رؤى

الانسحاب الكبير..هل هو بداية نهاية العصر الأمريكي؟ (2 ـ 2)

عرض وترجمة: أحمد بركات
ستكون هناك العديد من التداعيات التي ستستمر طويلا بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان؛ أولها ذلك الانتصار المهم الذي حققته الحركة الجهادية في المعركة الحاسمة ضد الديمقراطية.

لقد كان الغرب يعتقد أنه، بقضه وقضيضه، ومن خلال التدفق السخي للمساعدات، يستطيع أن يهزم أيديولوجيا متطرفة ذات أتباع محليين أشداء.

أما الآن، فمن المرجح أن تعود طالبان مجددا إلى تطبيق الشريعة كقانون للبلاد. ومن المرجح أيضا بدرجة كبيرة أن تعود أفغانستان ملاذا للمقاتلين الذين يحملون أيديولوجيات مشابهة ـ سواء كانوا أعضاء في تنظيم القاعدة أو في أي تنظيمات أخرى من هذا القبيل ـ ممن يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، أو راع يرعى تحقيق أهدافهم.

لا شك أن ما سبق يمثل احتمالات كئيبة في وقت يستعد فيه الأميركيون لإحياء الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي زلزلت بلادهم، في الشهر القادم. إضافة إلى ذلك، فقد قامت تنظيمات القاعدة والدولة الإسلامية “داعش”، وغيرهما من التنظيمات الجهادية المتطرفة، منذ عام 2001، بزرع وكلاء أو أفرع لهم في جمع أنحاء العالم، ما دفع بالولايات المتحدة، في الشهر الماضي، من بين إجراءات أخرى، إلى فرض عقوبات على أحد الأفرع التابعة لداعش في مكان بعيد مثل  موزمبيق، تلك المستعمرة البرتغالية السابقة في جنوب إفريقيا، والتي يدين60% من سكانها بالمسيحية.

أحداث 11 سبتمبر
أحداث 11 سبتمبر

أما ثانيهذه التداعيات فيتمثل في أن كلا من أفغانستان والعراق أثبتت أن الولايات المتحدة لا يمكنها بناء دول أو إنشاء جيوش، خاصة في البلاد التي تعاني من تقلص الطبقة الوسطى، وتدني معدلات التعليم، على مدى عقد أو عقدين، إذ لا يملك كثير من الناس المعرفة أو الخبرة لسلك دروب جديدة في الحياة، مهما كان ما يريدونه من حيث المبدأ. كما أن الانقسامات العرقية والطائفية تعيق محاولات رأب الصدوع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحياة في وقت واحد.

لقد أنفقت الولايات المتحدة 83 مليار دولار على تدريب وتسليح قوة أفغانية قوامها حوالي 300 ألف مقاتل، أي ما يزيد عن أربعة أضعاف حجم مليشيا طالبان. وبدت “هذه القوة العسكرية والأمنية فعالة للغاية في قتال المتمردين كل يوم”، وفقا لما قاله مارك ميلي للصحافيين في عام 2013.

والآن يشغل الجنرال ميلي منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة. ومع ذلك، لم يأت مارس الماضي إلا وطالبان قد بسطت هيمنتها على نصف أفغانستان. وفي غضون الأسابيع القليلة بين أول مايو ومنتصف أغسطس استولت الحركة على نصفها الآخر، بنسبة كبيرة في الأسبوع الماضي.

في الشهر الماضي، كان الرئيس، جو بايدن، أعلن أنه يثق في “قدرة الجيش الأفغاني، الأفضل تدريبا، والأفضل تجهيزا، والأكثر كفاءة فيما يتعلق بخوض الحروب”. أما الآن، فقد انتهى الأمر، وانسدل الستار على مقاتلي طالبان وهم يجوسون خلال الديار، بل وخلال حجرات القصر الرئاسي في العاصمة كابول، الأحد الماضي.

الجنرال مارك ميلي
الجنرال مارك ميلي

ثالث هذه التداعيات هو الضعف الشديد الذي أصاب الموقف الأميركي في الخارج، والذي تجسد في مشهد تنكيس العلم الوطني الأميركي عن السفارة الأميركية للمرة الأخيرة، الأحد، حيث شوهد الدخان ينبعث من الدور الأرضي من مبنى السفارة ـ التي تكلفت توسعتها قبل خمس سنوات فقط 800 مليون دولار ـ بسبب احتراق العتاد العسكري أثناء الاندفاع للخروج.

وستواجه واشنطن عما قريب وقتا عصيبا في حشد حلفائها للعمل بشكل جماعي مجددا، سواء كان هذا الحشد من نوع التحالف الموسع والمتآزر كذلك الذي تشكل في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر، والذي كان الأكبر في التاريخ، أو من نوع “تحالف الإرادات” الهزيل المرقع الذي تشكل إبان حرب العراق.

ورغم أن الولايات المتحدة لاتزال القوة الأكبر في الغرب، إلا أن ذلك ـ إلى حد كبير ـ ليس سوى على المستوى الافتراضي. كما لا تتوافر الكثير من القوى أو القادة الآخرين كبدائل. لذا فإنه من الصعب أن نتصور كيف ستنقذ الولايات المتحدة سمعتها أو تحسن من موقفها في أي وقت قريب.

ولا يمكن أن ندعي أن “الانسحاب الكبير” الأميركي كان أقل إذلالا من نظيره السوفييتي في عام 1989، وهو الحدث الذي أسهم في انفراط عقد الإمبراطورية السوفيتية وانهيار الحكم الشيوعي.

انسحاب السوفييت من افغانستان
انسحاب السوفييت من افغانستان

لكن الولايات المتحدة قضت في أفغانستان ضعف الوقت الذي قضاه الاتحاد السوفيتي، وأنفقت من الأموال أضعاف ما أنفقه، حيث تشير التقديرات إلى أن الاتحاد السوفيتي لم ينفق سوى حوالي 50 مليار دولار في السبع سنوات الأولى من العشرية التي قضاها محتلا لتلك البلاد الجبلية الوعرة.

صحيح أن الولايات المتحدة دعمت ميلاد مجتمع مدني ثري، ونساء متعلمات، ووسائل إعلام مستقلة، وسهلت إجراء انتخابات ديمقراطية لأكثر من مرة، وشهدت البلاد في ذلك العهد انتقال السلطة. والآن تسطيع 37% من الفتيات الأفغانيات القراءة، وفقا لمنظمة “هيومن راايتس ووتش”.

كما استضافت قناة “طلوع” ثمانية عشر موسما من برنامج “النجم الأفغاني”، وهو عبارة عن مسابقة في الغناء على غرار البرنامج الأميركي “أميركان أيدول”. وكانت زهرة إلهام، من أقلية الهزارة الأفغانية، والتي تبلغ من العمر20 عاما، أول امرأة تفوز بهذه المسابقة في 2019.

أما الآن، فهناك أعداد لا حصر لها من الأفغان الذين أخذت الولايات المتحدة بأيديهم في السابق يبحثون باستماتة عن مخرج من البلاد بعد سقوطها في يد طالبان. كما عادت النساء إلى ارتداء البراقع الزرقاء مرة أخرى.

الأفعان يحتشدون في مطار كابول
الأفعان يحتشدون في مطار كابول

كما لا يختلف مشهد الأميركيين المغادرين في المروحيات في كثير عن مشهد الجنود السوفيت الذين شقوا طريقهم عبر “جسر الصداقة” في 15 فبراير 1989، تاركين أفغانستان وراء ظهورهم، ومولين وجوههم شطر الاتحاد السوفيتي. كلتا القوتين العظميين انسحبت لتجر بين قدميها أذيال الهزيمة، ولتخلف وراءها حالة من الفوضى العارمة.

لكن تكلفة الانسحاب بالنسبة للأميركيين لن تقف عند حدود الانسحاب من أفغانستان أو العراق، وإنما قد تقتضي دفع تريليوني دولار أخرى فقط لسداد تكاليف الرعاية الصحية والإعاقة لقدامى الحرب الذين شاركوا في تلك الحروب. وربما لا تبلغ هذه التكاليف ذروتها حتى عام 2048.

وستمتد السنون بأطول حرب أميركية أكثر بكثير مما توقعه الجميع قبل عقدين من الزمان، أو حتى في وقت نهايتها. فقد أودت هذه الحرب بحياة 47 ألف مدني، وفقا لـ “مشروع تكلفة الحرب” التابع لجامعة براون، من بينهم أكثر من 2400 من العسكريين الاميركيين، وما يقرب من 4000 من المتعاقدين الأميركيين.

لقد ذهبت لزيارة أفغانستان لأول مرة في عام 1999، أثناء حكم طالبانن وقدت سيارتي عبر ممر “خيبر” المذهل من باكستان، مرورا بمزارع أباطرة المخدرات المحصنة على طول الحدود على الطريق الوعرة إلى كابول. وبرغم السنين لا نزال صور القمع الطالباني محفورة في ذاكرتي. ثم عدت أدراجي إلى الولايات المتحدة رفقة وزير الخارجية آنذاك، كولن باول، في أولى رحلاته بعد سقوط طالبان.

في هذا الوقت كان يحدونا أمل حدوث تغيير ما، رغم أن احتمالات ذلك كانت تبدو في كثير من الأحيان أمرا بعيد المنال، وتفاقمت عبثية هذا الأمل على يد الحكام الجدد الفاسدين.

عدت إلى أفغانستان منذ ذلك الحين مرة تلو الأخرى، بما في ذلك في مارس رفقة الجنرال كينيث “فرانك” ماكنزي، قائد القيادة المركزية، الذي يشرف الآن على العمليات العسكرية الأميركية النهائية.

وفي الأحد الماضي، في الوقت الذي محت فيه أميركا وجودها من أفغانستان في سباقها مع الزمن للخروج، كنت أتساءل: هل ذهب كل هذا أدراج الرياح؟ وما التداعيات الأخرى التي ستحل بأميركا جراء حملتها الفاشلة في أفغانستان بعد عقود من الآن؟

تبقى الإجابات متوارية وراء حجب الزمن.

(انتهى)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock