مختارات

طوفان الأقصى.. والغضبة الأمريكية الكبرى

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عمان

حسين عبد الغني

التدخل العسكري الأمريكي في الحرب على غزة كان دليلا على فهم أمريكا العميق لما يمثله هجوم طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر الجاري من تهديد خطير لمصالحها العليا وهيمنتها على العالم. فمنذ غزو العراق ٢٠٠٣، لم تنخرط واشنطن بهذه الخشونة أو تستعرض عضلاتها العسكرية في منطقتنا كما تنخرط الآن في الحرب على غزة.

ولمن اتسعت حدقات عيونهم دهشة من أن تنخرط أمريكا العظمى في حرب على قطاع من الأرض يقل في مساحته (25ميلا) عن حي مانهاتن في نيويورك (٣٣ ميلا) وعلى منظمة محدودة وليست دولة بجيش كبير.. يجب عليهم أن يحاولوا معنا قراءة الواقع الاستراتيجي الذي جاءت عملية حماس الجريئة – في الغالب دون أن تقصد – لتغييره كلية.

فبعد حرب أوكرانيا لم يتطور فقط النزاع الأطلسي/ الروسي للتنافس على أوراسيا قلب الأرض بتعبير «ماكيندر» الشهير ولكن تطور معه وهذا هو الأخطر النزاع الكوني بين الصين وأمريكا على قيادة العالم. فقد تخلت بكين جزئيا عن حذرها المبالغ فيه وصارت مستعدة لأخذ بعض المخاطر في مواجهة واشنطن بما في ذلك عدم الاكتفاء بالتمدد التجاري مع الشرق الأوسط بل بالتمدد السياسي وبدء بناء قواعد نفوذ في الإقليم. وقامت الصين في مارس من العام الجاري بإبرام اتفاق مصالحة تاريخي بين إيران والسعودية أقدم وأهم حليف عربي لواشنطن.

وكانت هذه مع توسيع عضوية منظمة «بريكس» الخطوة الأهم لها في مسعاها نحو نظام متعدد الأقطاب في حين تتشبث واشنطن بالإبقاء على النظام الأحادي القطبية وهيمنتها المطلقة على العالم. في هذا الصراع عاد العالم إلى قوانين الحرب الباردة، حيث يتواجه معسكران عالميان «بالوكالة» في كل بقاع العالم ماعدا الحرب المباشرة بينهما بسبب الردع النووي.

في هذه الحالة التي تجددت بعد حرب أوكرانيا بات كل انتصار لحليف مهما كان صغر مساحته أو قيمة النزاع هو انتصار للحلف العالمي الذي ينتظم في صفوفه.. وفي المقابل هو خسارة للحلف المعادي له. وكما نظر مثلا إلى انتصار فيتنام أواخر الستينات، والهند على باكستان في حرب ١٩٧١، على أنه انتصار لما كان يسمى حينها بالمعسكر الاشتراكي، فقد نظر كذلك على أنه انتصار للمعسكر الرأسمالي وقائع مثل انتصار إسرائيل وهزيمة العرب في ١٩٦٧ وسقوط نظام سلفادور الليندي في تشيلي ١٩٧٣.

وضع العالم جيوسياسيا الآن الذي جرت فيه ضربة «طوفان الأقصى» هو وضع المباراة الصفرية الذي تلخصه عبارة جورج بوش الابن عشية غزو العراق «من ليس معنا فهو ضدنا».

جورج بوش
جورج بوش

يمكن القول إن واشنطن وتدخلها العسكري الراهن يفصح أنها أكثر الأطراف فهما وبسرعة للمغزى الاستراتيجي لطوفان الأقصى، وأنها قد تتحول -لو اكتملت- إلى خطوة جبارة من شأنها فك قبضة واشنطن المطبقة على المنطقة لصالح الصين ومحورها الروسي الإيراني.

تغيير قواعد اللعبة في المنطقة كان ليصبح إيذانًا تاريخيا بنهاية الإمبراطورية الأمريكية.. لماذا؟ ببساطة لأن واشنطن توقن أن كل الإمبراطوريات تبدأ أو تتأكد رحلة صعودها هنا حيث فجر التاريخ.. مهد الأديان والحضارات. تبدأ وتتأكد بالهيمنة على الشرق المليء بالحمولات الدينية والمسيطر على شرايين التجارة العالمية والغارق في ثروات النفط والغاز.. وفي هذه المنطقة أيضًا تبدأ رحلة أفول الإمبراطوريات وانهيارها.

آخر إمبراطورية سقطت من عرشها الاتحاد السوفييتي هي مثال صارخ، فقد بدأت رحلة سقوطه منذ إخراجه من المنطقة عقب طرد مصر أكبر حليف عربي آنذاك للسوفييت من المنطقة.

وحتى المسمار الأخير في نعشه تم دقه في الشرق الأوسط بمعناه الجيو سياسي الكبير الممتد من أفغانستان حتى القرن الأفريقي. إذ جاءت النهاية كإمبراطورية وحتى كدولة نتيجة الغزو الفاشل لكابول عام ١٩٧٩.

الانسحاب السوفييتي من أفغانستان
الانسحاب السوفييتي من أفغانستان

من ذلك الوقت صارت المنطقة عصفورا مبتلا ضعيفا ومرتعشا في اليد الأمريكية تخنقه تارة في غزو العراق ومحاصرة الفلسطينيين وتصفية قضيتهم باتفاقات إبراهام وترخي القبضة قليلا أحيانا لكي يتنفس العصفور ويظل قادرا على إنتاج الثروة النفطية ومراكمة فوائضها في أذون الخزانة الأمريكية.

لم تدع واشنطن مجالا لأحد للتكهن بشأن ما الذي تدافع عنه، فدعم إسرائيل المطلق الثابت كالصخر كما قال بايدن ليس إلا جزءا مما وصفته الإدارة بأنه «سنفعل كل شيء للدفاع عن مصالح أمريكا في المنطقة والعالم».

قانون «من ليس معنا فهو ضدنا» يعمل تلقائيا، فمن المؤكد الآن أن قرار حماس بشن طوفان الأقصى كان قرار مستواها العسكري والسياسي في غزة ولم يطلع عليه أحد. لكن هذا القرار حسب استراتيجيا وكأنه نصر إقليمي للمحور الإيراني في المنطقة (إيران والفصائل الداعمة لها في العراق، ولبنان واليمن) وبالتالي نصر دولي لمحور الصين وروسيا.

ومن الناحية الأخرى يعتبر خسارة لأمريكا والغرب وإسرائيل ودول اتفاقات إبراهام والسلطة الفلسطينية والدول المعتدلة.

وفهم إستراتيجيا -على وجه الخصوص- على أنه قطع للطريق على ركوب السعودية قطار التطبيع مع إسرائيل. وهو ما كان يعني بالنسبة للمقاومة تصفية القضية الفلسطينية نهائيا وفتح أبواب العالم العربي والإسلامي على مصراعيه لتطبيع ستكون نتيجته جمعهم كلهم تحت القيادة الأمريكية في حلف ذي طابع عسكري معاد لإيران والصين وروسيا.

الذي قرأته واشنطن في النجاح المذهل لعملية طوفان الأقصى نفسها – وهي قراءة صحيحة من منظور الهيمنة الأمريكية – أن ترك حماس تنتصر معناه أن فصائل المقاومة التي ترفض التنسيق الأمني واتفاق أوسلو ستصبح القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني، وبالتالي فإن محور ما يسمى بالممانعة سيسيطر على الشارع العربي ويتمدد على حساب ما يسمى بمحور الاعتدال المطبع أو المتوجه للتطبيع والمرتبط بالولايات المتحدة.

في ضوء هذا يمكن فهم عناصر الاستراتيجية الأمريكية التي تبلورت رغم المفاجأة:

1- دخول مباشر للحرب بجانب إسرائيل ومدها بجسر أسلحة من الولايات المتحدة، ومن قواعد واشنطن في المنطقة ودعم بنك أهداف عمليات الإبادة الإسرائيلية بمعلومات استخباراتية ومشاركة تخطيطية من القيادة المركزية الأمريكية.

2- منع توسع الحرب أو امتدادها إلي الجبهة اللبنانية والسورية ودخول فصائل عراقية مرتبطة بإيران إلى المعركة. ومنع – وهذا هو الأهم – إيران من الانخراط في النزاع الحالي أو إعطاء الضوء الأخضر لحزب الله لدخولها. وهنا استخدمت أمريكا وبكفاءة وخشونة كل المتاح لديها مثل التهديد العسكري الصريح عبر إرسال أكبر قوة نيران جوية وبحرية وبرية مجمعة في العالم وهي حاملة الطائرات «جيرالد فورد» للبحر المتوسط بما قد تعنيه ضمنا أنها قادرة على إبادة الجنوب اللبناني حتى الضاحية -معقل حزب الله – إبادة تامة. وتهديد مستتر لإيران بأن واشنطن قد تفك اللجام الذي كان يمنع ضربة إسرائيلية على القدرات العسكرية النووية والتقليدية الإيرانية.

تم أيضا تهديد إيران المأزومة اقتصاديا بسبب العقوبات بوقف صرف ٦ مليارات دولار من أموالها المحتجزة لدى واشنطن والتي أودعت مؤخرا لدى قطر.. أموال تعوّل طهران كثيرا عليها في تخفيف أزمتها.

بمنهج الترهيب العسكري المباشر ومنهج الضغط المالي على إيران ولبنان تمكنت الولايات المتحدة مؤقتا من الحيلولة دون تحقق شعار «وحدة الساحات» الذي تبناه محور الممانعة ولم ير النور عند الحاجة إليه!!.

ساعد على ذلك أن المحور العالمي الصيني الروسي.. ترك المقاومة في غزة – حتى الآن – لوحدها في مواجهة الغرب وإسرائيل آفلا مرة أخرى لسياسة الحذر والتراجع أمام الغضبة الأمريكية الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock