حين توفي السلطان المملوكي الأشرف برسباي عام ١٤٣٨ ميلاديه٫ لم يترك وراءه من يخلفه على كرسي السلطنة سوى ولده المراهق يوسف والذي كان في سن الخامسة عشرة حينها.
وكما حدث من قبل في دولتي المماليك البحريه والبرجيه على حد سواء٫ لم يلبث ابن السلطان الصغير على عرشه سوى بضع أشهر لا غير٫ حيث أجمع أمراء المماليك على ضرورة خلع يوسف بن برسباي٫ واختاروا اميراً من بينهم هو جقمق الذي تلقب بالظاهر ليكون السلطان الجديد.
كان جقمق مملوكاً جركسياً من مماليك السلطان الراحل برقوق وارتقى في المناصب حتى وصل إلى منصب “الأتابك” أو كبير العساكر في عهد السلطان الأشرف برسباي٫ واستطاع بدعم أمراء المماليك الوصول إلى قمة السلطة وهو في سن الخامسة والثلاثين.
وكما حدث مع من سبقه من سلاطين المماليك٫ قضى جقمق سنواته الأولى في الحكم في القضاء على منافسي حكمه في الداخل٫ فلما استقر الأمر له في البلاد وجه بصره إلى ما يجاورها.
ومن الملاحظ أن جقمق لم يرى سلطنة المماليك سلطنة قائمة بذاتها منعزلة أو منفصلة عما يحدث حولها٫ بل رأى سلطنته قسماً من جبهة اسلامية عريضة -اذا صح التعبير- تضم ايضاً الدولة الصفوية في بلاد فارس والدولة العثمانية٫ تلك القوة الصاعدة في آسيا الصغرى.
ولذا انتهج جقمق سياسة ودية مع هذه الممالك٫ فتزوج من اميره عثمانيه موطداً بذلك العلاقة بين دولتي المماليك والعثمانيين وقبل أن يرسل الشاه الصفوي كسوه الكعبه الى مكه المكرمه وهو ما كان حكراً على سلاطين المماليك منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس.
وانطلاقاً من هذا التحالف٫ مد السلطان جقمق بصره نحو جزيرة رودس في البحر المتوسط٫ وهي الجزيرة التي لجأ إليها فرسان الاسبتارية٫ القوه الضاربه في الجيوش الصليبية٫ بعد نجاح السلطان برسباي في السيطرة على مقرهم السابق قبرص.
تحولت رودس على يد هؤلاء الفرسان الى نقطة انطلاق لحملات القرصنة ضد الأساطيل الإسلامية لا سيما العثمانية ومحطة للحملات التخريبية لموانئ المسلمين.
وعلى غرار برسباي٫ وجه جقمق ثلاث حملات متتالية نحو جزيرة رودس وكانت الاولى في عام ١٤٤٠ ميلادية ولم تحقق نجاحاً يذكر٫ ثم اتبعها بحملة ثانية في عام ١٤٣٣ ولم تحقق سوى نجاح محدود.
ويروي المؤرخ والمستشرق الاسكتلندي سير وليام موير في كتابه “تاريخ دولة المماليك في مصر” ان السلطان جقمق ابى الا ان يكلل حملاته بالنصر٫ فقام في عام ١٤٤٤ ميلاديه فجهز اسطولاً قوياً يحمل عدداً كبيراً من البحارة ومعهم ألف من مماليكه الخاصة.
وما أن وصل هؤلاء الى رودس حتى نزلوا الى البر٫ وحققوا لم يحققوه في الحملات السابقة فحاصروا رودس لمدة أربعين يوماً متتالية وظل القتال مستمراً بينهم وبين الاسبتارية خصوصاً بعد وصول مدد اوروبي الى رودس.
في النهاية قرر كلا الطرفين عقد صلح تعهد فيه الاسبتارية بالكف عن مهاجمة الموانئ والسفن التابعة لدولة المماليك وقفلت الحملة عائدة إلى مصر.
وفي مطلع العام ١٤٥٣ ميلادية رحل السلطان الظاهر جقمق لتطوى صفحة فريده من تاريخ دولة المماليك شهدت تحالفاً نادراً بين دولتي المماليك وبني عثمان وفرت لكلتا الدولتين فرصة للتفرغ لمواجهة الغزاة الأوروبيين سواء في آسيا الوسطى أو في اوروبا او في مياه البحر المتوسط.
لم يتكرر هذا التحالف لاحقاً بل استبدل بعداوه عميقه وتنافس حاد بين الدولتين بلغ ذروته في عهد السلطان الأشرف قايتباي الذي كرس كافة جهوده لمواجهة النفوذ العثماني المتصاعد في المنطقة بقيادة سلطان بني عثمان بايزيد الثاني.