لم يكن تحرير عكا من الوجود الصليبي على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون عام ١٢٩١ ميلاديه نهاية للحروب الصليبية٫ إذ سرعان ما اتخذ الصليبيون المنسحبون من عكا من جزيرة قبرص مستقراً لهم ومركزاً لهجماتهم على مصر والشام.
وأصبحت القرصنة هي النشاط الأساسي لمن تبقى من فرسان الصليبيين٫ حيث صاروا يقتنصون السفن التجارية المبحرة في المتوسط.
وكان من الطبيعي أن تتوجه أنظار هؤلاء القراصنة الى مصر٫ باعتبارها قلب المشرق ومركز دولة المماليك٫ ناهيك عن أن بها ثغر الإسكندرية الذي وصفه ابن بطوطة الرحالة ب”المرسى العظيم” والتي ضمت قناصل الدول الأوروبية وانطلقت منها سفن التجارة إلى موانئ العالم سواء الأوروبية منها مثل البندقية وجنوه ولشبونة او الهنديه مثل كلكتا.
ويكفي للدلالة على مكانة الإسكندرية في العصر المملوكي أن حركه التجارة فيها كانت تحدد أسعار السلع في العالم أجمع.
ولهذا تحديداً٫ باتت الاسكندريه هدفاً لملك قبرص “بيير دي لوزينان” أو “بطرس الأول” الذي رأى في مهاجمة الاسكندريه فرصه لنيل الرضا من البابا أوربان الخامس والدعم من ملوك اوروبا.
استغل بطرس الأول ضعف الدولة المملوكية في تلك الآونة حيث كان سلطانها الأشرف شعبان لايزال طفلاً وكان الحاكم الفعلي هو مقدم العسكر يلبغا وكان على الاسكندريه أمير يصفه المؤرخ النويري بأنه كان “سيء التدبير٫ عديم المعرفة”.
بلغت حملة بطرس الأول شواطئ الإسكندرية في أكتوبر من عام ١٣٦٥ ميلادية ورغم أن مقاتلي المدينة واجهوا الحملة بمقاومة شرسه في بداية الامر٫ الا ان القبارصة وجدوا ثغرة في سور المدينة نفذوا منه الى داخلها.
وما أن أصبح بطرس الأول داخل المدينة حتى “استلم الناس بالسيف” على حد تعبير النويري وقتل جنوده كل من صادفوه من الخلق في الشوارع والمنازل والجوامع والخانات والحمامات.
ولم تفرق سيوف الغزاة بين مسلمين وغير مسلمين من اهل الاسكندريه٫ فاحرقوا الفنادق التي كان ينزل بها ضيوف المدينة من القادمين من جنوة ومرسيليا وغيرها من مدن أوروبا.
ولم تسلم منهم حتى الدواب التي طعنوها بالرماح وتركوها ملقاة في الميناء بعد استخدموها في حمل ما نهبوه من المدينة إلى سفنهم.
وعلى عادة القراصنة٫ غادر بطرس الأول المدينه بعد ان عاث جنوده فيها فساداً خشية وصول نجدات إليها وذلك بعد أن أخذوا في سفنهم نحو خمسة آلاف أسير من أهل الإسكندرية من مختلف الطوائف.
ظل غزو الإسكندرية جرحاً غائرًا في ذاكرة أهل البلاد خاصة أن القبارصة استباحوا سفن المسلمين في مياه المتوسط منذ ذلك الحين وكثرت حوادث نهب السفن واسر المبحرين على متنها.
وظلت هذا الوضع مستمراً حتى تولي الأشرف سيف الدين برسباي حكم السلطنة عام ١٤٢١ ميلادية والذي أخذ على عاتقه وقف تعدي القراصنة على مصر والشام والانتقام لاهل الاسكندريه مما حاق بهم على يد القبارصة.
ورغم أن برسباي بدأ عهده بمحاولة عقد صلح مع القبارصة عن طريق وساطات من قناصل الكتلان والجنويه والبنادقه، إلا أن ملك قبرص الجديد جانوس لم يستجب لهذه الوساطات كما رفض طلب السلطان إعادة الأسرى الذين لديه متعللاً بانه يستخدمهم في زراعة قصب السكر في بلاده.
ادرك برسباي ان الوقت قد حان لتوجيه حملة عسكرية الى قبرص وبالفعل وجه ثلاث حملات متتالية الى تلك الجزيره بداية من صيف عام ١٤٢٤ ميلاديه.
نزلت الحملة الأولى أرض قبرص، وهاجمت ميناء “ليماسول”، وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد لمهاجمة سفن المسلمين، وغنم مقاتلي الحملة غنائم كثيرة، ثم عادت الحملة إلى القاهرة.
شجع هذا النجاح السلطان برسباي على توجيه حملة ثانية إلى قبرص عام ١٤٢٥ بقيادة الأمير جرباش الكريمي وكانت اكبر من الاولى من حيث عدد المقاتلين الذين حملتهم أربعون سفينة وكانت نتائج هذه الحملة أعظم حيث نجح المقاتلون في تدمير قلعة ليماسول وقتل أمير الملاحة القبرصي الذي قتل الكثير من اسرى المسلمين ثم عادت الحملة إلى القاهرة وفي حوزتها الف اسير وغنائم كثيرة حملها “مائة وسبعون حمالاً وأربعون بغلاً وعشرة جمال”.
أما الحملة الثالثة والحاسمة فقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة السفن الخاصة بها في كل من بولاق وثغور السلطنة في كل من دمياط وبيروت.
وفي شهر شعبان الذي وافق شهر يوليو عام ١٤٢٦ ميلاديه اجتمعت جموع المجاهدين في بولاق وبدأت السفن في حملهم وبلغ تدفق المتحمسين للجهاد حد اضطرار السلطان للاعتذار للراغبين في المشاركة في الحملة بعدم وجود متسع في السفن لحمل هذه الأعداد الكبيرة.
وبلغت الحملة قبرص بعد رحله شاقه تعرضت فيها لعواصف بحرية٫ إلا أنها وصلت “لنديا” القريبة من ليماسول ثم هاجمت ليماسول واستولوا على قلعته ورفعوا عليها راية السلطنة ثم واجهوا الملك جانوس على مقربة من معسكره في خيروكيتا.
وجد المقاتلون في هذه المعركة فرصة سانحة للانتقام لاهل الاسكندريه فقتلوا من القبارصة اعداداً كبيرة قدرها بعض المؤرخين بنحو ستة آلاف من بينهم شقيق الملك٫ بل ان جانوس نفسه نجا من القتل بأعجوبة بعد أن سقط عن فرسه واحاط به المقاتلون المسلمون فصاح بالعربيه “أنا الملك” فاخذوه اسيراً.
ثم دخل المقاتلون عاصمة قبرص وصلوا الجمعة فيها واتاهم اعيان المدينة ورجال الدين يطلبون الأمان لأنفسهم ومدينتهم فاجابوهم الى ذلك.
ونادى المنادي أن قبرص أصبحت قسماً من السلطنة وان الجزيره باتت “من جملة بلاد السلطان الملك الاشرف برسباي”.
وفي أول أيام عيد الفطر من ذلك العام وصل المنتصرون إلى ساحل بولاق وساروا إلى القلعة -مقر الحكم- في موكب حافل يضم الأسرى الذين زاد عددهم عن ثلاثة آلاف من بينهم الملك جانوس الذي وُضع على ظهر “بغل اعرج” ثم عرض على السلطان الذي وافق بعد وساطات عدد من القناصل على أن يقبل الفداء من جانوس والذي حدده بعد سلسلة من المفاوضات ب٢٠٠ الف دينار اضافة الى شرط وضعه السلطان وهو أن يحكم جانوس قبرص كنائب له عليها وأن يدفع للسلطنة جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار.
لم يطل عمر جانوس بعدها٫ إذ توفي عام ١٤٣٢ وظلت قبرص “من جمله بلاد السلطان” وظل ملوكها يدفعون الجزية لسلطان مصر والشام.