شهدت مصر مؤخراً الإعلان عن ” الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ” بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي . ومثلت تلك الوثيقة – من وجهة نظر عدد كبير من المهتمين بحقوق الإنسان في مصر – بداية جيدة يمكن البناء عليها وتفعيل تنفيذها في المرحلة المقبلة.
وبعيدا عن الشأن الحقوقي المباشر والاهتمام السياسي الذي تحكمه منطلقات مختلفة ومتعددة كان الفن المصري وخلال مراحله المتعاقبة يقف في الصفوف الأولى المدافعة عن حقوق الإنسان سواء تلك التي تتعلق بالحريات السياسية العامة أو المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وساهمت السينما في إلقاء الضوء على كثير من مواقع الخلل في التشريعات المصرية ويمكن اعتبار السينما والدراما بشكل عام أحد وسائل الضغط من أجل سن تشريعات وقوانين لصالح المواطن وتحقيق مزيد من المكاسب الحقوقيه.
سينما التعذيب
في إطار دفاع السينما عن الحريات العامة ورفض كل أشكال انتهاك عقله وتعذيب بدنه فقد قدمت عدد كبير من الأعمال التي كشفت عن معاناة أصحاب الرأي داخل السجون أو المعتقلات في أزمنة مختلفة وبعيدا عن الدوافع التي كانت وراء ما يعرف بموجة سينما تصفية نظام الرئيس عبد الناصر والتي كان من بينها أعمال مثل ” زوار الفجر ” وإحنا بتوع الأتوبيس ” الذى قدمه المخرج حسين كمال في عام 1979 وكان قد سبقه المخرج “محمد راضي ” بفيلم “وراء الشمس “عام 1978 والمخرج ” ممدوح شكري ” بفيلمه “زائر الفجر ” عام 1971
لكن يبقى فيلم “الكرنك ” الذي قدمه المخرج “على بدرخان ” عام 1975 عن قصة نجيب محفوظ هو أشهر الأعمال الفنية والأكثر تأثيرا بين ما قدمته السينما في نقد غياب الحريات خلال حكم الرئيس جمال عبد الناصر ليأتي بعد ذلك “البريء ” رائعة المخرج “عاطف الطيب ” وقصة وحيد حامد والذي تم عرضه عام 1986 وفى عام 2006 تناول فيلم “عمارة يعقوبيان ” جانب من التعذيب الذى تشهده السجون خلال حكم مبارك وقدم المخرج مروان حامد هذا العمل عن قصة علاء الأسوانى وسيناريو وحوار وحيد حامد.
سينما صنعت قوانين
لم تكن الحريات السياسية هي فقط ما شغلت صناع السينما بل يمكن القول بأن مساحة هذا الجانب من حقوق الإنسان كان الأقل حضوراً على الشاشة بالمقارنة بعدد الأعمال التي انحازت إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية
و نجحت السينما في بعض الأحيان في تحقيق مكاسب مجتمعية من خلال سن عدد من القوانين تجاوبا مع تلك الأعمال الفنية .
في عام 1954 قدم المخرج “عاطف سالم ” فيلم ” جعلوني مجرما” عن قصة نجيب محفوظ والذى استوحاه من قصة حقيقة شغلت الرأي العام في ذلك الحين ودارت تفاصيلها حول سفاح ظلت الشرطة تطارده بعد ارتكابه عدد من الجرائم.
أثار الفيلم جدلا واسعا بعد عرضه وتسبب في تعديل تشريعي وصدر قانون ينص على الإعفاء من السابقة الأولى حتى يسمح للمخطئ بدء حياته من جديد.
ويبدو ان الفنان الراحل “فريد شوقي ” كان بطلا لعدد من الأعمال التي ناقشت قضايا حياتية مهمة وساهمت في تعديل أوضاع قانونية مُختلة فقد قدم مع المخرج “حسام الدين مصطفى ” فيلم “كلمة شرف ” عام 1973
والذي تناول القوانين المنظمة لزيارة السجون حينذاك ورصد العمل أزمة البطل “سالم أبو النجا ” الذي يعاقب بالسجن عن تهمة لم يرتكبها ويسعى للقاء زوجته كي يثبت لها براءته ولا يجد وسيلة سوى محاولة الهرب من السجن حتى ينفذ ما يريد وفى كل محاولة يفشل ومع كل فشل يزداد عقوبته
وبعد عرض الفيلم تعديل قوانين زيارات السجون، وسمح للسجين بأن يجرى زيارة استثنائية خارج السجن في الأعياد والمناسبات أو إن كان أحد الأقرباء مريضًا.
وفى عام 1975 قدم المخرج “سعيد مرزوق ” فيلمه الشهير “أريد حلا ” والذي تناول حق المرأة في طلب الطلاق من زوجها إذا كانت الحياة بينهما مستحيلة مما يضطرها إلى رفع دعوى للطلاق وهذا ما يسبب لها مشكلات عديدة وإهدار لكرامتها في حال تعنت الرجل ورفضه هذا الطلب وعليها إذن أن تثبت للمحكمة بالدليل القاطع مبررات استحالة الحياة بينهما.
ساهم الفيلم في تعديل بعض المواد المتعلقة ب “بيت الطاعة ” ولفت النظر إلى ضرورة إعادة النظر في بعض مواد قانون الأحوال الشخصية ثم بعد ذلك جاء قانون الخلع.
إلا أن أزمة قوانين الطاعة ظلت قائمة في ظل مجتمع تحكمه تقاليد ذكورية مما دفع المخرجة “إنعام محمد على ” لتقديم فيلم “آسفة أرفض الطلاق” عام 1980، وتدور أحداث الفيلم حول سيدة تفني حياتها من أجل أسرتها، ثم تفاجأ بأن زوجها يريد تطليقها غيابياً . ترفض القرار وبشدة وتلجأ إلى القضاء لتعلن رفضها لقرار الزوج
نجح الفيلم في إلقاء الضوء على تلك القضية ومدى جواز حق الرجل في التطليق الغيابي وما يترتب على ذلك من آثار سلبية وتم إلغاء بعض القوانين المتعلقة بحق الطاعة، وجعله بأمر القاضي.
ومن بين الأعمال التي هزت الرأي العام واقتربت من منطقة شائكه جداً كان فيلم “عفوا أيها القانون ” للمخرجة “إيناس الدغيدي ” عام 1985 والذي رصد تفاوت العقوبة القانونية بشكل كبير في حالات الخيانة الزوجية.
ومفهوم الدفاع عن الشرف لدى كلا منهما حيث يعتبر القانون الزوج الذى يقتل زوجته إذا وجدها متلبسة بالزنا مدافعا عن شرفه وتقضى مواد القانون بعقوبته شهر حبس مع إيقاف التنفيذ بينما في عكس تلك الحالة فالقانون يوجه للزوجة التي تقتل زوجها في وضع مماثل تهمة القتل العمد والذى تصل عقوبته إلى السجن المؤبد ويكشف “عفوا أيها القانون ” ذلك العوار في رؤية المجتمع والقانون لمفهوم الخيانة الزوجية في الحالتين.
حيث قضت المحكمة على بطلة الفيلم “هدى ” بالسجن 15 عاما مع الشغل والنفاذ وهذا فقط لأن القانون يفرق بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بقضايا الشرف.
ضد التحرش
تمثل ظاهرة التحرش واحدة من أسوأ المشاهد التي انتشرت في الشارع المصري وبالإضافة إلى ما تمثله من انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان خاصة المرأة الضحية الأغلب لتلك الظاهرة القبيحة إلا أن القوانين في السابق لم تكن رادعة بما يكفى لمواجهة التحرش والمتحرشين وفى عام 2010 قدم المخرج “محمد دياب ” فيلم “678” والذى يرصد المعاناة اليومية التي تواجهها المرأة المصرية في حياتها اليومي نتيجة هذا السلوك ويتساوى الجميع بمختلف ثقافته أو مستواه الاجتماعي او حتى طبيعة زييه في تلك الهجمة على جسد المرأة كما يكشف عن الموقف السلبى للمجتمع – آنذاك – تجاه مساعي الضحايا للحصول على حقوقهم عبر القضاء .وساهم الفيلم في تفعيل المواد التي تعاقب المتورط في التحرش كما أنه لعب دورا في تغليظ العقوبة بشكل كبير .
في المقابل كان اهتمام السينما بالحقوق الاقتصادية شديد الثراء حيث قدمت مئات الأعمال التي ترصد الفقر والعشوائيات وتردى أحوال البشر وفقدانهم للحقوق الأساسية مثل العمل والسكن والصحة .