يطرح هذا الكتاب إشكالية محورية شغلت الفكر السياسي الإسلامي منذ نشأته إلى الآن وهي جدلية العلاقة بين الديني و السياسي في بناء و تشكيل الدولة الإسلامية ، وفي هذا السياق يتم طرح سؤال محوري : هل تم إقامة الدولة الإسلامية في العهد النبوي خصوصًا على عامل الدين فقط أم السياسة أم عليهما معا؟ يتبنى هذا الكتاب فكرة بناء الدولة الإسلامية على العامل السياسي و الديني، لذا لا يجوز الفصل بينهما، خصوصا أن النبي صلي الله عليه و سلم جمع في سلطته الجانبين السياسي و الديني، فقد كان النبي(ص) رئيسا للدولة بالمفهوم السياسي يقود المعارك ،يعقد الاتفاقات و المعاهدات وغيرها من الأفعال والأمور السياسية،إلى جانب كونه يوحَى إليه. وقد صدر هذا الكتاب (النبوة و السياسة) عن مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت،ط1،2005.ويشمل مقدمة و ثمانية فصول و خاتمة،
تطرح المقدمة فكرة قيام الجماعة السياسية في الإسلام، وكيف أنها امتدت إلى ما بعد وفاة الرسول، وكيف أن وفاته(ص) كشفت عن سهولة تفكك نسيج الجماعة الداخلي(حروب الردة و غيرها) ويجب الإشارة في هذا السياق إلى أن العلاقة بين الديني و السياسي ظلت تفرض نفسها على الجماعة الإسلامية إلى اليوم. ثم تطرقت المقدمة للحديث عن المصادر الكلاسيكية للسيرة النبوية، وكيف أن كل محاولة لإعادة التفكير في السيرة النبوية تتبعها محاولة لإعادة بنائها في الوعي على مقتضى مقدمات موجهة سواء كانت هذه المقدمات معلنة أو مضمرة، ومن ثم عندما يكون الهدف بيان تداخل السياسي مع الديني في السيرة ،هنا فقط تبدو المقدمات والفرضيات التأسيسية أوضح في مقاصدها، وهذه المحاولة تقدم نفسها كمحاولة لإعادة تأسيس صلات الوصل بين وقائع السيرة بما يجعلها سيرة سياسية في جانب كبير من حوادثها([1]).
وبناء على تلك المحاولة سنجد أنفسنا أمام ثلاثة أنواع من المصادر تمثل المدونة الإجمالية للأثر المكتوب حول السيرة : 1-المصادر الكلاسيكية للسيرة،أي كتب السيرة التقليدية. 2-المصادر الغربية(الاستشراقية) الحديثة و المعاصرة.
3-المصادر العربية الحديثة و المعاصرة ،وفي هذا السياق تمثل المصادر الكلاسيكية الإسلامية المخزن الأساسي للمعلومات(الروايات و الأخبار) مادتها المرجعية. واستنتاجا مما سبق يتوصل المؤلف إلى نتيجة مفاداتها أن السيرة النبوية هي أوضح و أطول سيرة بين سير جميع الرسل و الأنبياء، وهذا الوضوح يتمثل في فيض الروايات عن يوميات النبي و تفاصيلها بعد البعثة ، أما من جهة طولها فلأنها استغرقت قرابة ثلث عمر النبي في مرحلة دعوته([2]).
ويجب الإشارة هنا إلى حقيقة مهمة و هي تأخر تدوين وقائع السيرة النبوية، و السبب في ذلك يرجع إلى تأخر عملية التدوين نفسها في مجالات المعرفة العربية الإسلامية كافة. ومن هنا فإذا كان تدوين السيرة قد تأخر لمدة مائة عام علي وفاة الرسول، فلأن مسائل الصراع علي السلطة والدولة تأخرت إلى عهد قيام الدولة الأموية (وأنا لا اتفق مع هذا الطرح لأن الصراع على الدولة و الحكم بدأ مباشرة عقب وفاة النبي،وخير شاهد على ذلك ما حدث في سقيفة بني ساعدة) ويشير إلى أن القول و الفعل النبويين (السنة) هما مادة تلك السيرة،وبالتالي فان تدوين السيرة سيكون لاحقا على جمع الأحاديث النبوية و التدقيق في صحة نسبتها إلى الرسول.ويجب الإشارة إلى أن هذا التأخر في تدوين السيرة النبوية نتج عنه مشكلات عدة على صعيد صدقية ما نقله كُتَّاب المغازي و السير و الإخباريون عن العهد النبوي، ودقة روايتهم و أسانيدهم فيها. وفي ختام تحليل تلك المصادر الكلاسيكية الأساسية للسيرة النبوية ينتهي هذا التحليل إلى وجود موقفين: الموقف الأول يستند إلى منطلقات اجتماعية-سياسية ويذهب إلى القول بالحاجة للتعامل مع تلك المصادر بوصفها مادة مرجعية مقبولة. الموقف الثاني يستند إلى مقدمات معرفية ترى أن فحوص تلك المصادر و معيار ودرجة الحجية العلمية و الأمانة التاريخية ، يمثلان المدخل الأنسب إلى إعادة التفكير في السيرة([3]).
الدين والدولة . في صدر الإسلام؟
ثم يستعرض الكتاب بالتحليل المسالة السياسية في إسلام الصدر الأول بين النص و الاجتهاد، وهنا يشير المؤلف إلى أن المسلمين لم يتوقفوا طيلة تاريخهم المديد عن إنزال مسائل السياسة و الدولة و السلطان السياسي منزلة الموضوع الأجدر بالعناية،ومن هنا لا نستطيع أو يتعذر علينا وعي الفارق الزمني و الديني في جماعة المسلمين. وفي هذا السياق هناك سؤال ملح وهو ما الموقع الذي احتلته المسالة السياسية في الإسلام نصا و تجربة تاريخية، وكيف وعاها المسلمون الأوائل في صدر الإسلام؟ بداية يشار إلى الإسلام عادة على أنه رسالة دينية و مشروع سياسي في نفس الوقت، وقد كرس تلك الصلة بعمق بين السياسي و الديني صعود الصحوة الإسلامية منذ الحرب العالمية الثانية،وقيام دولة باكستان على الفكرة الدينية،كما أن هذه الصلة بين السياسي و الديني قد ترددت أصداء الوعي الإسلامي المعاصر بها في كتابات رشيد رضا –المودودي –سيد قطب،بحيث بات مألوفا أن يتم تعريف الإسلام بأنه دين ودولة( اعتقد من وجهة نظري أن هذه الفكرة كانت منذ عهد النبوة وما بعده في عهد الخلفاء الراشدين،لأن الإسلام جمع أيضا بين السياسي و الديني) وهناك سؤال آخر لا يقل أهمية عن المسالة السياسية، وهو سؤال يدور حول مركزية المسألة السياسية في الإسلام ؟ و الإجابة تتضمن القول أن تلك المسألة السياسية كانت رئيسية في الإسلام منذ بداياته، وهذا من خلال وجوه ثلاثة: أولا لأن الرسالة تحتاج إلى جماعة سياسية تحملها. ثانيا تحتاج إلى سلطان سياسي يوطدها و ينطق باسمها. ثالثا فرضت نفسها على المسلمين منذ اليوم الأول لغياب قائد كيان المسلمين في المدينة رسول الإسلام إليهم([4]).
وفي هذا الاتجاه ينبغي أن نشير إلى أن الإسلام المدني أرهص بتحويل الجماعة المكية التي تكون وجدانها الاعتقادي في الإسلام المكي ابتداء، وتعمق في تجربة الهجرة إلى المدينة- إلى جماعة سياسية، وبناء على ذلك لم يكن التحول تفصيلا عاديا في تاريخ الرسالة فحسب، بل كونه نقل الجماعة الإسلامية من الاجتماع الديني إلى الاجتماع السياسي. كل هذا مهد الطريق إلى إعادة تأسيس الإسلام من حيث هو رسالة إيمانية و مشروع سياسي في تلازم عضوي غير قابل للانفكاك من حيث هو دين و دولة. ثم يحلل بعد ذلك جدلية العلاقة بين السياسي و الديني بعد فترة النبوة أي بعد وفاة النبي، وما حاجة الرسالة إلى سلطان سياسي يحفظها و يضمن لها الاستمرارية، والسؤال إذا كان هناك تضافر بين السياسي و الديني قد تحقق في العهد النبوي ،فكيف بعد أن بات مصير جماعة المسلمين مرهونا بتدبيرهم لأنفسهم بعد انقطاع الوحي و غياب منصب النبوة(لا اتفق مع هذا المصطلح منصب النبوة لأنها ليست منصبا سياسيا،بل اصطفاء الهي) والإجابة على ذلك السؤال أن الدعوة في عز سلطة الوحي و مرجعية النبوة، كانت في حاجة إلى سلطان سياسي ينتظم بها حالها، أما بعد غياب النبي و انقطاع الوحي، باتت الدعوة بحاجة مضاعفة الى ذلك السلطان السياسي الذي به تستوي و تنتشر([5]).
وبناء على ذلك فإن التجربة النبوية في دولة المدينة كانت هي النموذج الذي يستمد منه المسلمون فكرهم عن السلطان السياسي و الديني ، لذا عندما حدثت متغيرات اجتماعية و سياسية بعد حقبة النبوة اقتضى ذلك مقاربة آخري للمسألة السياسية ، كان الاجتهاد فيها مع وجود النص الديني(آيتي الشورى) الأداة التي حل بها إعضال الخلافة. ويؤكد في ذلك السياق ان نصوص الإسلام لم تصنع دولة لأنها لم تشرع لاجتماع سياسي، لكن المسلمين صنعوا تلك الدولة، كما أن مجال السياسة في الإسلام نشأ بعيدا عن أي قداسة دينية(لا أوافق علي تلك الرؤية لان الدولة في الإسلام قامت بتوجيه و إرشاد من قواعد الشريعة و آيات القران و أحاديث الرسول،بل إن الاجتهاد أحيانا كان مرتبطا بالنص أو يدور حول روح النص) ويرى أن نظام الاجتماع السياسي الإسلامي وظيفته تتمثل في إعادة إنتاج الاجتماع الديني ، أي إعادة إنتاج الجماعة و الآمة([6])
من هنا يتضح لنا تلازم و تلاحم السياسي والديني في بواكير الإسلام و خصوصا في دولة المدينة، ومحاولة الحفاظ على هذا التلازم في عصر الخلفاء الراشدين.
ويتبنى المؤلف الفرضية القائلة أن السياسة بحثت لنفسها عن شرعية جديدة بعد غياب الشرعية النبوية ، وهذا له ما يبرره من التاريخ، وهو تاريخ المسلمين في حقبة الخلافة الراشدة وما تلاها من أحقاب، ولم يكن الذي بررها سياسيا دائما منفصلا عن الدين. لذا هناك فكرتان أساسيتان حكمتا نظرة المسلمين إلى أنفسهم و إلى دورهم في التاريخ هما: فكرة الجماعة ،وفكرة الفتح الإسلامي. ويشير في هذا السياق إلى حقيقة مهمة وهي أن وقائع التطور التاريخي التي عاشتها الجماعة الاعتقادية الإسلامية قادت إلى رفع درجة الحاجة الجماعية إلى الدولة و السلطان السياسي إما لتحقيق الرسالة عبر الفتوح، أو لترجمة الجماعة الاعتقادية الى جماعة سياسية. وبناء على ما سبق من هذه المقدمات نتوصل إلى حقيقتين أولهما: أن الديناميات السياسية الذاتية في الاجتماع الإسلامي كانت كبيرة بحيث قادت إلى تكوين جماعة سياسية، ثانيهما: أن السياسة في التجربة الإسلامية لم تكن تقدم نفسها ، كممارسة فقط، وإنما أيضا كموضوع لتفكير سيفضي بالمسلمين إلى تأسيس مجاله المعرفي من الفقه إلى نظرية الخلافة([7]).
ثم يتطرق حديث المؤلف عن فرضية تبدو بديهية و هي أن الرسالة أو الدعوة المحمدية هي دعوة دينية توحيدية، وفي هذا السياق فإن الدعوة حُملَت على عدة دعائم كان منها الحامل السياسي، لذا يؤكد أن التجربة النبوية حملت بداخلها مشروعا سياسيا. يجب أن نعيد اكتشاف هذا الوجه السياسي من الدعوة و السيرة النبويتين، ويتم ذلك من خلال تقصي بعض تجلياته فيهما، وهناك لحظتان يجب التركيز عليهما في هذا السياق: اللحظة الأولى لحظة الدعوة، الثانية لحظة الإنشاء و البناء للجماعة الإسلامية المدنية. ومن أجل ذلك سوف يتم التركيز علي الدعوة إلى التوحيد .. و التوحيد بالدعوة.وفي هذا السياق يلفت الانتباه إلى أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يجهلون وجود الله ، وهذا واضح من خلال إشارة القرآن في أكثر من أيه تدعو إلى التوحيد، بالإضافة إلى أنهم يسمون بعض أبنائهم باسم عبد الله،ومن هنا لم تكن رسالة التوحيد إذا تعريفا بالله في وسط عربي يجحده و إنما توحيد له. ويتوصل إلى نتيجة مفادها أن تعبد محمد قبل البعثة في غار حراء يمثل هجرة للموروث الديني الوثني عند قريش ، ثم الوحي ونزوله على الرسول يمثل هجرة ثانية مع الموروث القرشي الوثني ، كل هذا ترتب عليه أن تكون الدعوة توحيدية([8]).
وبناء على ذلك يجب الإشارة إلى أن الدعوة إلى التوحيد أخذت الشطر الأكبر من العمل النبوي في مكة،وفي هذا السياق فإن التوحيد الديني،ليس فعلا متعاليا عن الاجتماعي و السياسي بل متصل بهما اتصال العلة بالمعلول، ولقد أنتج أمة روحية خلال حقبة الدعوة وما بعدها،لكنه في الأثناء فتح الطريق أمام تأسيس اجتماع سياسي هو الأول في تاريخ العرب. ثم يشير إلى أن أحد الوجوه البارزة للسياسة في المجال الديني هي الحرب ،فالحرب فعل من أفعال السياسة في تجربة الدعوة(وأنا أتحفظ على هذا الطرح لأن القتال و الحرب جاء من خلال توجيه قرآني في حالة رد و صد العدوان عن المسلمين) كما كانت الحرب تمثل حاجة سياسية إلى ضرب مصالح قريش. ويجب الأخذ في الاعتبار أن الديني و السياسي في الحرب متكاملان و مرتبطان فالأمر بتبليغ الدعوة و نشر الرسالة ، يأتي من خلال الحرب او الجهاد([9]).
وبناء على ذلك نشير إلى أن الحرب تملك مفردات سياسية لا يجب اغفالها منها توفير الموارد المالية لبناء الجيش ،ثم تأمين الموارد الاقتصادية لدولة الدعوة. ثم يدلل المؤلف على أن الحرب من مفردات السياسة من خلال حديث الرسول(ص) أن الحرب خدعة بمعنى أنها أكثر من إرادة مؤمنة لدي من يخوضونها دفاعا عن مبدأ متمتعين بالعناية الإلهية،إنها ميزان قوى و ذكاء سياسي. ويجب الأخذ في الاعتبار أن عوامل مثل التخطيط و الكفاءة في القتال و حجية رأي من استشير كلها تمثل عوامل سياسية في الحرب النبوية.
بين الديني والسياسي
ثم يعرج علي بيان صفة الدمج و التمايز في التجربة النبوية ،وكيف أننا نلحظ أشكالا مختلفة من حضور التمايز بين الديني و السياسي في سائر لحظات التجربة النبوية في مكة و المدينة. ورغم ذلك فهناك صعوبات متعلقة بالتمييز بين الديني و السياسي من أهمها: صعوبة وضع حدود زمنية فاصلة بين اكتمال الدعوة. ويستعرض بعد ذلك أهم آليات التمكين السياسي التي أوجدت الدولة في أحضان الدعوة ، ومن أهم هذه الآليات (الصهر و الدمج) حيث أن مجتمع الجزيرة العربية كان يقوم على عصبية القبيلة و قرابة الدم والرحم، لذا كان من الصعب إخراج الجماعة الإسلامية الجديدة من تضامنها التقليدي.ونلفت الانتباه هنا إلى أن تمييز قرابة الرحم داخل قبيلة قريش في مرحلة الدعوة كان آلية من آليات الدمج و الصهر لتكوين الجماعة الإسلامية ، أيضا قيام مجتمع المدينة المؤمنة على ثنائية المهاجرين و الأنصار احتاج من أجل إعادة بنائه وتوحيده إلى صهر تلك الثنائية من خلال مبدأ المؤاخاة([10]). ويجب أن نلفت الانتباه إلى انه بجانب إستراتيجية الدمج و الصهر كما في المؤاخاة، هناك إستراتيجية التمييز و التمايز وكانت ترتكز على بناء الفواصل و التمايزات بين الهويات الدينية و إقامة السياسة و الدولة و الأمة على تلك الفواصل و تصفية اليهود و إجلائهم عن المدينة ، وتنتمي تلك التصفية إلى حاجة حيوية لدى الجماعة الإسلامية إلى التمييز و التمايز الديني بوصفهما شكلا من أشكال إعادة بناء المجال السياسي المدني . ومن هنا نتوصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا كانت الحرب على قريش بهدف التوحيد ، فإنها في حالة اليهود صرفت إلى تأسيس علاقات التمييز و التمايز عن غير أهل الإسلام ، أي الخروج بالجماعة من المشترك العقدي أي الماهية الخاصة إلى ما يتميز به المسلمون مليا([11]).
ثم يشير بعد ذلك إلى أن دولة المدينة في عهدها النبوي وضعت دولة المسلمين اللاحقة سواء في تنظيمها السياسي- الإداري او في نظامها الاقتصادي. وفي هذا السياق يوجد اثنان من الشواهد يمثلان الدليل الناصع علي قيام تلك الدولة : أول تلك الظواهر أو الشواهد وجود شكل من التنظيم السياسي –الإداري لأمور الجماعة الإسلامية في المدينة،ثانيها قيام نواة نظام اقتصادي قادت إليه الغزوات. ومع ذلك قد يقول قائل أن دولة المدينة لم تستكمل عناصر البناء القانوني-الإداري للدولة ، فإن هذا لا يمنعنا من القول انه قامت في الممارسة النبوية لحظات سياسية ، قامت على قواعد و مؤسسات لم يكن صعبا إدراك خلفيتها ، كذلك لم يكن صعبا رؤية وظيفة التنظيم السياسي و الإداري الممكن الذي رافقها. ومثل صحابة رسول اله أول نخبة سياسية في الإسلام، ومن هذه النخبة تشكل الجسم السياسي و الإداري للدولة الجديدة، وهذا الجهاز الإداري السياسي يمثل مجموعة من الوظائف الحساسة في مجال إدارة دولة المدينة، وكان من أهم هذه الوظائف النيابة عن الرسول في المدينة أثناء خروجه إلى الغزوات، و القضاة وجباية الزكاة و الجزية، ومن هنا أديرت تجربة البناء السياسي في المدينة بكفاءة عالية ،تكفي للقول أن شكلا من التنظيم الإداري –السياسي كان وراء ذلك([12]).
ولقد تعددت وجوه هذه الإدارة و تداخلت مستوياتها على نحو غير قابل للعزل ، ومن اهم هذه التجليات للإدارة في التجربة النبوية، صرف شطر من المراسلات النبوية إلى مخاطبة الجسم الاداري لدولة المسلمين، كذلك صرف الرسول(ص) الشطر الأكبر من دعوته إلى تنظيم الاجتماع السياسي الإسلامي في الخارج، وتمثل ذلك في مراسلاته لكسري و قيصر و غيرهم من الملوك.
والجانب الثالث في الجهاز الإداري –السياسي هو الجانب الاقتصادي ، وهو لا يقل أهمية عن الجانب السياسي الإداري ، ومن أهم تجليات الحالة الاقتصادية لبناء الدولة الإسلامية في العهد النبوي، الحرب ، والحرب تحتاج إلى موارد لتكوين جيش من المقاتلين وتجهيزه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحرب و تحصيل الغنائم. ومن هنا شكلت الغنيمة وسيلة إنتاج و منتوج في نفس الوقت ، فهي وسيلة إنتاج لأنها الأداة الوحيدة التي كانت متاحة لتراكم الثروة ، وتعظيم الموارد، أما أنها منتوج فلأنها الشكل الوحيد المتحصل من العملية الاقتصادية . وبناء علي ذلك نري أن الغنيمة تمثل خيرات يجرى استدرارها بالقوة و الغلبة . ويجب أن نشير هنا أن مغانم الحرب في الإسلام لم تكن في جملة الربح غير المشروع ، وإنما من مستحقات جهاد المسلمين . وجوهر عملية توزيع الغنائم يمثل مبدأ دينيا و اجتماعيا وأخلاقيا ، يقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي، لأن المقاتلين يعطون المخلفين الذين أقعدتهم الأعذار مثل المرضى و غيرهم([13]). ومن هنا نتج عن الغنيمة إلى جانب فكرة الإحسان الديني فكرة المال العام التي هي من أسس الدولة.
شخصية الرسول
ثم ينتقل بنا المؤلف إلى تحليل كاريزما النبي محمد(ص) المشرع ورئيس الدولة ، و يلقي الضوء على تلك الكاريزما التي تداخلت فيها كثير من الصفات و السمات ، جعلت من شخصية الرسول شخصية تحظى بإعجاب ليس فقط أصحابه بل كل من تعامل معه خارج دائرة أصحابه. وهذه الكاريزمية لم تكن لكونه نبيا يوحى إليه ، بل من حيث هو إنسان يملك قدرات شخصية جعلته يحظى بالاحترام و التقدير من كل من تعامل معه. ويجب الإشارة هنا إلى أن الشخصية الكاريزمية بدأت تتكون منذ بداية الدعوة وكانت تجمع بين الشجاعة و الهيبة، ومن هنا أصبح النبي(ص) مثالا يحتذي به و قدوة لكل المؤمنين. ولقد وجدت مجموعة من الخصال و السجايا في شخصية الرسول جعلت منها كاريزما متفردة، منها رباطة الجأش أمام النوائب والتحديات،أيضا إدارته لأمور الدولة، وحسن التخطيط، وحكمته و هدوؤه وسماحته وعفوه وحنوه علي الفقراء([14]).
ومن أهم تلك الصفات أيضا التي قامت بدور محوري في كاريزمية النبي (ص) الشجاعة ، حيث كان الرسول شجاعا في الحق ، و في كل المواقف التي مر بها في حياته، خصوصا في حالة الحروب كان يتقدم فيها الصفوف ولا يخشى الموت.أيضا من الصفات المحورية في تلك الشخصية الكاريزمية التطابق في القول و العمل في السلوك النبوي.
بعد هذا التحليل لارتباط السياسي بالديني في التجربة النبوية في دولة المدينة، نتوصل إلى جملة من النتائج و الاستنتاجات من أهمها: 1-أن الحديث عن وجود لحظة سياسية في المشروع النبوي أمر ممكن، لان الكثير من وقائع هذا المشروع ويومياته و حواراته تتصل بالسياسة و بالأفعال السياسية ، ويصعب نسبتها الي الدين فقط. ومن أمثلة تلك الحوادث السياسية تجهيز الجيوش، خوض الحروب ، عقد التحالفات.
2-وقوع التلازم بين الديني و السياسي في التجربة النبوية ، ولم تكن السياسة منفصلة عن الدين في المشروع النبوي، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن محكومة به أو مجرد فرع من فروعه(وهنا لا اتفق معه في هذا الطرح لان الأمور السياسية كانت في أحيان كثيرة تسير على هدي القران و السنة في كثير من التشريعات مثل توزيع الغنائم و إدارة الحروب) و من أدلة تلازم السياسي و الديني في التجربة النبوية ،أن الرسول جمع في سلطته بين الجانب السياسي و الدين ، فهو رئيس دولة بالمفهوم السياسي، و مشرع يوحَى إليه . من كل ذلك نرى تداخل السياسي و الديني في التجربة النبوية في دولة المدينة.
[1]-عبد الإله بلقزيز : النبوة و السياسة،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت، ط1، 2005،ص10.
[2]-عبد الإله بلقزيز:النبوة و السياسة،ص13. وأيضا انظر.جواد على :تاريخ العرب في الإسلام ،دار الحداثة،بيروت،ط1،1988 ،ص11.
[3]– عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص27.
[4]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص37.
[5]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص43.
[6]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص53.
[7]-المرجع السابق:ص74 .
[8]-عبد الإله بلقزيز: النبوة السياسة، ص83. أيضا انظر للمؤلف.الإسلام و السياسة ودور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2001 ، ص43
[9]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص100.
[10]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة، ص121-123.
[11]-المرجع السابق:ص130.
[12]-عبد الإله بلقزيز: النبوة و السياسة،ص144-147.
[13]-عبد الإله بلقزيز:النبوة و السياسة،ص167 -170.
[14]-المرجع السابق:ص190-193.