عانى كثير منا من تجارب صعبة مع اللغة العربية. فبعض المدرسين تقليديون جدا، ويستخدمون كلاما عربيا، لكنه غير مفهوم. وكانت حصة اللغة العربية، بالنسبة إلينا، حصة طلاسم. وكثيرا ما كنا نتساءل: هل المشكلة فينا، أم في المدرس، أم في طرق التدريس؟
لكن ربما تكون طرق التدريس هي أكبر سبب في عدم قدرتنا، فيما بعد، على تطبيق قواعد اللغة التي تعلمناها، ثم الوقوع في الخطأ.
وقد مررت أنا نفسي بتجربة عندما بدأت تدريس العربية للأجانب في بريطانيا، وكنت أرتكب الأخطاء نفسها التي يرتكبها معظم المدرسين. إذ كنت أركز في تدريسي على قواعد اللغة، وكنت أختلق عددا من الجمل تدور على القاعدة التي أشرحها، وكنت أقرأ تلك الجمل وأكررها للطلاب، ثم أطلب منهم قراءتَها، وبعد ذلك أستخلص القاعدة.
كان الدرس بهذه الطريقة مملا وغيرَ مفيد، لأنه يتغافل عن وظيفة اللغة الأساسية.
وعرفت ذلك بعد دراستي لعلم اللغة، الذي أدعو إلى تدريسه في مدارسنا لفهم اللغة وطبيعتها.
فاللغة يتعلمها الطالب لأنه يريد استخدامها في حياته: في قضاء حاجاته والتعبير عن أفكاره ومشاعره، بالكلام وبالكتابة، وفي فهم ما يسمعه، وما يقرأه.
ولا أظن أبدا أن هدف الطالب هو تعلم القواعد لذاتها، ولا معرفة المصطلحات النحوية لذاتها، فهذه كلها وسيلة مساعدة.
ونحن عندما نتعلم لغتنا الأم، نتعلمها شفويا من أمهاتنا. والأم لا تلقن أولادَها سوى الكلام، ولا تلقنهم أيَ مصطلحات، فلا تقول مثلا لابنها أو بنتها: هذا فاعل، وهذا فعل، وهذا خبر، وهكذا، بل تتكلم وهم يستمعون.
ولذلك كله غيرت طريقة تدريسي لتتماشى مع وظيفة اللغة الأساسية، وهدف الطلاب من تعلمها. وأصبح الدرس بعد ذلك أكثر توجيها نحو الهدف، وأكثر فائدة.
وطرق التدريس لدينا تغفل هذا كله، فالمدرسون في معظم بلادنا العربية يغفلون المهم وتركزون على غير المهم. فنحن نركز في تدريسنا، كما لاحظت من خلال خبرتي في التدريس، على تعليم الطلاب:
١ – المصطلحات النحوية
فنهتم جدا بتعليمهم، بل أكاد أقول، بتحفيظهم، تلك المصطلحات، مثلِ المبتدأ والخبر، واسم المفعول، والمفعول المطلق، والمفعول لأجله، وأداة الشرط، والحرف الناسخ، والفعل الناقص، والمعتل الآخر، والاسم المنقوص، والاسم المقصور، وشبه الجملة، وهكذا.
فهل يفيد تعلمُ تلك المصطلحات التلاميذَ والطلابَ، عندما يستخدمون اللغة في الحديث والكتابة؟
لا أظن ذلك، فالطلاب يحتاجون أكثر إلى معرفة الوظيفة النحوية لما يدرسونه من قواعد إذا أرادوا التعجب مثلا، أو النداء، أو الاستفهام، أو التأكيد على أمر ما، أو المبالغة في أمر ما، وهكذا.
فالطلاب عندما يستخدمون اللغة، والصحفيون أيضا عندما يستخدمون اللغة، يريدون التعبير عن مواقف معينة. وهذا ما ينبغي لنا مساعدتهم فيه.
٢- مهارة تقسيم الجملة
النقطة الثانية التي تركز عليها طرق تدريسنا المعيبة هي تدريب الطلاب على مهارة تقسيم الجمل إلى عناصرها الأساسية، مثل الجملة الاسمية، وأنها تتكون من مبتدأ وخبر، وهناك مبتدأ مؤخر، وخبر مقدم، وأدوات ناسخة تدخل على الجملة فتغير أركانها. وتعلمهم أيضا عناصر الجملة الفعلية، من فعل، وفاعل، أو نائب فاعل، ومفعول به، وهكذا.
ووسط هذا كله أغفلنا أهم شيء، وهو الوظيفة النحوية.
لكن ما المقصود بمصطلح “الوظيفة النحوية” الذي كررته غير مرة؟
سأشرح ما أقصده هنا بمثال، تعالوا فما وظيفة ”لن“ في العربية في رأيكم؟
ننحن نعلم الطلابَ أن “لن” أداة نصب تنصب الفعل المضارع، ونركز جدا على ذلك، لأننا نركز على الكلمة المفردة، ونوع الكلمة التي تدخل عليها “لن” هي الفعل المضارع، مثل يكتبُ، أو يكتبونَ.
ونركز أيضا على العلامة الإعرابية، والعلامة التي تجلبها ”لن“ في الفعل المضارع هي إما الفتحة في يكتبُ، فنقول “لن يكتبَ”، وإما حذف النون في يكتبون فنقول “لن يكتبوا”.
ووسط هذا التركيز الشديد على التأثير الإعرابي لتلك الأداة النحوية ”لن“، ننسى تماما وظيفتها النحوية الأساسية، وهي أنها أداة نفي للمستقبَل.
فنحن ننفي الماضي باستخدام ”لم“، فنقول:
* لم أكتبْ أمس رسالةً لأخي
وننفي المضارع باستخدام ”لا“، فنقول:
* أنا لا أحبُ الحليبَ باردا
وننفي المستقبل باستخدام ”لن“، فنقول:
* لن أستطيعَ حضورَ الاجتماع غدا.
وأدى إغفالنا لوظيفة ”لن“ الأساسية إلى خطأ أصبح شائعا للأسف، وتناولته في فيديو سابق، وهو قول بعضنا:
* “سوف لن أذهب إلى العيادة”
فمن يرتكب هذا الخطأ، يدرك أن ”لن“ تنفي الفعل، ولكنه لا يدرك قطعا أنها تدل على المستقبل، ولذلك استعان بسوف.