هذا الحوار، نقلًا عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية، لقراءة المصدر الأصلي، أضغط هنا
الحديث عن دخول العالم في حقبة «ما بعد الغرب» لم يبدأ مع الهزيمة الأميركية في أفغانستان. أوّل مسؤول رسمي بشّر بهذا الزمن الجديد، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في «مؤتمر الأمن والتعاون في ميونيخ»، في منتصف شباط 2018. سلسلة متتالية من التطوّرات الدولية المهمّة، العسكرية والسياسية والاقتصادية، كانت قد أكدت تراجعاً تدريجياً ولكن مستمراً للهيمنة الأميركية والغربية، وصعوداً لدور لاعبين جُدد، دولتيين وغير دولتيين، وتزايداً في قدرتهم على التأثير في مسار الصراعات الجارية وفي مآلاتها. غسان سلامة، المفكر والأستاذ الجامعي ووزير الثقافة اللبناني الأسبق، والذي رأس بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا بين عامَي 2017 و2020، كان من بين أبرز الخبراء في العلاقات الدولية الذين توقّعوا، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، في أوجّ النشوة الإمبراطورية الأميركية، فشلَ هذه الأخيرة بفرض سيطرة أحادية على العالم. وهو اعتبر، في مقابلة مع «الأخبار»، أن مسار توزُّع القوّة والنفوذ على الصعيد الدولي، سيتعزّز في السنوات المقبلة، وفي سياقات أكثر تعقيداً من سابقاتها، نتيجةً للتشابك الكبير في المصالح الاقتصادية بين القوى المتنافسة استراتيجياً.
أدى الانسحاب الأميركي من أفغانستان إلى نقاش واسع ولافت حول تراجع هيمنة واشنطن، إلى درجة أن فرانسيس فوكوياما، ونيلز فيرغسون، وآخرين من المنظّرين المبشّرين بأبدية النموذج الأميركي، بدأوا يتحدّثون عن نهاية الإمبراطورية. السؤال الأول هو حول قراءتكم لذلك الاتّجاه، أيْ تراجع القوّة الأميركية، والذي تُمثّل قضية أفغانستان مؤشّراً إليه. برأيكم، متى بدأ هذا الانحدار؟ وما هي أسبابه الرئيسة؟ وأين نحن اليوم؟
_ لن تكون للانسحاب من أفغانستان تداعيات على الولايات المتحدة شبيهة بتلك التي عانى منها الاتحاد السوفياتي بعد انسحابه من هذا البلد في عام 1989 والتي أسهمت في تسريع انهياره. أولاً، الولايات المتحدة ليست دولة محاذية وليست لها مصالح جيوستراتيجية مباشرة في أفغانستان. ثانياً، القرار بالانسحاب كان عليه شبه إجماع داخل النخبة الأميركية، دونالد ترامب كان يؤيّده، وجو بايدن أيضاً كان يؤيّده. ثالثاً، الولايات المتحدة ستحتفظ بالقدرة على القصف من بعيد لأهداف في أفغانستان، كما فعلت قبل أيام. ولكن من دون أي شك، فإن طريقة الانسحاب تشير إلى أمرين خطيرين: الأمر الأول هو أن المفاوضات التي كانت جارية في الدوحة، لفترة عام، والتي كان يقودها زلماي خليل زاد، كانت مفاوضات راهن عليها وعلى ما تمّ الاتفاق فيها الأميركيون أكثر من اللازم، ممّا يعطي صورة عن عدم معرفتهم بنوايا وبقدرات خصمهم. وثانياً، أن اعتمادهم على حكومة أشرف غني، وأيضاً على الجيش الذي كانوا قد حاولوا بناءه كان اعتماداً مفرطاً إلى حدّ كبير، بالتالي، تصوّرهم بأنه بالإمكان أن يحصل اتفاق لتقاسم السلطة بين الحكومة التي كانوا يدعمونها وبين “طالبان”، كان ناجماً عن حساب خاطئ. ما أشير إليه هنا هو أن الدول الكبرى أيضاً تقوم بحسابات خاطئة في مواجهة العديد من الأزمات. بالتالي، هناك اليوم شكّ حقيقي في قدرة الولايات المتحدة على فهم بلد عاشت فيه وحكمته بطريقة غير مباشرة لفترة عقدين من الزمن. هذا يشير إلى ضعف في المعلومات، ضعف في التحليل، ضعف في ما يسمّى بـcultural empathy، يعني في تفهّم المعطيات الثقافية في أي بلد.
هل هذا سيؤثّر في المصالح الأميركية؟ طبعاً، لأن الهيبة الأميركية عندما تُضرب، تخسر الولايات المتحدة. عندما حصلت أحداث أيلول 2001، ضُربت الهيبة الأميركية، ولكن كانت نتيجتها مزيداً من الإصرار على غزو العراق لاستعادة الهيبة. هناك خطر من أمر مشابه في المستقبل. وقد بدأت تصدر أصوات في مجلس الشيوخ والكونغرس للقول بأن “علينا أن نعالج الانحسار في الهيبة الأميركية، من خلال القيام بعملٍ ما”، مثلاً إعادة التواجد العسكري في أفغانستان، أو من خلال عمليات أخرى. وهذا لا يجب أن نضعه جانباً، لأنه لولا أحداث أيلول، ربّما لم يكن ليحصل غزو العراق. أحداث أيلول هي التي أعطت الحجّة لمن كان يطالب قبلها بغزو العراق. هناك الآن بين الدول المجاورة لأفغانستان من يتساءل عن مدى صدقية الدعم الأميركي له، وهذا ينسحب على عدد كبير من البلدان، لا سيما في آسيا، أي في الهند، وفيتنام، والفيليبين، وهي دول في حالة مواجهة مع الصين، وتنظر إلى ما حصل في أفغانستان بشيء من الريبة والخوف والتساؤل على الأقل. أمّا إلى الغرب، في منطقتنا العربية، هناك أيضاً عدد من الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، التي تخشى مفاعيل ما حصل في أفغانستان. ماذا ستفعل إدارة بايدن لاستعادة الهيبة؟ هذا سؤال مهم للأسابيع والأشهر المقبلة. بالتأكيد أنها ستحاول، ولكن كيف؟ بوسائل ديبلوماسية؟ بوسائل عسكرية؟ بتعزيز قواعدها الموجودة في أكثر من منطقة؟ بعمليات ضدّ “داعش” أو ضدّ أهداف أخرى داخل أفغانستان؟ برفض الاعتراف بحكومة “طالبان” إلّا بعد فرض شروط عليها؟ ستتّضح الصورة في المرحلة المقبلة. ولكن من دون أيّ شك، فإن جزءاً من الهيبة الأميركية قد انهار في أفغانستان، وهو قد انهار ليس في قرار الانسحاب الذي كان متفقاً عليه، ولكن في عملية الانسحاب نفسها التي بدت وكأنّها هروب.
ولكن على مستوى المشهد الأوسع، هناك تطوّران ينبغي لحظهما: الأمر الأول، هو أن العلاقة الجدلية بين القوى المحلية – أكانت “طالبان” أو غير “طالبان”، أكانت دينية أو قومية، أكانت يسارية أو يمينية – في علاقتها مع الإمبراطوريات أو مع القوى الكبرى، شهدت تعديلاً في التوازن، منذ عدّة سنوات، لمصلحة الأولى، لأن الإمبراطوريات لم تعد لديها القدرة نفسها على التدخّل وعلى السيطرة، ونرى ذلك في الساحل الأفريقي، وفي عدد من الأماكن الأخرى. وما ينطبق على القوى غير الدولتية المحلية، ينطبق أيضاً على دول مثل إيران وتركيا في علاقاتها مع القوى الدولية. الأمر الثاني، هو توزيع النفوذ بين القوى الكبرى، ومن دون أيّ شك، فإن ما حصل في أفغانستان يعزّز وضع الصين في النظام العالمي. ربّما يضع الهند في موقع دفاعي، يخفّف نفوذ الغرب في آسيا، ويسرّع عملية انفصال آسيا عن النظام العالمي الذي كان يسيطر عليه الغرب. وهذا أمر لم يبدأ في أفغانستان ولن ينتهي في أفغانستان، إنه مسار تاريخي. الصينيون يبدو أنهم اتّفقوا مع “طالبان” على عدد من الأمور، وقد يقومون بتنفيذ مشاريع كان الأميركيون قد فكّروا فيها، مثل إنشاء خط أنابيب من تركمانستان إلى المحيط الهندي. من جهة أخرى، هناك تغيّر حضاري أساسي، ألخّصه في جملتين: من كلّ الحضارات العالمية، هناك حضارة واحدة، وهي ليست الحضارة الإسلامية، أو الصينية، أو البوذية، كانت تعتبر نفسها الحضارة العالمية، وهي الحضارة الغربية. كان هناك نوع من قبول ضمني بفكرة أن الغرب يحمل حضارة عالمية، يحمل قيَماً قابلة للتصدير إلى مختلف أصقاع العالم. هذه الفكرة بدأت بالانحسار منذ نحو عشرين عاماً. كانت صفارة الإنذار لها هي مقال هانتنغتون الشهير في مجلّة “فورين أفيرز”، في خريف عام 1993، عندما قال إن نخب العالم الثالث قد قبلت الحداثة، ولكنها رفضت التغريب. ومنذ ذلك الحين، تطوّرت هذه الفكرة وقبل بها الكثيرون، ليس في الولايات المتحدة فقط، ولكن في أوروبا. هدف حروب التحرير الوطنية، مع عبد الناصر، ونكروما، والثورة الجزائرية، والانتفاضة الهندية، عام 1947، كان الخلاص من الاستعمار الغربي، بينما القوى الجديدة الموجودة الآن في الساحة الدولية، لا تحارب فقط النفوذ الغربي، لكنها تحارب أيضاً النموذج الغربي، وربّما يمثّل انتصار “طالبان” محطّة من محطّات هذا التحوّل، الذي لمسه هانتنغتون في مقاله الشهير، ورفضه البعض حينها.
ولكن قدرة الغرب على تصدير قيَمه ونمط حياته ونموذجه للحكم ارتبطت أولاً وأساساً بقدرته على التوسّع، والاحتلال والسيطرة. يعني الهيمنة الاستراتيجية كانت الأساس لطرح مثل هذه الرؤى. ما رأيناه، في العقود الماضية، هو تراجع هذه الهيمنة، والبعض يربط هذا الأمر بسياسات الحروب المستمرّة التي اعتمدتها قيادة الغرب، أي الولايات المتحدة، التي شنّت الحرب على ما سمّته الإرهاب، ونسيَت الصين وروسيا، المنافسين الاستراتيجيين الحقيقيين. ويضيف البعض بعداً آخر، وهو مرتبط بتحوّلات النظام الرأسمالي العالمي، في حقبته النيوليبرالية المتأزّمة وصعود شرائح جديدة داخل الطبقات المسيطرة في الرأسمالية العالمية.
كيف ترَون انعكاسات التحوّلات في الرأسمالية العالمية على سياسات الغرب وعلى الرؤى الاستراتيجية؟
_ بالحقيقة، هناك أمران يجب التوقف عندهما. أنا لست مقتنعاً بالعلاقة الميكانيكية بين مصلحة اقتصادية معيّنة، وبين عملية عسكرية واسعة لدولة كبرى. يعني اختزال الوجود الفرنسي في الساحل الأفريقي بحاجة فرنسا لليورانيوم من هذه الدولة أو تلك، هو اختزال مبسّط وسخيف. في أفغانستان، ليس هناك من أهداف اقتصادية عظيمة. الحروب لا تُشنّ فقط لأن هناك مصالح معيّنة تسعى إليها دولة ما. هذه كانت حال الإمبراطوريات إلى حدّ ما في القرن الـ19، لكن إمبراطوريات القرن العشرين معقّدة أكثر من ذلك. هناك جانب ثقافي في الأساس. الرجل الأبيض كان في مطلع القرن العشرين يمثّل 28 في المئة من البشرية، وحوالى 80 في المئة من السيطرة على أراضي العالم، من أستراليا إلى كندا، مروراً بكلّ المستعمرات. انتهى القرن العشرين، وانحدر الرجل الأبيض من 28 في المئة إلى 17 في المئة اليوم، وانحدرت سيطرته على مختلف أصقاع العالم من 80 إلى 30 في المئة. إذاً، هناك منحى تاريخي واضح. أعتقد أن هذا الأمر يجب أن نأخذه في الاعتبار، لأن الجيوش أصبحت أصغر بكثير في دول المركز الأوروبي والأميركي. قدرة أوروبا على إرسال عسكر إلى الخارج، ضعُفت إلى حدٍّ كبير، أصبحت ربّما لا تتجاوز بالنسبة لكلّ القارة الأوروبية 30 ألفاً. الولايات المتحدة أصبحت شديدة التأثّر أيضاً بالرأي العام الداخلي لديها. لذلك، يجب أن نأخذ هذا العنصر الثقافي في الاعتبار، لأن ما سنراه في السنوات المقبلة هناك هو مزيد من الرأي الطاغي لمختلف الأقليات غير البيضاء، أو غير الذكورية، في القرار الأميركي، وهذا أمر سيؤثّر كثيراً في سياسة واشنطن في الخارج. ولكن هناك أيضاً جانباً آخر، وهو الجانب الاقتصادي والمالي. الرأسمالية بعد الحرب الباردة مختلفة جوهرياً عمّا كانت عليه قبلها. مثلاً، خلال الحرب الباردة، كان الاقتصاد الأميركي والاقتصاد السوفياتي يديران ظهرهما لبعض، وكان التبادل أقلّ من 100 مليون دولار في السنة. اليوم التشابك بين الاقتصادين الصيني والأميركي حيوي بالنسبة للصين كما هو بالنسبة للولايات المتحدة، لذلك فإن الرأسمالية أصبحت رأسمالية معولمة، وهذا بالمناسبة ما كان لينين قد توقّعه. ولكن هذه الرأسمالية المعولمة تفرض نفسها على الجيوبوليتيك، على الحسابات العسكرية والسياسية. بمعنى أن الحرب الباردة كانت ممكنة أيضاً لأن الاتحاد السوفياتي لم يكن بأي شكل من الأشكال بحاجة إلى الاقتصاد الأميركي، والاقتصاد الأميركي لم يكن بأي شكل من الأشكال بحاجة إلى الاقتصاد الروسي. اليوم، الاقتصاد الأميركي سيضعف كثيراً من دون الصين كمصدر للتصنيع وكسوق، والصين ستضعف كثيراً في حال أُقفلت السوق الأميركية في وجهها وفي وجه صادراتها. لذلك، القول الميكانيكي بأننا أنهينا الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب، بانتصار الغرب، مررنا بفترة 30 أو 40 سنة من الضياع، والآن دخلنا في حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، هو قول ساذج برأيي. لن تحصل بين الصين والولايات المتحدة حرب باردة بالمعنى الذي كان قائماً مع الاتحاد السوفياتي، ستكون هناك صيغة جديدة للتعامل بين جبّارين هما في الآن معاً متنافسان استراتيجياً ومتشابكان اقتصادياً ومالياً. لذلك، فإن تراجع النفوذ الغربي في العالم من الناحية الجيوستراتيجية، لا يقابله تراجع في النمط الرأسمالي. النمط الرأسمالي غزا الصين، وفيتنام، وروسيا حتّى، وما زال قائماً فيها. لذلك، نحن أمام تحدّ علمي ومفهومي كبير: كيف نخرج من منطق الحرب الباردة السابقة ونحاول فهم نظام عالمي فيه هذا المستوى من التشابك الاقتصادي وهذا التنافر من الناحية الاستراتيجية؟ الرأسمالية الحالية تحمل أيديولوجية اسمها “النيوليبرالية”. هذه الأخيرة لم تصب بالصدمة التي أصيبت بها الحالة الاستراتيجية الغربية، ولكن أصيبت بشيء آخر، وهو أنّ انتقالها إلى مختلف دول العالم، جعلها تتنوّع في طريقة تنفيذها. “النيوليبرالية” ليست مثل “النيوليبرالية” في الولايات المتحدة، و”النيوليبرالية” التي حملها الأميركيون إلى العراق أدّت إلى النظام الاقتصادي الفاسد الذي يتحكّم بشؤون العراق اليوم. والنيوليبرالية التي شاهدتُها في ليبيا، هي عملية نهب منظّم للدولة ولثروة الدولة الليبية. إذاً، نحن نرى أن “النيوليبرالية” تدافع عن نفسها وما زالت تتمدّد في أنحاء العالم. ولكن في المقابل، نرى أن الصور المتجدّدة عنها في دول الأطراف، هي كاريكاتورية، بمعنى أنها أخذت من السوق نظام السوق، ولكن لم تأخذ شيئاً ممّا هو في الغرب من عملية تنظيم السوق. بالتالي، أدّت إلى نهب ممنهج، كما حصل في روسيا أيام يلتسن وحاول بوتين أن يوقفه، كما حصل أيضاً في عدد كبير من الدول التي انتقلت بشكل مفاجئ من الاقتصاد الموجّه إلى الاقتصاد الجديد. بالتالي، نحن كعرب أمام مسألة حقيقية، وهي ما هو نوع النيوليبرالية التي ننفّذها؟ نحن ننفّذ في سياساتنا كاريكاتوراً للنيوليبرالية الغربية، والغرب ليس مستاءً من ذلك. بالتالي، علينا أن نسأل أنفسنا: هل التحدّي الحقيقي الذي يواجه النيوليبرالية هو في الأزمات الكبرى التي تعجز الدول عن مواجهتها؟ وهنا أودّ أن أعطي مثلين عن ذلك، حيث رأينا عجز النيوليبرالية عن مواجهة التحدّيات الكبرى: النموذج الأول، أو الحالة الأولى، هي الأزمة المالية الكبرى منذ عشر سنوات، يعني سنة 2008 – 2009، وجدنا أن نظام السوق في قلب الغرب تعثَّر بصورة غريبة، ولولا تدخّل الدولة القوي، مثل وزارة الخزانة في أميركا، والدولة القوية في كلّ من ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا… لكانت هذه الأزمة ما زالت مستفحلة حتّى اليوم. إذاً، منظّرو النيوليبرالية وجدوا أنّها عاجزة عن تجنّب السقوط في أزمات مالية كبرى، وعاجزة عن معالجتها إن حصلت هذه الأزمات. التحدّي الثاني، وجدناه مع “الكوفيد”؛ تصوَّر “الكوفيد” من دون تدخّل الدول، ومنظّمة الصحّة العالمية التي هي قائمة على تعاون دولي. إذاً، نحن أمام أزمات كبرى، النيوليبرالية ليس لديها دواء لمعالجتها، وهي بحاجة للدولة. لذلك، نرى أنّ النيوليبرالية لا تتأثر كثيراً بالنماذج الكاريكاتورية التي نراها لها في مختلف أصقاع العالم، بما فيه لبنان، ولكنها تتأثّر كثيراً بالأزمات الكبرى التي تصيبها في قلب دارها. فصّلتُ سؤالك إلى جوابين مختلفين: الجواب الأول، هو أن لليبرالية تجسيدات كاريكاتورية في مختلف أنحاء العالم تثير القلق عندي لأنها تحرم الناس، ومن بينهم اللبنانيون مثلاً، من ودائعهم، وتحرم الليبيين من ثروة بلادهم، وتحرم العراقيين من الكهرباء في عزّ الصيف… ولكن هناك جزءاً ثانياً من السؤال يتعلّق بالنيوليرالية في دول المركز، حيث نرى أنها كلّ عشر سنوات تصاب بأزمة كبيرة ترغم قادة هذه الدول على العودة للعمل من خلال الدولة، بعدما كانوا قد حاولوا تهميشها أو جعلها مجرّد شاهد على منطق السوق، وليس منظّماً للحياة الاقتصادية بأكملها.
تحدّثتم عن أنّنا، بسبب طبيعة الرأسمالية المعولمة، وتداخل المصالح بين الولايات المتحدة والصين، لن نشهد صراعاً على غرار الصراع الذي شهدناه في الحرب الباردة. ولكن نشهد اليوم توتراً استراتيجياً بين البلدين، وتموضعاً عسكرياً أميركياً، بدأ في الحقيقة منذ فترة طويلة ولكن تعاظم في الفترة الأخيرة، منذ خطاب باراك أوباما، عام 2012، حيث بدا أن هناك اتّجاهاً أميركياً لمحاولة احتواء الصين، من خلال الانتشار العسكري، وبناء التحالفات. وفي هذا السياق، هناك تساؤلات كبرى في المنطقة، خصوصاً بعد الانسحاب من أفغانستان. أحد المبرّرات التي قُدّمت لتسويغ هذا الانسحاب، أننا نخرج من أفغانستان ليس لأننا مهزومون، ولكن لنركّز على مواجهتنا الرئيسة المقبلة مع الصين. هناك خشية كبرى لدى حلفاء الولايات المتحدة من ما سيرتّبه التركيز الأميركي على أولوية المواجهة الاستراتيجية مع الصين، بالنسبة لهم. هل سنشهد، بالفعل، في المرحلة المقبلة، انسحاباً أميركياً من المنطقة؟ وماذا عن حلفاء الولايات المتحدة؟
_ في السنوات الثلاثين الماضية، سمعت مراراً وتكراراً بأن الولايات المتحدة قررت الانسحاب من الشرق الأوسط. سمعت ذلك على لسان بيل كلينتون، وسمعته على لسان جورج بوش الابن، قبل أحداث أيلول، حيث كتب مقالاً في مجلّة “فورين أفيرز”، قبل انتخابه بأشهر، قال فيه إن سياسته واقعية، ستسعى إلى نجنّب الحروب “غير الضرورية”. وسمعته طبعاً ممّن جاء بعده، من باراك أوباما، وأيضاً من دونالد ترامب الذي قرّر الانسحاب من أفغانستان، وأيضاً طبعاً من جو بايدن. ولكن يأتي، دائماً، عنصر جديد يجعل تنفيذ هذا الأمل بالخروج من منطقة الشرق الأوسط، متعسّراً. حصلت عملية إرهابية كبيرة في نيويورك، وفي واشنطن، فذهب بوش على إثرها إلى حروب كثيرة في أفغانستان، وفي غيرها من الدول. هل سيحصل الشيء نفسه مع بايدن؟ أنا أرجّح ذلك، لماذا؟ لقد تمّت إعادة بناء جزء كبير من القوة الروسية، وتدخّلت روسيا بقدر ملموس من الفعالية في مناطق وفي أماكن مثل سوريا، أو ليبيا، أو أفريقيا الوسطى… ممّا يجعل منها دولة لا يمكن تجاهلها، خصوصاً أنّها تعتبر نفسها محاذية للشرق الأوسط، على عكس الصين والولايات المتحدة. وهذا واقع يأخذه الأميركيون في الاعتبار. من جهة أخرى، نشهد تزايداً للتمدّد الصيني الاقتصادي والمالي في العالم وصولاً إلى الشرق الأوسط، ونحن نعلم أن جزءاً كبيراً من النفط والغاز الخليجيين يذهبان الآن شرقاً وليس غرباً. أما بالنسبة لأوروبا، فهناك العلاقة التاريخية، والمحاذاة الجغرافية، والمصالح الاقتصادية. لم يزل الجزء الأكبر من الصادرات في المغرب العربي يذهب شمالاً، نحو الاتحاد الأوروبي. لذلك، حتّى لو قرّر الأميركيون الانسحاب، فهذا لا يعني أن الدول الكبرى الأخرى ستحذو حذوَهم، بالتالي سينظرون إلى المنطقة وقد جاء من احتلّ مكانهم، وهذا تماماً ما فعلوه هم، في ما يعدّ أحد أهمّ أحداث المنطقة، أي حرب السويس. حينها، ما حصل هو أن نفوذاً فرنسياً بريطانياً طاغياً في منطقة الشرق الأوسط انتهى في لمح البصر، وجاء النفوذ الأميركي والروسي وحلّ مكانه، في العام ذاته الذي شهد الحرب، أي في عام 1956، بينما تمّ التعبير عن “مبدأ أيزنهاور”، في عام 1957، بعد أشهر على حرب السويس، التي أعتبرها منعطفاً أساسياً في تاريخ المنطقة المعاصر. بالتالي، هناك شيء يضمره الأميركيون ولكن لا يقولونه، وهو أنه ربّما لديهم رغبة في التملّص من وجع الرأس الذي يحدثه الشرق الأوسط في أذهانهم، ولكن هناك قانون في اللعبة الدولية هو أن أيّ فراغ يتم ملؤه، فإن أنت أفرغتَ مكاناً هذا لا يعني أنّه سيبقى فارغاً، يعني أن هناك قوى وطنية ستقوم بملئه، وإن لم تتمكّن بمفردها من القيام بذلك، ستعتمد على قوى كبرى أخرى مستعدّة لأن تساعدها لكي تملأ هذا الفراغ. لذلك، لم أرَ انسحاباً أميركياً من المنطقة رغم كلّ التصريحات التي سمعتها في السنوات الثلاثين الماضية، ولا أتوقّع انسحاباً في عهد بايدن.
هل من الممكن أن تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة هيبتها في إطار المفاوضات على الاتفاق النووي مع إيران، مع ما شهدناه أخيراً من تشدّد أميركي في هذا المجال؟
_ التعثّر في مفاوضات فيينا بدأ قبل الانسحاب من أفغانستان، ولا أعتقد أن الاتجاه الأميركي “الصقوري” نشأ مع الانسحاب من أفغانستان. ولكن من دون أي شكّ، فقد أصبحت هناك عدوانية أكبر من قبل الجمهوريين اتجاه إدارة بايدن، بعد هذا الانسحاب، ممّا سيجعل هامش إدارته في التفاوض مع الإيرانيين أضيَق. أنا أعتقد أن بايدن شخصياً كان يسعى للتوصل إلى اتفاق مع طهران، وأعرف عدداً من الأشخاص الذين كلّفهم بهذه المهمّة. اليوم، انحسر هامش المناورة لديه، من دون أن يعني ذلك نهايته.
الأزمة العامّة لـ”النظام الليبرالي الدولي” هي أيضاً أزمة مؤسساتها، كالأمم المتحدة، التي أصبح دورها تدريجياً صورياً في أكثر من ساحة. لقد لعبتم دوراً مهماً في إنضاج المسار السياسي في ليبيا، الذي أفضى إلى اتفاق في برلين، ومن ثمّ نرى اليوم مجدّداً تعثّر هذا المسار. ما هي، برأيكم، الأسباب وراء ذلك؟ وما هو دور الأطراف الخارجية المختلفة والقوى المحلية؟
_ في الحقيقة، هناك ثلاثة مبادئ سرتُ عليها في ليبيا: المبدأ الأول، هو ضرورة أن تكون الأمم المتحدة في مقعد القيادة، وأعتقد أنني أثبتُ ذلك. لماذا؟ لأن الأمم المتحدة هي الطرف الوحيد الذي ليست لديه مصالح اقتصادية ومالية في ليبيا والذي يمكن له أن يكون على طرف الحياد في النزاعات الداخلية. إذا أخرجتَ الأمم المتحدة من مقعد القيادة في أي نزاع، لا سيما في النزاع الليبي، ما ستشهده هو تنافس حاد بين الدول المختلفة على الجلوس على مقعد القيادة، وهذا ما نشهده إلى حدّ ما اليوم في ليبيا. أعتقد أن من الخطر أن يتراجع دور الأمم المتحدة هناك، لأن غيابها سيؤدّي إلى مزيد من التنافس بين أميركا وفرنسا وإيطاليا وتركيا ومصر وغيرها من الدول. الموضوع الثاني المهم، هو أن الأمم المتحدة لا دور لها إلّا إذا تبنّت مصالح الشعب الذي تعمل معه مقابل الدول الأجنبية. بالتالي، أجزم بأنه لم يحضر ديبلوماسي أجنبي واحد أي اجتماع ليبي – ليبي دعوتُ إليه. الهدف الثالث، هو أن تكون إلى جانب ضحايا قوى الفساد والنهب في البلد حيث تعمل، لا سيما في الدول الريعية مثل ليبيا والعراق، حيث هناك ثروات حقيقية هي موضع نزاع بين مختلف الأطراف. إن أخذت هذه الأهداف الثلاثة، يمكن لك أن تعمل مع الليبيين ليتفقوا على شيء ثمّ تذهب إلى المجتمع الدولي وتقول لهم “احترموا ما اتفق عليه الليبيون!”. كان هذا هدفي ولكن في شهر نيسان 2019، قام السيد خليفة حفتر بالهجوم على طرابلس، ومنعني من إنشاء المؤتمر الوطني الليبي، الذي كنت قد دعوت إليه في مدينة غدامس، والذي كان يمثّل مختلف شراح المجتمع الليبي. غيّرت استراتيجيّتي آنذاك، وقلت ذلك لمجلس الأمن، وقلت: “عليّ أن أبني أولاً تفاهماً دولياً يكون غطاءً لأي اتفاق يصل إليه الليبيون، لكنّني عاجز عن التوصّل إلى وقف لإطلاق النار”. ذهبنا إلى قمة برلين، بعد التفاهم مع السيدة أنجيلا ميركل، في منتصف شهر آب 2019، وانعقدت قمة برلين فعلاً في كانون الثاني 2020، وأنا أعتبرها حتى الآن هي المرجع الذي سارت عليه المسارات الثلاث المتزامنة، التي هي المسار الاقتصادي الذي أعاد عملية إنتاج النفط إلى ليبيا، والمسار العسكري 5+5 الذي لولاه لما حصل أي تفاهم سياسي، وأيضاً التفاهم السياسي. الآن، هناك الكثير من الأمور التي يجب القيام بها. ولكن على من تقع المسؤولية؟ أعتقد أن المسؤولية ثلاثية: المسؤولية الأولى هي على الأمم المتحدة، التي ربّما عليها أن تفهم أن الليبيين اقتنعوا بصوابية استراتيجيتها. لذا، ليس عليها أن تتلطّى الآن وراء فكرة “ندع الليبيين يتفاهمون الآن ونحن مجرّد شهود”، لا، الليبيون بحاجة إلى من يساعدهم. المسؤولية الثانية تقع على الليبيين أنفسهم، فالمسارات الثلاثة المذكورة آنفاً، هي ملكهم وعليهم أن يدافعوا عنها. المسؤولية الثالثة، تقع على الدول الخارجية، التي عندما رأت أن الأمم المتحدة خطت خطوة إلى الوراء في العملية النشطة للتوصل إلى تفاهم، بدأت مجدداً في التنافس على الأرض الليبية.
المشكلة الكبرى التي لدينا في ليبيا، هي أنّها لم تشهد انتخابات رئاسية سابقاً. حلّ نظام “القائد الملهم” في مكان النظام الملكي، وتلته الفوضى لمدّة عشر سنوات. لذلك، لدى كثير من الليبيين خوف من أن تؤدي الانتخابات، ليس إلى مأسسة المشاركة السياسية والحياة الديموقراطية في بلدهم، بل إلى استئثار شخص بعينه بالسلطة من خلال الانتخابات.