كانت نتيجة ثورة الشباب عام 1935 عودة دستور 1923 وعقد معاهدة 1936. ويوضح أهمية هذه الثورة ما جاء على لسان محمد صبري أبو علم زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ عام 1946 – وهو أحد الوزراء السابقين في حكومة الوفد – في بيان ألقاه في ذلك المجلس: ” سيقولون أتريد أن تردنا إلى عام 1918، والظروف قد تغيرت.. لا يا سادة، أنا لا أريد أن أرد البلاد إلى عام 1918، ولكني أريد أن أردكم وأرد البلاد إلى عام 1935. ففي عام 1935 أمكن لشياب البلاد المثقف أن يلزم إنجلترا بالمفاوضة، كما أمكن للشباب المثقف أن يلزم جميع الزعماء باحترام إرادة الأمة، فكانت الجبهة الوطنية وكانت انتخابات سنة 1936″.[1]ولقد قام عدداً كبيراً من قادة ثورة يوليه بالمشاركة في مظاهرات 1935 مثل جمال عبد الناصر وخالد محي الدين وحسن إبراهيم وجلال ندا ومحمد رياض وإسماعيل فريد ومصطفى بهجت بدوي ومشهور أحمد مشهور ولطفي واكد وأحمد حمروش ووجيه أباظة وغيرهم، حيث ألقي القبض على بعضهم وهم طلاب في المدارس الثانوية.
لقد جاء صدور بيان عن اتحاد الطلاب دعوتهم الأحزاب والهيئات أن تتحد لتكوين “جبهة وطنية” تقف أمام العدو المشترك (أي الإنجليز). كان البيان مفاجأة للزعماء، فعقدوا أول اجتماع لهم في نادي المحامين، واتفقوا على تشكيل لجنة لتحرير بيانين: أحدهما يرفع للملك بطلب بعودة دستور 23 والآخر للمندوب السامي البريطاني يطلب بدء المفاوضات لعقد المعاهدة، علن تجتمع لجنة تحير البيان في يوم الأربعاء 11 ديسمبر 1935. [2]
في يوم 12 ديسمبر توجه نسيم باشا رئيس الحكومة وقدم كتابا للملك فؤاد يلتمس فيه عودة الدستور ثم توجه الزعماء بعد الظهر فقدموا كتابهم أيضاً، فأجاب الطلب على الفور. وفي مساء نفس اليوم توجه مصطفى النحاس باشا رئيس الجبهة إلى دار المندوب السامي البريطاني لتسليمه كتاب الجبهة بشأن المعاهد، أي الوثيقة القانونية التي تعلن وتضمن الاستقلال.[3]
كانت الروح الحزبية في ذلك الوقت قد دخلت بالكفاح الوطني النفق المظلم، بسبب الانشقاقات المتتالية للوفد المصري، (الأحرار الدستوريين برياسة عدلي يكن باشا عام 1921 – الوفد السعدي برياسة حمد الباسل باشا عام 1932 – ثم حزب الاتحاد “حزب الملك” وحزب الشعب برياسة إسماعيل صدقي باشا، علاوة على الحزب الوطني القديم)، ولم تتوقف الانشقاقات الوفدية، بل امتدت للفترة التالية فتشكل الحزب السعدي برياسة أحمد ماهر باشا والنقراشي باشا عام 1937 ثم الكتلة الوفدية برياسة مكرم عبيد باشا عام 1941. من جهة أخرى فإن الفترة (1924 – 1935) لم تكن تشجع على قبول رأي الوفد، حيث الحلقة الجهنمية. إذ تجري الانتخابات العامة فتأتي بوزارة الأغلبية، لتدخل في مفاوضات مع الإنجليز، تنتهي سريعاً فتستقيل أو تقال الوزارة، ثم تعطل الحياة النيابية بعض الوقت، وما أن تتجمع عوامل السخط، حتى يتدارك الإنجليز الأمر بإعادة الحياة النيابية والدخول في مفاوضات جديدة تجريها وزارة الأغلبية، ثم تفشل المفاوضات لتسقط تلك الوزارة، وتحل الحياة النيابية مرة أخرى وهكذا.
وقد بدأت هذه اللعبة مع أول وزارة للوفد عام 1924برياسة سعد زغلول نفسه، حيث حدثت أزمة بسبب اغتيال السير لي ستاك سردار(قائد) الجيش المصري وحاكم السودان، وإصرار الإنجليز على سحب الجيش المصري من السودان، فاستقال سعد زغلول، ولما يكمل الوفد “عشرة أشهر” في الحكم، وهو حزب الأغلبية المنتخب. وقد أعقبتها عدة وزارات خلال نحو خمس سنوات هي: وزارة أحمد زيور باشا – عدلي يكن باشا – عبد الخالق ثروت باشا – مصطفى النحاس باشا ” ثلاثة أشهر” – محمد محمود باشا – عدلي يكن باشا – مصطفى النحاس باشا “خمسة أشهر” – إسماعيل صدقي باشا). وتم تعطيل الدستور خلال هذه الفترة، ثم ألغي دستور 23 عام 1930، وحل محله دستور آخر في نفس العام 1930، يعطى صلاحيات أوسع للملك فؤاد.
ومع بداية الثلاثينيات، كان أطفال العصر الذين تفتحت عيونهم على ثورة 1919 قد أصبحوا فتياناً، ومع الجو الوطني الذي نشأوا فيه، ظهرت تطلعاتهم، لأن يكون لهم رأي في الأحدث التي تجري في بلادهم. حيث لم هناك إجماع فكري بينهم على الإعجاب بهذه الدراما السياسية التي كنت تدور على مسرح الحياة السياسية المصرية[4].مما شجع على محاولة الشباب للعمل العام خارج الأحزاب. فكانت جمعية ” المصري للمصري” التي أسسها سلامة موسى وترأسها، متأثرا بلطفي السيد وشعار مصر للمصريين، وكان حافظ محمود سكرتيرها. ثم سميت بجمعية “الاستقلال الاقتصادي”، بعد أن ترأسها عبد الله أباظة خلفا ً لسلامة موسى. كما أسس فتحي رضوان “رابطة الطلبة الشرقيين”. كما أسس محمود تيمور جمعية أدبية باسم “جمعية العشرين”، وكانت العشرين سناً وعدداً، ما عدا محمود تيمور فقد كان في الثلاثين.. وفي هذه الأثناء ظهرت دعوة أحمد حسين ل “مشروع القرش”، وكان هذا المشروع أول تحرك شبابي نحو الخدمة العامة، حيث انتشر شباب وبنات الجامعة، يجمعون القروش بأنفسهم ومن المواطنين جميعاً، لإقامة مصنع للطرابيش بدلاً من استيرادها. وبذا بدأ شباب الجامعات يفكرون تفكيراً مستقلاً دون الانقياد الأعمى لأداء الزعماء، فظهرت جماعات ثورية ناشئة بجانب الوفد، ثبت بالتجربة أنها أقدر من أحزاب الأقلية على منافسته وإحراجه، وكسب بعض أنصاره، وفي طليعة هذه الجماعات جمعية ” مصر الفتاة” التي أسسها أحمد حسين بعد مشروع القرش.
الأسباب المباشرة لثورة 1935:
تألفت وزارة توفيق نسيم باشا في 15 نوفمبر عام 1934، فكان أول أعمالها هو استصدار أمر ملكي بإلغاء دستور 1930وحل مجلسي النواب والشيوخ، وأثار ذلك ارتياحاً كبيراً، وكان هناك شعوراً سائداً بأن وزارة نسيم باشا ستسرع باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة دستور 23 وإعادة الانتخابات، ولكنها لم تفعل، ومر الوقت لكنها لم تقدم شيئا سوى تكرار الوعود، حتى ضاق الناس ذرعاً، واستمر حزب الوفد في تأييدها أملاً في تحسين الأحوال. كذلك بدأت الحرب الإيطالية على الحبشة في 2 أكتوبر 1935 مما جعل الظروف مواتية إثارة القضية المصرية، والضغط على الإنجليز للتفاوض. ورغم هذا لم تفعل وزارة نسيم شيئاً، والوفد منتظر إعادة الدستور وإجراء الانتخابات.
في يوم 3 أكتوبر قابل الملك فؤاد المندوب السامي البريطاني السير ميلز لامبسون، وذكرت الأهرام في اليوم التالي “أن موضوع المقابلة كان التدابير الحربية التي تتخذ، والتي في النية اتخاذها في التطورات المختلفة التي يحتمل وقوعها في المستقبل”. وتوالت الاستعدادات والحشود بشكل مماثل لحالة مصر في عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى. وحين بلغت الأمور هذا الحد أعيد بذلك احتلال مصر من جديد، وقت بريطانيا سيطرتها، وصار مندوبها هو صاحل الكلمة العليا، والحكومة أداة طيعة في يده، والبلاد تحكم بلا دستور يظهر إرادة الشعب، ولا معاهدة تحدد العلاقات مع دولة الاحتلال. فبذلك فقدت مصر ما كانت حصلت عليه من استقلال محدود أو داخلي نتيجة ثورة 1919 أو تصريح 28 فبراير 1922.
ثورة عباس العقاد ومحمود عزمي وجريدة روز اليوسف:
حين جاء شهر سبتمبر سنة 1935، كان قد مضى أكثر من تسعة شهور على وزارة نسيم، والحال على ما هو عليه. فأخذ العقاد يتجه إلى التعبير عن هذا الشعور في مقالاته. فيكتب عباس العقاد في جريدة روز اليوسف، موجها اللوم إلى الوفد والوزارة “ليست قضية ولا مشكلة، وغاية ما فيها تقبل من الإنجليز كل شيء، وزعيم يؤيد الوزارة في كل شيء، ولا ينكر شيئاً بالغاً من الإهانة والضياع، بل ويل وينكر على الناس أن يجهروا بالإنكار”. ويوالي العقاد مقالاته، مصعداً هجومه فيقول: ” إنما كنا وفديين لأننا وطنيون، ولم نكن وطنين لأننا وفديين” ثم يقول برئت من الوفدية ألف مرة، فكيف نفقد حريتنا وكرامتنا لأننا نطلب الحرية والكرامة للناس أجمعين؟”. وقد كان رد فعل الوفد هو قراره بفصل جريدة روز اليوسف من الوفد في 28 سبتمبر.
كان من المقالات التي كتبها العقاد أثناء المعركة: “لسنا عبيداً يا عبيد” و “الطور الأخير” مشيراً إلى ما قاله مكرم عبيد في خطبة له في زعامة النحاس باشا إذ قال: “الواقع أن من يتتبع نهضتنا الوطنية، يلحظ أن الوفد قد تطور إلى زعامة، والزعيم فوق الجميع، ووصف هذه الزعامة بأنها مقدسة.. فعلق العقاد على ذلك قائلاً: “النهضة الوطنية تطورت إلى وفد، والوفد قد تطور إلى زعامة والزعامة قد تطورت إلى زعيم، والزعيم هو مصطفى النحاس، ومصطفى النحاس هو مكرم عبيد!! هذه هي خلاصة النضال ف طلب الحرية ستين سنة. فقد أصبحت قوة النحاس المستعارة من الأمة لازمة للإنجليز في إخضاع المصريين، وما رأيناها لازمة للمصريين في بلوغ شيء من الإنجليز. لقد أصبحت طغياناً علينا واستسلاماً لغيرنا. وما لهذا تحتاج الأمم إلى الزعامات، ولا نحن محتاجون إلى من يعلمنا كيف يكون انتظار الرحمة من الإنجليز. وبعد، فما هي زعامة النحاس باشا، ومن ورائها الدساس الكامن للأمة بمكيدة الخراب!!”.
ولا شك أن مقالات عباس العقاد وكتابات الدكتور محمود عزمي، و”جريدة روز اليوسف” – بما كان يكتبه سائر محرريها – كانت من العوامل المؤثرة التي نبهت الشعور الوطني، ومهدت لثورة الشباب التي حدثت بعد ذلك[5].
تصريح هور:
كان الشعور الوطني معبأ في الأيام الأولى من هر نوفمبر عام 1935، ولكن في يوم 9 نوفمبر جاءت الشرارة، وهي تصريح وزير الخارجية البريطاني ” صمويل هور: “……. عندما استشارونا أشرنا بعدم إعادة دستوري سنة 1923 وسنة 1930 ما دام قد ظهر أن الأول غير صالح للعمل وأن الثاني لا ينطبق على رغبات البلاد، فعلينا إذاً كأصدقاء وكشركاء أن نتعامل بحرية وأن نوجه الحكومة بصراحة” [6]ومعنى هذا أن الحكومة المصرية لجأت للحكومة البريطانية، لتستأذنها في موضوع الدستور، مع أن شأن الشعب والملك وحدهما، ولا علاقة لبريطانيا به بمقتضى تصريح 28 فبراير1922وهي ملتزمة به، ومن ثم فهذا تفريط من جانب الحكومة المصرية. وأن بريطانيا اعتدت على حق البلاد حين أشارت بعدم عودة دستور 1923.
نشر التصريح في مصر يوم 10 نوفمبر وأخذت الصحافة المصرية تهاجمه وتحتج عليه، وفي يوم اجتمعت “اللجنة التنفيذية العليا” التي تمثل اتحاد الجامعة يوم 11 نوفمبر 1935وأصدرت نداءً وطنياً نشر في الصحف في يوم 12 نوفمبر قبيل الاحتفال بعيد الجهاد الموافق يوم 13 نوفمبر، ودعت فيه إلى أن يحتفل طلبة الجامعة والأمة احتفالاً يليق بجلال هذه الذكرى، وأن لا غرض للطلاب إلا الاستقلال التام لمصر والسودان. وكان بياناً قومياً وأنهم بعيدون عن الأحزاب. وظهر رد الفعل في اليوم التالي في الصحف، فنشرت الأهرام يوم 12 نوفمبر هذه العناوين “الجيش وحفظ البلاد داخل البلاد” – “مدير الإدارة الأوروبية في وزارة الداخلية عند وزير الحربية”[7]
الثورة:
في صباح يوم 14 نوفمبر صدرت الأهرام تصف ما حدث في اليوم السابق، فكانت العناوين الكبيرة المنشورة في الصفحة الأولى: “مظاهرات أمس في القاهرة والأقاليم، احتفالاً بذكرى عيد الجهاد الوطني” – “اضراب الطلبة واصطدامهم مع رجال البوليس” – “إطلاق الرصاص على المتظاهرين” – “إصابات كثيرة بين الطلبة والبوليس” – “بيانات عن الجرحى” أمام دار المندوب السامي” – الاعتداء على قنصلية إنجلترا” – “ضباط البوليس من الإنجليز”.
ثم أخذت تصف ما حدث في الجامعة، فقالت: “.. وقبل الثامنة صباحاً اندفعت سيول الطلبة من البابا العمومي للجامعة، واحتشدوا بالفضاء الواقع أمامها، حيث توافد عليهم وفود الكليات والمدارس بأعلامهم، يستقبلهم زملاؤهم بالتصفيق والهتافات الداوية، ويعد زمن وجيز بلغوا ما يزيد على سبعة آلاف طالب….. وبعد الساعة العاشرة زحف الطلبة نحو القاهرة في مظاهرة كبيرة، اتجه معظمها إلى كوبري الجلاء وبعد ان اجتازوا الكوبري انضمت إليه مظاهرة أخرى، ولما اجتازوا كوبري قصر النيل تعرضت لهم قوة من البوليس حاولت منعهم بالقوة فحدث اشتباك بينهم، وأطلق الجنود الإنجليز الذين كانوا يسكنون في قشلاق قصر النيل (مبنى الجامعة العربية الآن) الرصاص على المتظاهرين، ووصلت المظاهرة الميدان. ثم تفرعت، فصار معظمها نحو ميدان عابدين، واتجه عدد كبير إلى دار المندوب البريطاني فظلوا يهتفون بسقوط الإنجليز وسقوط هور ففرقهم الجنود المصريون فساروا إلى النادي السعدي وبيت الأمة. وسارت مظاهرة أخرى تهتف بحياة الاستقلال والدستور، حتى
وصلت إلى “جامع جركس” ووقفت أمام القنصلية الإنجليزية تهتف باللغة الإنجليزية هتافات مختلفة، فتعرض لهم حراس القنصلية، وحولوا الاعتداء على بعض الطلاب، فدافع الطلبة عن زملائهم وحدث اشتباك، وقذف بعض المتظاهرين دار القنصلية بالحجارة وحطموا زجاج نوافذها. فحضر الجند وقبضوا على بعض المتظاهرين.
وفي اليوم التالي14 نوفمبر 1935 اتخذ بوليس الجيزة منذ الصباح الباكر احتياطاته وتدابيره العسكرية في حي الجامعة. وعند الساعة الثامنة تجمع طلبة الحقوق والآداب ثم انضم إليهم طلبة الهندسة فهتفوا جميعا بتضامن الطلبة ثم حضرت طالبات الآداب فانضممن إلى المجموع، وهتف الطلاب بحياة المرأة، وبعد إلقاء عدد من الخطب، خرج المجتمعون إلى الطريق العام وساروا في شارع المدارس، فانضم إليهم طلبة كلية الطب البيطري وكلية الزراعة والسعيدية الثانوية ثم طلبة التجارة المتوسطة بالجيزة وسار موكب الطلبة يحتاط بهم حتى كوبري عباس، وعندما وصلت المظاهرة إلى حدود العاصمة، وهي تقع في منتصف الكوبري – انسحب بوليس الجيزة.
واجتاز الطلبة الكبرى، وما كادت مقدمتهم تبعد بأمتار عنه حتى فوجئوا بقوة من الكونستابلات الإنجليز[8] والأجانب كانت كامنة مترصدة لهم، فوقفوا وجها لوجه أمامهم وأطلقوا الرصاص على المتظاهرين. وكانت القوة تحت قيادة البكباشي ليز والكونستابل لوكنر وقد أخذت أوامرها بإطلاق الرصاص من المستر كين بويد مدير إدارة الأمن الأوروبي في وزارة الداخلية الذي كان المشرف على هو المشرف على معارك إطلاق الرصاص في العاصمة والمسيطر على الوزارة.
صدرت أوامر إطلاق النار على الطلبة فأصيب محمد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزرعة، حيث أصيب بثلاث رصاصات برصاصة في صدره فكان الشهيد من شهداء الجمعة وأصيب عدد أخر من الطلاب بإصابات خطرة، وكان أشدهم إصابة محمد عب الحكم الجراحي الطالب في كلية الآداب، حيث أصيب بثلاث رصاصات في بطنه حيث توفي بمستشفى قصر العيني. ونقل إلى المستشفى عدد من المصابين، من بينهم محمود عبد الله مكي بكلية الآداب وإبراهيم شكري بكلية الزراعة وعبد القادر زيادة بكلية الحقوق ورجائي كامل حسن بكلية الهندسة وآخرون.
توفي الطالب محمد عبد المجيد مرسي في الساعة الرابعة بعد الظهر من نفس اليوم، أما الطالب عبد الحكم الجراحي فقد بقي يغالب الموت خمسة أيام، وذكرت الصحف أنه كتب على سريره بالمستشفى خطاباً إلى مستر بلدوين رئيس الوزارة البريطانية، مطلعه إلى بريطانيا روح الشر وذكر ظلمها وعدوانها على الشعوب وتنبأ بقرب زوال امبراطوريتها. كما طلب ورقة وكتب إلى زملائه هذه الرسالة: “إخواني الأعزاء: إني أشكر شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، واعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة، بل وهب الحضارة للعالم”.
كان مقر كلية دار العلوم بالمنيرة خارج الجيزة فلم يشتركوا في مظاهرة الخميس 14 نوفمبر، لم يرهبهم مما حدث من اعتداء على زملائهم في الجامعة، فصمموا على الخروج صباح 16 نوفمبر رافعين علمهم في مظاهرة حاشدة متوجهة إلى بيت الأمة، الذي يقع قريباً من كليتهم، فساروا بانتظام ، وهم يهتفون بالهتافات الوطنية ، حتى توسطوا شارع المبتديان، فإذا بقوة من البوليس والجيش، الذين كانوا تحت قيادة الضباط الإنجليز تهاجمهم، وتضرب الطلبة بالعصي الغليظة بوحشية، فأصيب كثير منهم بإصابات مختلفة ، ولكن أحد الطلاب أصيب بضربة شديدة على رأسه، أحدثت ارجاجا في المخ وكساً في قاع الجمجمة فوقعاً صريعاً على الأرض مدرجاً بدمائه، وكانت إصابته قاتلة وهو الطالب على طه عفيفي بالسنة الثالثة بدار العلوم . وفي اليوم التالي 17 نوفمبر شيعت جنازته في موكب مهيب، حضره إخوانه طلبة الكلية والأساتذة وطلبة الكليات الأخرى وجمع كبير من المواطنين. وفي يوم 19 نوفمبر توفي محمد عبد الحكم الجراحي. واستحال مستشفى قصر العيني إلى مأتم، ما لبث أن انقلب إلى مشهداً حماسياً تعالى فيه الهتاف للوطن والائتلاف والحرية. وظل الطلبة لا يفارقون الجثمان خوفا من أن تهربه الحكومة كما مع الشهيد محمد عبد المجيد مرسي الذي أرسلت إلى الإسكندرية في الخفاء وبغير تشييع.
شيعت جنازة محمد عبد الحكم الجراحي وكان في مقدمة المشيعين مصطفى النحاس باشا وعلى يمينه الدكتور منصور فهمي عميد كلية الآداب والأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة والدكتور نجيب محفوظ وإسماعيل صدقي باشا حفني بك محمود نائباً عن محمد باشا محمود وإلى يساره الدكتور أحمد ماهر وحمد الباسل باشا والدكتور محجوب ثابت يحيط بهم جمهور المشيعين. ونشرت صوراً للشهيد والعلم الصري والطلبة والطالبات يسرن وراء العلم حاملات أكاليل الزهور.
امتد الإضراب فشمل جميع مدارس القطر ابتداء من السبت 16 نوفمبر وخرج الطلبة في جميع عواصم الأقاليم بمظاهرات انضم إليهم فيها المواطنين، فحدثت مصادمات بينهم وبين البوليس. وشيعت الجنازات في شبين الكوم والزقازيق والمنصورة والإسكندرية وبور سعيد وغيرها من المدن.
قررت الطوائف المختلفة الإضراب العام يوم الخميس 21 نوفمبر احتجاجاً على الأحداث وإظهاراً للحداد على الشهداء. فقررت جميع الصحف المصرية الاحتجاب في ذلك اليوم. كما أضرب التجار الوطنيون في العاصمة والإسكندرية وسائر مدن القطر. كذلك أضرب المحامون عن الحضور المحاكم في جميع أنحاء القطر. كما احتجت هيئات المستشارين واساتذة الجامعة في مختلف الكليات والأطباء وغير ذلك من الطوائف.
مؤتمر عام للطلاب:
قررت اللجنة التنفيذية العليا للطلاب عقد مؤتمر عام للطلاب في كلية الطب، ليعبروا عن شعورهم ويتخذوا ما يرون من قرارات، فانعقد يوم الأربعاء 27 نوفمبر بأحد مدرجات كلية الطب وذكرت الأهرام أنه حضر نحو ألف طالب وامتلأ بهم المدرج الكبير على سعته. وافتتح المؤتمر “نورالدين طراف” الطالب بكلية الطب وعضو اللجنة، فأعلن افتتاحه باسم مصر وباسم الشباب وباسم الدماء التي أهدرت في سبيل الحرية. ووقف المجتمعون دقيقة حداداً ثم هتفوا لذكرى الشهداء. ثم أعلن المؤتمر قرارته – بعد خطابات ألقاها أعضاء اللجنة – وكان فيما بينها: إقامة حفل تأبين للشهداء وتنظيم بضائع مقاطعة للبضائع الإنجليزية، وترجمة الاحتجاجات التي أصدرتها الهيئات إلى اللغات الأجنبية وتوزيعها إلى المفوضيات الأجنبية وإرسالها إلى الصحف الإنجليزية. كما قرروا الاجتماع في الجامعة عند افتتاحها يوم السبت30 نوفمبر 1935. ولكن في اليوم التالي للاجتماع 28 نوفمبر أصدر مدير الجامعة أحمد لطفي السيد قراراً بوقف الدراسة للمرة الثالثة أسبوعاً آخر.
الخلاف بين الأحزاب ينعكس على الحركة الطلابية:
وتحت تأثير الروح الوطنية القوية التي سادت البلاد وتجدد شبابها في ذلك الوقت، نشطت المساعي لتحقيق الائتلاف من جانب الطلبة ومن جانب الصحف وبواسطة بعض الوطنيين المخلصين. وكان من بين الذين نهضوا لحمل عبء الوساطة: عبد الرحمن فهمي بك وعبد الرحمن الرافعي بك المحامي الكبير وحافظ رمضان بك رئيس الحزب الوطني. ومن جانب آخر أمين يحيى بشا من كبار رجال الأعمال، وحافظ عفيفي باشا وكانا يعملان بإيعاز من السراي، حيث المندوب السامي استولى على السلطة والملك في مرضه الأخير، وأحزاب الأقلية تريد أن تقوي نفسها بالائتلاف مع الوفد. لكن الوحدة والائتلاف بين الأحزاب أو الزعماء لم تكن تتم بهذه السهولة، فظل الوفد متمسكاً برفض الدعوة إلى الوحدة أو الائتلاف. وظلا الاختلاف ففريق يرى الاستقلال أولاً وفريق آخر يرى الدستور أولاً، ووصل حد الخلاف والتراشق بتهم التآمر والخديعة.
وانعكس الخلاف على الشباب ففي الاجتماع الذي عقد في مساء السبت بكلية الطب احتدمت المناقشات وظهر الخلاف جلياً آذ أخذ فريقا يدعو لاتباع رأي الوفد وهو المطالبة أولاً بعودة الدستور، وفريق يؤيد الأحرار الدستوريين وهو وجوب المطالة بالاستقلال أولاً. وظهر الخلاف علناً في بيان كلية الطب في الصحف يوم 2 ديسمبر. وتحول الطلاب من الحرب ضد الاستعمار والمطالبة بالمطالب القومية إلى الصراع الحزبي فيما بينهم، لكن جرت جهوداً لرأب الصدع. بسبب الخلاف المفتعل بين الدستور والاستقلال. فما المانع من المطالبة بهما في وقت واحد؟ وجرت خطة توحيد صفوف الطلاب على هذا الأساس. وساعد في دعم هذه الجهود تصريح هو الثاني في صباح الجمعة 6 ديسمبر ألقاه في أثناء مناقشة لمجلس العموم البريطاني أكد فيه أن بريطانيا لن تقبل أن تفاوض مصر في الظروف الحاضرة. كما أدلى تشمبرلين أحد غلاة المحافظين ووزير الخارجية السابق بتصريح أيضاً في المجلس أكد فيه ما صرح به زميله، وقال إن مصر مرتبطة ببريطانيا بموقعها الجغرافي وأن هذا الارتباط لابد أن يستمر.
صدرت جريدة “روز اليوسف” في 7 ديسمبر، وعنوانها الكبير “المانشيت” الطلبة يصدرون قراراً وطنياً رائعا يزول به انقسامهم. كذلك نشرت الجهاد (الوفدية) “بيان هام من لجنة الطلبة التنفيذية العليا” ونشرت الأهرام “بيان لجنة الطلبة العليا – توحيد كلمة الطلبة ”
في نفس اليوم ذهب الطلاب في حماس إلى الجماع ليحتفلوا بإقامة النصب التذكاري للشهداء وقد حفرت على قاعدة النصب أسماء شهداء الجامعة وتواريخ وفاتهم: محمد عبد المجيد مرسي وتاريخ وفاته 14 نوفمبر، وعلى طه عفيفي وتاريخ وفاته 17 نوفمبر، ومحمد عبد الحكم الجراحي وتاريخ وفاته 19 نوفمبر. وصعد وفد من اتحاد الجامعة إلى مكتب مديرها” الأستاذ أحمد لطفي السيد وطلبوا إليه أن يتفضل بإزاحة الستار عن النصب التذكاري. وعتد الساعة العاشرة افتتح الحفل ونزل المدير وعمداء الكليات فاشتركوا مع الطلاب ووقف الجميع دقائق حداد على أرواح الشهداء وقرأ أحد الطلاب آيات من القرآن الكريم، وبعد ذلك ألقى مدير الجامعة كلمته.
وبعد أن انتهى حفل إزاحة الستار خرج الطلبة في مظاهرة لا يحدها النظر متجهين إلى القاهرة عن طريق كوبري عباس حيث ساروا في شارع المدارس فتبعتهم قوات البوليس. ولما وصلوا إلى ميدان الجيزة قابلهم أحد قوات القوة وطلب منهم أن يتفرقوا فلما لم يستطع منعهم أسرع إلى كوبري عباس وأمر بفتحه ليمنعهم من العبور، ورابط بقوته عن بعد، فانصرف بعضهم وبقي القسم الأكبر مصرا على عبور النيل، فنزل بض طلبة كلية الهندسة وأقفلوا الكبرى، وعبر الطلاب في جموع كبيرة، فهاجمهم البوليس واصطدموا به بشدة. وفي هذه الأثناء وصل لوكاس لك مساعد حكمدار العاصمة، وكان الطلاب يقابلون عصي البوليس بقذف الحجارة، فأصيب بحجر في رأسه نقل على إثرها إلى مستشفى الأنجلو أميركان وكانت اصابته خطيرة. واستنجد مستر بوبل رئيس القوة بالحكمدارية فأمدته بعدد كبير من الجنود. وعندما علم رسل باشا حكمدار العاصمة بتفاقم الحالة وإصابة لوكاس بك انتقل بنفسه لمكان الحادث.
وفي اليوم التالي 8 ديسمبر تفاقمت الحوادث وكان يوماً عصيباً. ونشر عنه الأهرام: ” الحالة في القاهرة أمس – تفاصيل ما حدث من معارك أمام كلية الطب – وعند كلية التجارة – المعركة تستمر أربع الساعات – احراق مركبات الترام واقتلاع المصابيح والأشجار – قطع المواصلات في أغلب المناطق – قضايا المظاهرات – المظاهرات النسائية” وبعد ظهر الأحد 8 ديسمبر اجتمع مجلس الوزراء وقرر إغلاق الجامعة المصرية إلى أجل غير مسمى.
اتفق زعماء الطلبة وجمهور كبير منهم، على التوجه عقب صدور البيان إلى دور الأحزاب ليقابلوا زعماءهم، ويبلغوهم بإصرار وقوة، دعوة الطلاب لهم وقرارهم بالإجماع، إلى وجوب اتحادهم وتكوين جبهة وطنية قوية لتقدم مطالب الأمة إلى الملك وإلى المندوب السامي البريطاني والحصول على الدستور. وفي 11 ديسمبر دعا النحاس باشا جميع الزعماء إلى الاجتماع في داره بمصر الجديدة فتم الاجتماع وحضره جميع الزعماء وأعلن قيام الجبهة الوطنية، فقررت وزارة نسيم باشا أن تبلغ المندوب السامي البريطاني، أنه لا مخرج من هذه الحالة إلا عودة دستور 23. فأسرعت الحكومة لبريطانية في منتصف الخميس 12 ديسمبر بإعلان عدولها عن الاعتراض على عودة دستور 23، وصدر الأمر الملكي بالموفقة على عودة الدستور[9]. وتوجه مصطفى النحاس باشا في مساء نفس اليوم نفس اليوم لمقابلة المندوب السامي البريطاني وسلمه كتاب الجبهة بشأن المعاهدة أو الوثيقة القانونية التي تعلن وتضمن الاستقلال، ويطلبون العودة للنصوص التي انتهت لها مفاوضات “النحاس – هندرسون”.[10]
نأخر رد الحكومة البريطانية، وكانت الإجازة انتهت وعاد الطلاب إلى الجامعة، فلم تنتظم الدراسة وحدثت مظاهرات في يوم 31 ديسمبر، ووفق اليوم التالي انعقاد مؤتمر دولي للجراحة في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، فاغتنم الطلاب الفرصة لإعلان مطالب مصر أمام المؤتمر وفي نفس اليوم نشرت الصحف تصريحاً لأنتوني إدين الذي خلف صمويل هور وزير الخارجية البريطانية، جاء فيه أنه طلب الجبهة المصرية لتسوية العلاقات بين مصر وبريطانيا موضع عنايته الجدية لكن إبداء الرأي فيه يحتاج إلى بعض الوقت، نظراً لحداثة عهده بتولي وزارة الخارجية، ولانشغال إنجلترا بأزمة الحبشة. فاجتمعت الجبهة الوطنية لبحث الموقف، وانتدبت محمد محمود باشا وصدقي باشا لمقابلة المندوب السامي البريطاني، فقابلاه وطلبا باسم الجبهة أن تصدر الحكومة البريطانية تصريحاً رسمياً باستعدادها للمفاوضات حالاً على أساس قبولها لمعاهدة سنة 30، فوعد المندوب ان يتصل بحكومته لهذا الشأن. وفي 16 يناير 1936 وصل جواب الحكومة البريطانية على طلب الجبهة المصرية. فقابل المندوب البريطاني وأبلغه أن أنها مستعدة للمفاوضة للحكومة المصرية في الحال، لكن هذه المفاوضات يجب أن تسبقها مفاوضات مبدئية في المسائل العسكرية، فإذا انتهت المناقشات إلى نتيجة مرضية انتقلت المناقشات إلى مسألة السودان، فإذا انتهت إلى نتائج مرضية كذلك، أجريت مفاوضات بين الدولتين لعقد معاهدة. وختم هذا التبليغ بأن فشل المفاوضات في الوصول لاتفاق ستكون له عواقب وخطيرة. فقد يتعين على الحكومة البريطانية أن تعيد النظر في سياستها في مصر. وأكد المندوب السامي البريطاني على ضرورة بقاء الأحزاب متحدة، لأن الحكومة البريطانية ترغب في أن تجري المفاوضات مع ممثلي الشعب المصري بأسره. ونشر هذا الجواب في الصحف يوم 20 يناير عام 1936[11].
أخفقت المساعي لتأليف وزارة قومية فاتجه الرأي إلى حل آخر، فقد تم الاتفاق على تشكيل وزارة محايدة برئاسة على ماهر باشا، تضم أعضاء من أصدقاء الأحزاب، وتؤلف إلى جانبها هيئة للمفاوضة من 13 عضواً تمثل جميع الأحزاب وبعض المستقلين، تكون للوفض فيها الأغلبية ورئيسها رئيس الوفد. أما الوفد البريطاني فهو المندوب السامي البريطاني في القاهرة، ومعه قواد عسكريون هم قائد القوات البريطانية في مصر، وقائد قوات الطيران في الشرق الأوسط وقائد الأسطول في البحر المتوسط. وعقدت جلسة الافتتاح في 2 مارس 1936 بقصر الزعفران في القاهرة، وفي 9 مارس بدأت جلسات العمل. وعندما اصطدمت المفوضات بعقبات سافر المندوب البريطاني إلى لندن في 2 يونية وبقي بها حتى آخر الشهر، ثم عاد واستؤنفت المفاوضات في أول يوليه. وأخير توصل الجانبان إلى الاتفاق، فقدت في 24 يوليه جلسة عامة بقصر الزعفران، وقع فيها الرئيسان على النصوص المتعلقة بالمسائل العسكرية، وعلى الخرائط الملحقة للمناطق التي تبقى فيها أو تستعملها القوات البريطانية. وقد استطاعت بريطانيا أن تفرض فيه أرادتها وأن تكسب أكبر كثيرا مما كان اتفق عليه في مشروع سنة 1930[12].
للحديث بقية في حوارات أجريتها عام 1988مع شخصيات تاريخية
قادت أو عاصرت ثورة الشباب عام 1935في حلقة ثانية،
يليه حلقة ثالثة لعرض وتقييم معاهدة 1936.
[1] – د. ضياء الدين الريس: الدستور والاستقلال والثورة الوطنية، الجزء الأول، (القاهرة: مؤسسة دار الشعب، 1975)، ص7
[2] – نفس المرجع السابق، الجزء الثاني، ص ص161 164
[3] – نفس المرجع السبق، ص ص171-173.
[4] – حافظ محمود: أسرار السياسة المصرية 1907 – 1952في السياسة الوطنية، (القاهرة: روز اليوسف)، ص 134.
[5] – د. ضياء الدين الريس: الدستور والاستقلال والثورة الوطنية، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص ص45- 48.
[6] – نفس المرجع السابق، ص ص73-74.
[7] – نفس المرجع السابق، ص75.
[8] – constable وتعني شرطي بريطاني
[9] – ص ص162-170
[10] -ص ص173-175
[11] – مرجع سبق ذكره: ص ص178-182
[12] – مرجع سبق ذكره: ص ص183-186