص التفصيلية لكل مترجم تبدو أصعب من التعميم السطحي بلجوء مترجم إلى خيانة وطنه طمعا في مقابل مالي. الموضوع أعقد من ذلك فخريطة الأعراق والمذاهب في أفغانستان بالغة التشابك ومستويات الولاء والوطنية ومفاهيم الخيانة والعمالة والشرف جد مختلطة.
أفغانستان تشبه بلادا كثيرة في عالمنا العربي والإسلامي: هويات متشرذمة، وتحالفات متنقلة، وتدخل أجنبي سافر، ومبالغة خرافية في استغلال الدين فضلا عن الداء العتيد في التخاصم مع الديموقراطية وتداول واقتسام السلطة، هذا الداء الاستبدادي لا يعانيه فقط المسؤولون في السلطة العليا بل في الجامعة والمدرسة والشارع: حياة مسكينة منقوعة في الاستبداد وتفوح منها رائحته.
السؤال الذي وضعته عنوانا للمقال ” المترجم…خان أفغانستان أم أنقذها ؟!” لا ينتظر إجابة، فخيانة المترجم هنا ليست مطروحة للسؤال،
السؤال الأوقع: لماذا فعل المترجم ذلك؟ ما الذي أجبره على التعاون مع الغزاة؟ كيف وصل العدد إلى خمسين ألفا، هل ينتظرون وعدا كاذابا بتأشيرة سفر للحلم الأمريكي؟ أم يكون مصيرهم التصفية والاغتيال على يد طالبان؟
أفغانستان: وطن عظيم كان يمكن أن يكون زهرة نوَّارة في آسيا الجنوبية فأضحى خرابا بيد أبنائه وأعدائه على حد سواء.