لم تكن علاقة الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين بثورة يوليو 1952، مستقرة في يوم من الأيام.. قامت الثورة وبهاء الدين في الخامسة والعشرين من عمره.. يتطلع كبقية أبناء جيله إلى تحقيق مبادئ العدل والحرية بعد كفاح طويل ضد الاحتلال الإنجليزي-كاد بهاء الدين يفقد حياته في حادثة كوبري عباس- ورغم دعمه منذ اليوم الأول لحركة الضباط الأحرار إلا أن كثيرا من المواقف والقرارات كانت تباعد بينه وقادة الثورة.. فلقد كان وهو خريج الحقوق شديد الاحترام والتقدير للمستشار عبدالرزاق السنهوري، بل كان يعتبره أستاذه الروحي.. كما عمل تحت قيادته بمجلس الدولة.. وعندما أُبْعِدَ السنهوري عن منصبه في 1954، لم يجد بهاء الدين لذلك مبررا واضحا.. وظل يذكر هذا الموقف بألم وأسف.
لكن تسارع الأحداث لم يترك الفرصة لبهاء الدين للتوقف كثيرا عند هذا الحدث.. فنراه يقترب مجددا من قيادة الثورة في 1956، بعد رد العدوان الغاشم.. فيكتب عن ذهاب الرئيس عبد الناصر إلى مؤتمر باندونج وإطلاق الدعوة إلى الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.. ويؤكد بهاء في مقاله على أن “… لوطننا وقفة باسلة في صف الحرية سواء في هزيمتها في بغداد أو نصرتها في الأردن، وعقد وطننا صفقة الأسلحة الشهيرة التي غيرت ميزان القوى في الشرق الأوسط لحساب العرب وضد إسرائيل. وكل ذلك بعد خروج أعدائنا الثلاثة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ومن ورائهم أمريكا”.
وفي آخر زيارة للرئيس عبد الناصر لسوريا كان بهاء الدين أحد رؤساء التحرير القلائل الذين صمدوا في صحبة عبد الناصر في تلك الزيارة..والصمود هنا لأن الرحلة كانت بالغة الصعوبة من بدايتها إلى نهايتها لم يتحمل إكمالها من الصحفيين سوى بهاء الدين وهيكل وناصر النشاشيبي ومصطفى المستكاوي.. وطاف الوفد جميع البقاع السورية وناموا ومعهم عبد الناصر في مكتب للبريد بدير الزور، وفي شقق صغيرة غير مجهزة.. لكن ارتباط الصحفي الكبير في تلك الفترة بالثورة وقائدها كان شديدا.. برغم أنه لم يتوقف يوما عن رصد ومتابعة كل ما يصدر عن القيادة من قرارات محاولا نقد ما يراه بعيدا عن المسار الصحيح.. لكنه اضطر أيضا بعد ذلك إلى الالتفات عن الكتابة في السياسة إلى الكتابة في الأدب والفن والتاريخ.. نظرا لحساسية الموقف وتشديد الرقابة في ذلك الوقت.
المواجهة الكبرى
ثم تأتي المواجهة الكبرى في 1968، عقب محاكمات الطيران في الثامن والعشرين من فبراير، وكان بهاء نقيبا للصحفيين.. عقد مجلس النقابة اجتماعا طارئا لمناقشة مظاهرات طلاب مصر التي خرجت للاحتجاج على نتائج محاكمة قادة سلاح الطيران، محملة عبد الناصر مسئولية نكسة يونيو1967.
وتم الاتفاق على إصدار بيان ورفعه إلى المسئولين، وقد تضمن البيان مساندة الصحفيين لمظاهرات طلبة الجامعات والعمال باعتبارها تعبيرا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير والإسراع في حساب كل المسئولين، وتعميم المساءلة لتشمل كل القطاعات والمؤسسات في البلاد مع توسيع قاعدة الديمقراطية، وعدم التباطؤ في إصدار القوانين المنظِّمة للحريات العامة وإجراء انتخابات اللجان النقابية ومجالس النقابات التي تجمدت وحرمت من حقها في انتخاب قياداتها، وتحقيق العدالة في توزيع الأعباء المترتبة على الاستعداد لإزالة العدوان، بحيث تتحمل كل الفئات نصيبها بما يتناسب مع قدراتها ويتحمل الأغنياء النصيب الأكبر وليس العكس.
وقع أعضاء المجلس ومنهم كامل زهيري ومحمود المراغي وعلي حمدي الجمال على البيان، وقبل إصداره تلقى نقيب الصحفيين مكالمة من وزير الإرشاد القومي محمد فايق، يطلب منه عدم إذاعة أي بيان من النقابة، فرد النقيب: آسف يا سيادة الوزير، القرار ليس قراري وحدي لكنه قرار مجلس النقابة.
انهالت الاتصالات على مكتب نقيب الصحفيين ومن بينها اتصال من علي صبري قال له فيه: بصفتي أمين الاتحاد الاشتراكي أرجو عدم إصدار البيان. فجاء رد النقيب حاسما: الاتحاد الاشتراكي قد يكون مالكا للمؤسسات الصحفية لكنه لا يملك نقابة الصحفيين.
كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين البيان بنفسه على الآلة الكاتبة.. ووصل البيان في اليوم التالي إلى مكتب رئيس الجمهورية الذي اعتبره “طعنة في الظهر في ليلة مظلمة” واقترح البعض على عبد الناصر؛ اعتقال أحمد بهاء الدين؛ لكنه رفض بشكل قاطع.
دفاعا عن عبد الناصر
قبيل رحيل عبد الناصر كتب الأستاذ بهاء الدين مقالا في روزاليوسف وأعاد نشره في ذات المطبوعة بعد نحو عشرة أشهر.. كان المقال بعنوان ” ماذا كان عبد الناصر.. وماذا سنكون؟” وهو مقال غاية في الأهمية لأنه الأهم في وصف وتقدير قيمة عبد الناصر بالنسبة لمصر والأمة العربية والشرق الأوسط.. يقول بهاء الدين: ” من النادر جدا في عالم السياسة أن يحدث مثل هذا التركيز المطلق على شخص قائد, كالتركيز الذى هو حادث اليوم على شخص عبدالناصر.. الشرق الأوسط منطقة هامة وحساسة لا يمكن أن تغفلها أي قوة كبرى من حسابها. وكل قوة من القوى تحمل في مخيلتها “خريطة” تتمناها لهذا الشرق الأوسط, وتعمل على تحقيقها.. وعبدالناصر يقف كحجر العثرة في طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة هكذا كان منذ سبعة عشر عاما ولا يزال.. القوى الدولية المتصارعة والكتل السياسية هنا وهناك.. فرنسا يوما وانجلترا يوما آخر وأمريكا يوما ثالثاً وإسرائيل كل يوم، ومتعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها.
والمشكلة هي زعامة عبدالناصر.. ذلك أننا إذا أردنا في حقيقة الأمر أن نلخص دور عبدالناصر إلى أقصى درجات التلخيص, وأن نلخص الموجة التي دفعها والتي حملته في نفس الوقت لقلنا: إن معركته هي معركة من يريد أن تكون “الإرادة” في المنطقة العربية إرادة عربية والقول في مستقبل العرب للعرب.. ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المحركة في المنطقة مربوطة في النهاية إلى أيد غير عربية وإرادات غير عربية.. هذا هو مغزى زعامة عبدالناصر. وهذا هو مغزى الارتباط العميق بينه وبين الجماهير العربية. هذا الارتباط الذى تحاول إسرائيل أن تدمره بغارات الطائرات!.
عبدالناصر يعترض طريق الجميع.. جميع الغرباء عن المنطقة.. ولهذا تفكر إسرائيل والذين وراءها والذين هم معها بقلوبهم أنهم لو كسروا هذه الحجرة, لو كسروا هذه القيادة ونفوذها.. فإنهم يتوقعون أن تتشتت المنطقة وأن تزيغ الأبصار فيها زمنا طويلا.. كلٌ يتلفت حوله باحثاً عن ملاذ.. عن مَخرج.. عن مظلة واقية.. ومن يحاول الصمود بمفرده فسيكون ضعيفا, معزولا, سرعان ما يحاط به.
وعلى العكس فهم يرون أن مجرد استمرار عبدالناصر رافعا الراية يشد العزائم وينفث روح المقاومة والرفض في أكثر من قطر عربي ولو دون مبادرة منه.. كالمقاتلين الذين يلمحون -في دخان المعركة وترابها واضطرابها- رايتهم وهى لا تزال مرفوعة فيتشجعون ويلتحقون بالصفوف.
وجود عبدالناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به ويحجر بالتالي على حرية الذين يريدون أن يلعبوا في المنطقة. والقوى الكثيرة التي تريد أن تتخلص منه تريد أن تسترد حرية اللعب وأن تضع كل منها قواعد اللعبة التي تناسبها وهى حرية لا يتمتعون بها في وجود قيادة عبدالناصر وما تمثله لدى الجماهير العربية.. قيادة عبدالناصر تعترض طريق الجميع, جميع الغرباء عن المنطقة.. وقيادة عبدالناصر تحمى الجميع, الذين هم من المنطقة.
أعرف ساسة ورسميين وأفرادا عاديين في أقطار عربية شتى.. ليسوا من الملتقين مع أفكار عبدالناصر ولم يكونوا دائما من الواقفين معه.. ولكنهم حتى وهم في ساعات الظلام والخطر والغموض يجدون أن وجود زعامة عبدالناصر في المنطقة تعنى لهم شيئا, تعنى عدم القفز إلى المجهول.. يقول لي مسئول في ركن قصى صغير من أركان العالم العربي: الأجنبي حين يتعامل معنا يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية وهذا شيء أوجده عبدالناصر.
الدرجة الموجودة من عدم التنسيق العربي ومن الترهل العربي ومن التناقض العربي ومن عدم تنبه كافة الأعصاب الحساسة في الجسد العربي يجب أن نعترف بها.. ولكن يبقى أن ثمة شيئا يضع حدا أدنى لهذا ويحول دون أن يتحول عدم التنسيق والاشتغال بالمعارك الجانبية إلى فوضى شاملة وتسيب كامل فتنقَض الذئاب المنتظرة على القطيع المبعثر المشتت واحدا واحدا.. وهذا الشيء هو قيادة عبدالناصر أنه يحمل على كتفيه كل هذا.. حتى من يتدلل ومن يتلهى ومن يجد ترف الانشغال بمعارك جانبية يعرف أن وجود قيادة عبدالناصر في خط المواجهة هو الذى يسمح له بهذا الترف.. وإلا أدركه الطوفان.
حتى من يتمتع بترف آخر هو ترف المزايدة دون أن ينكشف أو يقدم الحساب.. يعرف أن الميزان موجود يغطيه بوجود غيره في خط المواجهة بوجود قيادة عبدالناصر.. وهذا كله يثير الأعداء ويدمر عقولهم.. يثيرهم أن ترتبط “اللعبة” في المنطقة كلها به وهو منتصر.. ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو غير منتصر.. ذلك أنهم يرون المغزى هنا أعمق والارتباط أقوى.. وهم لا يتمنون إلا أن تدب الفوضى ويعم التسيب فتنقض الذئاب الغريبة عن المنطقة العربية على القطيع المبعثر تلتهمه واحدا واحدا.
انتهت الكلمة التي كتبتها منذ عشرة شهور وماذا نقول اليوم ؟
نقول شيئا واحدا: إن هذا الدور لابد أن يُملأ ولا يمكن أن تملأه إلا مصر كلها لأن في استمرار هذا الدور حياتها وحياة كل العالم العربي.. وهذه حقا كما قال عبدالناصر في أحزن ساعات حياته; ليست ساعة الحزن ولكنها ساعة العمل. كان هذا المقال كشفا ونبوءة عن ما سنصير إليه إذا نحن فرطنا في خط عبد الناصر.. أو إذا نحن لم نكن على مستوى المسئولية الملقاة على عاتق مصر كلها بعد رجيل ناصر.. كان المقال صرخة ومرثية لكن الآذان كانت قد بدأت تستنيم للصمم.
الفارس يظل نبيلا
ويعود الفارس للدفاع من جديد عن عبد الناصر وخطه ومبادئه ومنجزه بمقال يسكت الألسنة ويلقم الناعقين أحجارا.. ففي يونيو 1987، قرر المسئولون عن صحيفة الوفد الاحتفال بمرور 20 عاما على هزيمة يونيو بطريقتهم، وذلك بتخصيص صفحة أو صفحتين يوميا، بعنوان “عشرون سنة على هزيمة يونيو 1967”.. وكانت المادة الاساسية لهذه الحملة دراسة كتبها شخص يُدعى حمدي لطفى عن الهزيمة، استخدم فيها كل وسائل التشويه والهجوم ضد عبدالناصر والثورة، و زخرت بالقصص الخرافية التي لا أساس لها.. بالإضافة إلى هذه الدراسة استكتب الوفد آخرين من أمثال: عبدالعظيم رمضان، ولمعى المطيعى.. كتبوا بنفس المستوى وبنفس الروح العدائية.. وقد تزامن ذلك مع احتفال جماعة الإخوان المسلمين بذات المناسبة بكتابات جاهلة ومسمومة في مطبوعاتهم.
استفزت هذه الحالة الموتورة الأستاذ بهاء، فكتب مقالا بعنوان “موتوا بغيظكم” قال فيه:” سنذهب جميعا إلى القبور، وسيأخذ كل رجل من رجال تاريخنا حجمه الطبيعي بعد أن تختفى أجيالنا التي تحركها الأهواء والأحقاد والميول المتباينة في شتى الجهات، وسيبقى اسم جمال عبدالناصر علامة في تاريخ مصر والأمة العربية وثلاث قارات من قارات العالم الخمس، علاقة لم يسبقه إليها مصري ولا عربي منذ قرن، وستبقى ثورة 23 يوليو 1952 بخيرها وشرها، ككل ثورة، علامة ناصعة في تاريخ كل المستضعفين في الأرض، شعوبا ودولا، قولوا ألف مرة إن جمال عبدالناصر كافر، وإنه زنديق، وإنه عسكري زنيم، وأن اليهود تولوا تربيته في حي السكاكيني صبيا، وأجروا له غسيل مخ في الفالوجا 1948 ضابطا، وأن الأمريكان تسلموه من إسرائيل ليحكم مصر باسمهم، نعم هذا بنص التاريخ الذى يُكتب هذه الأيام، سنذهب جميعا.. ويأخذ كل واحد حجمه الحقيقي بعد سنة وبعد مائة سنة، إن الذين يكتبون عن 5 يونيو 1967 بابتهاج شديد يذرفون دموع التماسيح على القتلى والجرحى، ذلك أنهم شربوا شمبانيا يوم غزو الإنجليز لمصر سنة 1956، ثم خاب ظنهم حتى حققت 1967 لهم الأمل، وهم يعتبرونه انتصارا لهم.. الذين يتاجرون بدم الشهداء ويكذبون على الأموات ويستعملون المجانين، إنهم لا يرون مأساة تناقضاتهم التي يسخر منها أبسط الناس، ساعة يقولون إن كل واحد بطل، وكان له فضل في 23 يوليو 1952 ما عدا جمال عبدالناصر، وبعد سطور جمال عبدالناصر هو المسؤول عن كل شيء، في نفس الصفحة هو جبان، وهو وحش كاسر!.
عبدالناصر لم يترك لكم أهرامات، ومعابد تبقى بلا بشر، إنما ترك لكم سدا عاليا وكهرباء ومصانع، كلها كائنات حية، تحتاج إلى مجهود بشرى وتواصل ورعاية تُجدد وتُوسع، تركها لكم ومات منذ 17 سنة، فهو ليس مسؤولا عن الإهمال والهدم والتسيب بل والتدمير المتعمد الذى أوصلنا إلى هذا الحال.
ترك مصر في حالة حرب، ولكنها تبنى مجمع الألومنيوم في نفس الوقت وديونها أقل من ألف مليون دولار، بعد 17 سنة من وفاته وصلت الديون إلى أربعين ألف مليون دولار، أخذ من القادر، وأعطى غير القادر، الآن يأخذ القادر ملايين الدولارات ويهرب مُكرما إلى أوروبا”.
هكذا كان الأستاذ أحمد بهاء الدين رجلا لا يساوم على مبدأ.. يدافع عن الحق الذي خبره دون مواربة.. لا يخشى المواجهة مع رأس السلطة ولا يستنكف الرد على كل جهول موتور كان بهاء الدين صلبا وصلدا ونبيلا وكبيرا .. رحم الله الكبار ورحم زمانهم.