فن

زكي طليمات.. عبقري المسرح عاشق أم كلثوم وسيد درويش

في حياة الفنان الكبير “زكي طليمات” سرد فصيح صريح كاشف عن شخصية فذة, قلما نجد لها نظيرا في حياتنا الفنية؛ يعترف “طليمات” في كتابه “ذكريات ووجوه” بأنَّه عمل “قرداتيا” في جنينية الحيوانات! كما أنَّه يري نفسه متلافا مسرفا يعشق الجمال؛ مثل صديقه “سيد درويش” وهو الوحيد الذي قَبَّلَ “أم كلثوم” وقال عنها أنَّها “كانت ذات أنوثة طاغية جذابة خلابة”. وعندما كان يمثل معها مشهدا سينمائيا؛ كاد يموت–في الأستوديو– بسبب أحد “مهاويس” الست الذي لم يتحمل أن يري “كوكب الشرق” وهي في مشهدٍ غرامي؛ برغم علمه أنَّ ذلك “تمثيل في تمثيل”. ويقول في نفس الكتاب أنَّه قرر ذات ليلة مع ثلاثة من زملائه “يشتغلوا جر شكل” في مسرح الشيخ سلامة حجازي  في الفاصل بين الفصلين الأول والثاني عند غناء الشيخ “سيد درويش” اعتراضا على غناء الشيخ السكندري صغير السن؛ لكنَّ الفنان “زكي طليمات” جلس يستمع لسيد درويش.. ثم يعترف أنَّه لم يكن بالذكاء الذي يجعله يدرك معني موسيقي ثورة 19 التي عبَّر عنها “سيد درويش”, ثم يُقرُّ بعبقرية الشيخ الموسيقية عندما التقيا في عرض مسرحية “فيروز شاه” حيث كان “طليمات” مساعدا للمخرج، وكان يعمل في نفس الوقت مساعدا للصحفي المعروف وقتها “جورج طنُّوس”

.طليمات وسيد درويش تواصل مدهش

“…ودخلت عالم “سيد درويش” الذي كان يشقُّ الموسيقي ليرى الذات العليَّة في جنبات المسرح وهذا الوصف قاله لي “سيد درويش” في ليلة عرض مسرحية “فيروز شاه” وحكيت له كيف كنت قد تقمصت دور البلطجي كي أضربه في المسرح , فرد وقال: “أنت مضربتش لكن الباقيين قاموا بالواجب وكلت علقة سخنة”.

وبصراحة شديدة يعترف “زكي طليمات” بأنَّه اعتذر عن تمثيل دور فكاهي في المسرحية مكتفيا بدور المخرج المساعد قائلا: “عشان دمي تقيل”.. ويضيف: “أثناء البروفات وجدت الشيخ “سيد درويش” يغني ويدرب طاقم المسرحية علي الغناء, كانت لحظة التعارف مع هذا العملاق, كأنِّي أعرفه من زمن، وحبي له اختصر سنوات طويلة في عدة ساعات فقط.. هل كان يعلم “سيد درويش” أن عمره قصير –ربما كان يدرك– لكننا خرجنا بقناعة واحدة، وهي حتمية تمصير الفن ليعبر عن الثورة الوليدة.. وأفضل من فعل ذلك “سيد درويش” بعبقرية العمل الجماعي وغناء الفلاحين والعمال والفخر بمصر وفقرائها  الطيبين.. وهذا ما لم يقدمه غير “سيد درويش” الذي عاني الحرمان والشقاء وقدَّم الفن الموسيقي المسرحي، وكلنا نسير عليه حتي الساعة.

في سياق آخر يقول “طليمات”: “كما عملت في حديقة الحيوانات بوظيفة حكومية ككاتب بمصلحة وقاية الحيوانات في حديقة حيوانات الجيزة، فكنت أقضي أغلب اليوم أراقب تصرفات وحركات القرود وتفاعلها مع الزائرين”.

يقول زكي خلال لقاء له بالتليفزيون المصري: “حصلت على البكالوريا بعد دراستي في المدرسة الخديوية الثانوية، حتي ألتحق بعد ذلك بمعهد التربية، الذي كان انطلاقتي لأحصل على بعثة باريس، والتي غيرت من حياتي، وكانت البداية بالنسبة لي لدراسة الفن والتمثيل المسرحي، تخرَّجت من هناك بخبرة كبيرة وحملت شهادة الإخراج والأداء، بعدما درست على مسرح “الأوديون” ومسرح “الكوميدي فرانسيز” وعملت بعد ذلك في أكثر من عمل بداية من مراقب بالمسرح المدرسي، ومدير للمسرح القومي، بعد ذلك قمت بتأسيس معهد التمثيل وكنت عميدا له.. ويضيف: “كنت منذ الصغر وأنا أهوى التمثيل وأحلم بذلك؛ حتى أنني سافرت فرنسا للدراسة هناك، عندما أعلنت الدولة عن مسابقة للتمثيل، وعلى الفور قدمت وحصلت على المركز الأول، أما فكرة إنشاء معهد للتمثيل في مصر جاءت لي عندما زار “زاو دني دينيس” مصر، وتحدَّث عن الارتقاء بالمسرح، وقدمت توصياته التي كانت من بينها، وجود معهد لتعليم فن التمثيل في مصر، حملت ذلك مسئولية على عاتقي، وتم الإعلان عنه في بدايات عام ١٩٣٠ ورغم افتتاحه في نفس العام، لم يستمر سوى عام واحد، ولكن تم افتتاحه مرة أخرى عام ١٩٤٤”.

كانت شخصية زكي طليمات بها غرور الفنان الواثق من نفسه، وقد عبَّرت ذات مرة الفنانة “سميحة أيوب” سيدة المسرح  –في لقاء تلفزيوني– فقالت عن لقائها بأستاذها الفنان الراحل “زكي طليمات” في ذلك اليوم: “دخل الفصل وبَصْ لي بقرف شديد جدا وتجاهلني، وادَّى الولاد التانيين مشاهد وملاحظات، وفضل ثلاثة أيام هما خايبين وأنا أقول لهم الأستاذ قال كذا. لحد ما قاللي تعالي يا فلحوسة، خدي اقري ده وتجيني بكره جاهزة”.

وروت “سميحة أيوب” تفاصيل اللقاء التالي مع “زكي طليمات” قائلة: “جيت تاني يوم جاهزة، بَصْ لي وسألني اسمك إيه؟ إنت حتبقي دراستك عملية في فرقة المسرح الحديث اللي أنا عاملها من خريجي المسرح، وبعد ما تخلصي تطلعي لي فوق, طلعت له وقال: أول مرة في حياتي يخوني ذكائي, أنا جبت لك استثناء من وزير المعارف تبقي طالبة نظامية وتاخدي المكافأة، وتيجي عندي الفرقة والتمرين العملي حيبقى على خشبة المسرح”.

عشق طليمات لكوكب الشرق

ولا يخفي “زكي طليمات” عشقه لكوكب الشرق “أم كلثوم”  وقد سرد كلاما يصل لحد الهيام بها فيقول: “ليس معنى هذا أن آنسة الفن “أم كلثوم” ليست على جمال يستهوى الرجال، لا شيء من هذا وليتها كانت هذا.. معنى هذا أنَّ الطبيعة إن ضنَّت على “أم كلثوم” في عطائها من ناحية الجمال ومعالمه المتواضع عليها، وهو تواضع يتغير في كل حين مثل الأزياء.. فقد أسرفت الطبيعة في عطائها لها من ناحية الأنوثة والفتنة , فهي في هذا وذاك آسرة فتاكة تتجاوز طاقة المرأة إلى مرتبة الأنثى. أم كلثوم أسطورة لكل الأجيال التي عاصرتها والأجيال التي جاءت بعدها، فهي مناسبة لكل طبقات المجتمع، لا أحد يختلف على صوتها، فهي صامدة عبر الزمان، فقد تمتعت بحنجرة ذهبية وموهبة فذة، ما جعل كبار الكتاب والنقاد يمدحونها عبر مقالاتهم، وكما قال عنها أديب مصر “نجيب محفوظ” وما من جحود مثل أن نقارن أي صوت من الأصوات المصرية المعاصرة بهذا الصوت المتعالي، فقل في غناء “أسمهان” و”ليلى” و”نور الهدى” ما تشاء إلا أن تقارنه بصوت “أم كلثوم” فتضره من حيث أردت أن تنفعه، وتهينه من حيث أردت أن تكرمه وتمرغه في التراب وقد أردت أن تسمو به إلى السماء, لا يوجد على الساحة فنان يلقى هذا القدر من الحب والاحترام مثل ما تلاقيه “أم كلثوم” في العالم العربي, في أوائل عشرينات القرن الماضي، استغرقت “أم كلثوم” وقتا لتثبت موهبتها في المدينة الشاسعة, وبينما أُعجبت صفوة المجتمع بصوتها في القاهرة، فقد تعرضت للسخرية بسبب ملابسها وسلوكياتها الريفية الغليظة, لذا تعلمت تدريجيا التأنق في أفضل الملابس وتعاونت مع نخبة من فناني هذا العصر، على رغم شهرتها كمطربة صعبة الإرضاء, فقد تنافست أشهر شركات الإنتاج للتعاون مع “أم كلثوم” بينما تفاوضت هي بذكاء لزيادة أجرها وشهرتها, وسرعان ما ضاعفت أجرها لتضاهي أشهر الفنانين على الساحة في القاهرة آنذاك”.

زكى طليمات ثوري ضد المحتل

واجه “زكي طليمات” بطش الاحتلال الإنجليزي، والملك فؤاد، عام 1930، بعد قرار إغلاق معهد الفنون المسرحية؛ خوفا من التنوير، ولجأ “زكي طليمات” إلى تأسيس جمعية الحمير لدعم الحركة المسرحية، بمشاركة الأدباء والفنانين، أمثال الدكتور طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، والسيد بدير، حتى نجح في إعادة المسرح للعمل اعتمادا على صبر الحمير، وتوجهت الجمعية لدعم الفقراء وجمع التبرعات. وقال في كتابه: “ما دمنا نستنشق ريح الحياة فأنَّه مقضي علينا أن نجرِّب ولا منجاة لنا من هذا إلا أن تنقطع أنفاسنا.. فكأنَّ التجربة هي من انعكاس الحياة التي تَدبُّ فينا.. وهي في الوقت نفسه تثير في النفس انفعالات قوية من التفكير والتأمل بحيث تتشكل من هذه التجارب نظرة الإنسان إلى نفسه ومحيطه”.انضم إلى “زكي طليمات” إلى فرقة “عبدالرحمن رشدي” المسرحية عام 1917م، ثم انتقل لفرقة “جورج أبيض” لكنه تركها بسبب انتقاده لصاحبها في أحد مقالاته الصحفية النقدية، واشترك مع “روز اليوسف” و”محمد التابعي” في إصدار مجلة “روز اليوسف” عام 1925م، واشترك مع “روزا” في مسابقة وزارة المعارف، وفاز بالجائزة الأولى.

بعد عودته من فرنسا 1929، عُين “طليمات” مديرا للفنون الجميلة في الدرجة السادسة وكتب مقدمات فنية لعدة مؤلفات ومسرحيات، بالإضافة إلى كتابته الصحفية في جرائد ومجلات عديدة مثل الهلال، المقتطف، الفكر العربي، الرسالة وغيرها.

في كتابه عبَّر “طليمات” عن الجانب الروحاني في شخصيته وعلاقته بالله قائلًا: “لا أعرف لماذا كانت الصلاة تستهويني بوقفاتها الخاشعة وسجداتها المتوسّلة فكنت أباشرها في متعةِ وجدٍ، وكان يستهويني سماع القرآن الكريم ينطلق بترتيله الصوت الرخيم وكذلك أجد في حلقات الذكر استجابة لرغبة مبهمة تدور في أعماقي لا أعرف لها من مدلول إلا أنَّها كانت تبعث في نفسي نشوة، فقد جمعت بين دراستي لفنون المسرح وبين تحصيل علوم أخرى تعتبر من مقومات الممثل الحق وتأتي في مقدمتها الفلسفة وعلم النفس”.

لخَّص “طليمات” رؤيته لمهمة النهوض بالمسرح في أمرين هما: “تحرير القاعدة الكبرى فيه من الجهل والجهالة، ثم عتق العاملين فيه من رق الزعامة وقيود التحكم”، ووصف رحلته للنهوض بالمسرح المصري وبداياته بأنَّها كانت بين نجاح وخيبة وصعود وهبوط وبأنَّه كثيرا ما كان يفشل فيما أحسن التخطيط له وينجح فيما كان يراه أمرا فاشلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock