هل كانت مصر متقدمة في القرن التاسع عشر وتأخرت؟ تخيل مدرسة الموسيقي المصرية التي تأسست ونهضت مع الرعيل الأول يشارك فيها مشايخ أزهريون وتنويريون ؟
لعلك تسأل نفسك هذا السؤال لوعرفت أن الشيخ الجليل العالم الأزهري مولانا عبد الرحمن قراعة مفتي مصرالشهير في تاريخ المشيخة يكتب أغاني للمطرب عبده الحامولي وكذلك الشاعر العملاق نجم السيف والقلم محمود سامي البارودي والكاتب القدير إسماعيل صبري ,والأغرب أن الإمام الأكبرالشيخ: مصطفى عبد الرازق يكتب عن المطرب الحامولي ويصفه بالمصلح الإجتماعي.
شيخ الأزهر ناقد موسيقي متميز
تبدأ القصة بطلب الناقد والمؤرخ الموسيقي قسطندي رزق من فضيلة الشيخ مصطفي عبد الرازق,أن يكتب كلمة عن عبده الحامولي وفنه,وبكل تواضع العلماء الكباريرد الشيخ بالموافقة ؛ وكان قسطندي قد كتب كتاباً في الموسيقى الشرقية والغناء العربي وفي الكتاب بحوث وآراء الفحول الموسيقيين وفطاحل الشعراء والأدباء، ومعارضات في التجديد والتطور اللذين أوشكا أن يجهزا على الرمق الباقي من الموسيقى الشرقية، وما لها من سحر وتأثير في النفوس.
كتب الشيخ :كان من المعقول أن ألتمس سبيلا للخلاص من مزاحمة فحول الموسيقيين وفطاحل الأدباء والشعراء، ولي العذر بأنني لست موسيقيًا، ولم أسمع عبده الحامولي مغنيًا قط إلا ما حفظه الحاكي من بعض أدواره الشجية. لكن قسطندي أفندي زارني ليبين لي رغبته شفاهًا، فلقيت منه رجلاً مخلصًا للموسيقى العربية مخلصًا في حب عبده الحمولي إمام الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر مخلصًا في معارضة كل تجديد يذهب بسحر الموسيقى الشرقية ويبطل مميزاتها.
وما يكون لي أن ألقى هذا الإخلاص كله بغير التلبية والتشجيع في زمن قلما تجد فيه عاملاً مخلصًا.
وإني وإن كنت غير موسيقي فإني أحب الموسيقى بفطرتي حبًا جمًا، وقد حاولت في عهد الشباب مرة أن أتعلم بعض الموسيقى فلم يسعدني الفراغ بل لم يسعدني فراغ للإكثار من سماع الموسيقى، لكنني ظللت دائمًا محبًا لهذا الفن الجميل، بل ظللت متتبعًا ما يمر به من أطوار التجديد في بلادنا.
وأحب أنواع الموسيقى أسرعها تأثيرًا في العواطف، وعندي أن الموسيقى متعة للنفس وراحة للخاطر المكدود فإذا تعقدت ألحانها وأصبح تأليفها عويصًا يحتاج في إدراك مراميه إلى كد الذهن وفرط التأمل فقد خرجت الموسيقى عن حدودها واتجهت إلى غير وجهتها.
https://www.youtube.com/watch?v=b1EBp6h8nsU
ليس أفضل الموسيقى عندي ما انطبق على قواعد الفن، فلم يدركه شذوذ ولم يخالف قانونًا من قوانين الصناعة لأنني لا أعرف هذه القوانين ولا أستطيع أن أميز الألحان التي تراعيها من الألحان التي تجاوزها، ولكنني أحس لبعض الأنغام بطرب لا أحس به لسائرها، وأذكر أنني سمعت بعض المغنين العصريين في بداية عهدهم يوم كان الفن لم يقيدهم تقييدًا ولم يحطهم بالسلاسل من قواعده والأغلال، فكنت يومئذ معجبًا بهم كل الإعجاب وكان أشد إعجابي بهم حين تثور عاطفة من عواطفهم عند الإنشاد فتسمو بألحانهم وأنغامهم صُعدًا إلى ما وراء القواعد الفنية. ولما سمعت هؤلاء المغنين بعد أن حذقوا الفن وأتقنوا أصوله وأصبحوا لا يسيرون في أغانيهم إلا على صراط ممدود، أصبحت آسَف على تلك الوثبات التي كانت تطير بهم وتطير بنا معهم إلى آفاق لا تعرف الحدود.
قد يكون بحكم الإلف ما يروقني من الألحان الشرقية أكثر مما يروقني من غيرها، لكنني كثيرًا ما يذهب بي الطرب إلى غايته عند سماع قطع موسيقية أوربية؛ ففي الموسيقى الغربية كما في الموسيقى الشرقية أنغام إنسانية من شأنها أن تهزالعواطف البشرية هزًا عنيفًا،أوترد العواطف الهائجة إلى هدوء مريح, والموسيقي العبقري هوالذي يستطيع بموهبته أن يهتدي إلى هذه الأنغام فيؤلف منها نظمًا متسقًا يحدث أثره الموسيقي البليغ في نفوس البشر جميعًا.
الحامولي عبقري في الموسيقي الإنسانية
ويقرفضيلة الإمام الشيخ مصطفي عبد الرازق بعبقرية عبده الحامولي في الموسيقي المصرية وكتب يقول: استخلص من الأغاني المصرية التي كانت معروفة لعهده كل ما يصلح أن يكون لحنًا موسيقيًا إنسانيًا، وألف من ذلك على قلته أغاني نقل بعضها من أناشيد الخلود، واقتبس عبده الحامولي مما وصل إليه من أغاني الأتراك ما يلائم مذهبه، فجمع ألحانًا إنسانية أيضًا لم يتناولها تقليدًا ولكنه نفذ إلى أعماقها وصقلها بذوقه وفنه صقلاً حتى تماثلت بما تم له من الألحان المصرية، وألف من هذا وذاك ترانيم بهرت ذوق الترك والعرب، ولو أن عبده الحامولي عرف الموسيقى الغربية لاستخلص منها أيضًا أبعدها عن التعقيد والتكلف وأدناها أن يكون غذاء للروح الإنساني، وراحة ونعيما، ثم لسلط عبقريته على تلك الخلاصة، فلم تدع فيها شذوذًا ينبو عن ملاءمة ما تم له من التأليف بين الموسيقى المصرية والموسيقى التركية، ثم لألف بعد ذلك من موسيقى الشرق وموسيقى الغرب تلك الموسيقى الإنسانية التي تهفو إليها الفطر في الناس جميعًا ولا تهتدي إليها سبيلاً.
هذا النزوع إلى إيجاد موسيقى إنسانية تجتمع الأذواق كلها على الإعجاب بها والشعور بجمالها على أساس ما أبقت الأيام في طيات الموسيقى المصرية والذوق المصري من آثار الحضارات الماضية والعصور الخوالي هو رسالة عبده الحمولي النبيلة التي أدى بعضها وترك للأعقاب أن يتموها.
وكان عبده الحامولي نبيلاً في مذهبه الفني كما كان نبيلاً في أخلاقه وشمائله، وفي سيرته بين الناس، وإنك لتدرك النبل في جوهر صوته وفي كيفية أدائه واختياره للأنغام وتأليفه بين الألحان. كان يتسامى بفنه عن التبذل والتكلف فلا ينحدر في غنائه إلى مثل التكسر في النبرات المائعة الذليلة.
«ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه. وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها».
موسوعية شيخ الأزهر مصطفي عبد الرازق
ومن الملفت للنظر فعلاً موسوعية هذا العالم الجليل في النقد الموسيقي وليس غريباً علي فهو نفسه من فتح الطريق لكوكب الشرق, وعلمها فنون إختيار الكلمات ومنه أحبت الفرنسية وهذا يفسر براعة الشيخ التنويري المجدد في شرح فن وموسيقي الفنان عبده الحامولي حباه الله من مواهب فذة نجح في صقلها وتهذيبها مضيفًا إليها ما عَنَّ له من النغمات تمشيًا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروحٍ مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربًا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتريها الركاكة، ويشوّهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس. فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعًا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها الحامولي من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال؛ لاحتوائها على أنواع من السحر وعوامل من التطريب بما أدرجه في صلبها من نغمات النهاوند والحجاز كاروالعجم عشيران التي تلقنها عن مشاهير المطربين في الأستانة طيلة الرحلات المتعددة التي قام بها وهو بمعية ساكن الجنان أبي الأشبال الخديوي إسماعيل، محيي الفنون الجميلة في وادي النيل الذي يرجع إليه كل الفضل في إنماء مواهب عبده الفنية، وتوجيهها للنهوض بفن الغناء العربي إلى المستوى اللائق به؛ لما وجد فيه من ميل فطري وسعة تصرف في النغمات. فكان يتنقل من نغم إلى نغم، ثم إلى أنغام أخرى ويحيط بكل فروعها ويعود إلى النغم الأساسي بطريقة فنية، وتصرف غريب، ولم يدع في الغناء القديم شواذًا إلا ردها إلى قواعدها،أومسموعًا قبيحًا إلا طرح معايبه، وألبسه أنصع جلباب متحاشيًا اللغو والحشو والتعمية مرتفعًا عن مقام التلفيق والتحدي، منزهًا عن النسج في التلحين على منوال المحدثين بخروجهم عن جادة الصواب، ومسخ محاسن الغناء العربي الصحيح.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن الحامولي, كان يصوّر معاني أغانيه، وما تخلل أجزاءها من أحوال وحوادث على أوضح صورها وأشدها تأثيرًا في عقول السامعين الذين يعجبون لسماعه يغني دورًا من تلاحينه (حجاز كار).
أشكي لمين غيرك حبك أنا العليل وأنت الطبيب
اسمح وداويني بقربك واصنع جميل وياك أطيب
ويستغربون تشخيصه أمامهم صورة العليل ومر شكواه من داء حبه العقام، وطلبه من الطبيب أن يشفيه منه. ودور «أنا حبيت وزاد قلبي هيام» فإنه يخيل إليهم أنهم يقرؤون الحب على وجهه. وأنه ذهب بفؤاده كل مذهب وبرى الشوق عظمه. ودور «سيكاه» تلحينه كان يغنيه في حلوان بالكازينو. وقد ظهر في عصر ساكن الجنان الخديو توفيق سوارس ، وقد غناه في حضرة الخديو توفيق فأعجب به وهو كما يأتي:
متع حياتك بالأحباب ..ما أحلى المؤانسة في حلوان
أُنسك ظهر
شأن الطرب يشفي الأوصاب —
للي حضر
وكيد زمانك واتهنى وافرح وطيب
وانفي همومك بالأكواب —
سعدك قمر
ودور (راست) تلحينه «المطر يبكي يا ناس لحالي» إذا غناه رفرف السامعون عليه بأجنحتهم ورأوا المطر ينهمر عليه، ودور (بياتي) تلحينه أيضًا«بسحر العين فيذكرهم فتور الجفون وسحر العيون وما يليه من نحول الخصور وابتسامات الثغور وسريان الريح بريَّا الزهور إلخ إلخ، على ما وقفت عليه بنفسي وسمعته بأذني وأيده قسطندي رزق …تفوق الموسيقارعبده الحامولي علي معاصريه أما تلحينه فحدّث عنه ولا حرج لما توفر في صوته القويّ من صفات نادرة في القرار، والجواب، وحسن التوقيع، ودقة الإيقاع، ومناسبة الأصوات، وجناس النغمات، وتشخيص الانفعالات الملائمة بلطيف الإشارات، وخفة الحركات، فتتمثل أمام السامع صور ما يلقيه على أتم معانيها، ويرجع إعجاز تلحينه إلى تعدد نغماته وتغييرها وتشكيلها ورسم ألوانها التي تحاكي ألوان زهور الربيع، وكثرة المقامات حتى يخيل إلى السامع أن نغماته إن هي إلا قطع التبر، وأن معانيها إن هي إلا أخذ السحر.
البر بالناس والمروءة والوفاء
وكتب جرجي زيدان في موسوعة تراجم مشاهير الشرق عن شهادة الشيخ مصطفي عبد الرازق : لم يكن هنالك كعبده الحامولي الذي كان إذا شدا توجهت نفسه إلى الفن وحده، يريد أن تستوفي الصناعة حقها، وأن تبرز الألحان مستكملة جمالها فإذا استوت له القطعة الموسيقية البارعة كان أول مدرك لسحرها وروعتها وأول مستمتع بلذتها وبهجتها,فليس يستجدي من الناس إعجابهم، ولكنه يرى من البر بالناس أن يمتعهم بهذه اللذة الفائقة، وأن يشركهم في تلك السعادة العالية.
وقدعاش عبده الحامولي حياة كريمة نبيلة فلما مات مات أيضًا موتًا نبيلاً كريمًا تجلى فيه نسيانه نفسه في سبيل المروءة والوفاء.
فقد أصيب عبده الحامولي في آخر عمره بذات الرئة، وتراكمت عليه هموم الحياة «ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى منها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء؛ فأقام في سوهاج شهرين ونصفا عادت له في أثنائها بعض قوته، وتقوى أمله في شفائه، ولم يدرك المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده. ثم عجل العودة إلى مصر ليشتغل بوضع غنائه في اسطوانات الفنوغرافات طلبًا للعيش، ولما حضر باشر ذلك فعلا ثم جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم غمًا شديدًا، ولم يسمع لنصيحة أصحابه بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته، وسافر إلى تلك المدينة وأقام هناك أيامًا ولما عاد عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته».
وإذا كان ذكر الفتى عمره الثاني فإن ذكر عبده الحامولي لا يزال بعد موته مثال النبل والكرم.
والذين يحيون اليوم وبعد اليوم تذكار الحامولي إنما ينشرون صفحات من آيات العبقرية ومكارم الأخلاق ليوجهوا الإصلاح الموسيقي في بلادنا وجهة صالحة ويضربوا لأهل الفن ولغير أهل الفن مثلاً في المروءة وفي عرفان المرء لكرامة نفسه، وكرامة الفن الذي يمارسه .. وعبده الحامولي ممن يصدق فيهم قول أبي العلاء:جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعد الممات جمال الكتب والسير
المصلح في ثوب مغنٍ
وقد كتب قسطندي رزق أيضاً ليؤكد صدق كل ماكتبة فضيلة الإمام الشيخ مصطفي عبد الرازق …. يقول : كان عبده الحامولي نموذج الرجل الصالح يحافظ على مواقيت الصلاة ويربأ بنفسه عن كل دنيئة صائنًا من الدنس عرضه وأعراض الناس، حريًا بأن يُعرف بالمصلح في ثوب مغنٍ. لم يقتصر جوده على جياعٍ أطعمهم، أو عطاشٍ سقاهم، أو عَرايا كساهم، أو مرضى واساهم، أو سجناء زارهم، أو مقترعين دفع عنهم البدل العسكري حتى بلا سابق معرفته لأشخاصهم، بل تجاوز ذلك كله إلى أن بلغ حدود الساقطات اللواتي إذا لمحهن بوجه الصدفة في طريقه وهو عائد إلى بيته في عربة مستصحبًا معه بعض رجال التخت بعد الانتهاء من سهرته الغنائية استوقف لوقته الحوذي وجمعهن حوله وأفاض عليهن من سجال عُرفه عن تهلل وابتسام ما يملأ العين، ويستعبد الحرَّ، ثم انصاع ناصحًا لهن وقال: «يا بنات، الله يتوب عليكم». هذا ما رواه محمد الشربيني العواد مؤكدًا أنه رآه يفعل ذلك رأي العين وهو حي يُرزق، ويبلغ من العمر ثمانين سنة. فطوباك يا عبده! يا من عرفت بحنكة وذكاء في جسم ضآلة الوتر الحساس، وضربت عليه بريشتك الخفيفة الشفيقة لتثوب إلى رشدها، وتستقيم على الطريقة المثلى للصالحين والصالحات علمًا منك أن الذنب ليس ذنبهن، إنما الذنب كل الذنب لا يقع إلا على أولئك الذين أضلوهن وجروا عليهن بأول هفوة ارتكبنها ذيول العار والخزي، وقد طلبت إليهن التوبة من الغفور الرحيم تمثلا إلى قوله تعالى “وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات” ، وإلى الحديث الشريف « التائب من الذنب كمن لا ذنب له».