من المؤكد أن المفكر الشيخ رفاعة الطهطاوي كان عبقرياً في إكتشاف المواهب القادمة من الريف المصري وتحمل صفات الشخصية المصرية من بين علماء الأزهرخصوصاً المتنورين منهم,وتضلعهم في اللغة العربية وآدابها, كانوا خيرمن عرفتهم هذه المدارس من مجيدي اللغة الإنجليزية أو الفرنسية والإيطالية والتركية, كان الطهطاوي يمثل فعلاً مشروعاً حضارياً لنهضة مص، يفتش عن الكنوز ثم يأخذ بيدها نحو المجد بلا كلل ، سافر الشيخ إلى الأقاليم يفتش في المكاتب عن نجباء التلاميذ يختار منهم من يصلح ليكونوا تلاميذ لمدرسة الألسن، وكانت قد انتشرت هذه المكاتب في الأرياف، وأسست على نظام جديد، فيه شيء من الثقافة المدنية كالحساب وما إليه، وسميت «مكاتب الأرياف الأميرية» وبلغ عدد طلبتها خمسة عشر ألفًا، اختار «الشيخ» منهم خمسين، وأكثرمن اختارهم من الصعيد.
هل إنحاز الطهطاوي للصعيد
هل كان رفاعة ينحاز للصعيد وعصبية لأهل بلده وإقليمه؟ قد يكون ذلك، فالمحسوبية داء قديم، وكما يصح أن يفسر هذا التفسير السيء يصح أن يفسر تفسيرًا آخر نبيلًا، وهو أن إقبال الناس على تعليم أبنائهم كان ضعيفًا، وكثير ممن تعلموا في ذلك العصر تعلموا بالإكراه، وكان من يؤخذ ليتعلم يودَّع بالصياح والعويل، كما يودع من قبل في الجندبة اليوم، وقد يقبل الناس أن يتعلم أبناؤهم في مكاتب بلادهم، أما أن يسافروا إلى مصر بعيدين عن أنظارهم ولا يعرفون عاقبة أمرهم، فهذا ما لا يقبلون؛ والشيخ رفاعة صعيدي له في قومه جاه، وله في بلده وما حوله حسن سمعة، فالناس يطمئنون أن يسلموا أولادهم له، وليس له من هذه الوجاهة في الوجه البحري ما لم في الوجه القبلي، فلعل علة كثرة الصعايدة في الدفعة الأولى من تلاميذ مدرسة الألسن، حتى إذا اطمأن الناس إلى هذه المدرسة رأينا التلاميذ من الأقاليم المختلفة لا فرق بين صعيديِّهم وبحريِّهم ( بحسب كتاب بناة مصر الحديثة د رفعت السعيد), ليس من السهل إنشاء مدرسة كهذه، فهي تسبب مشاكل لا تنتهي: طلبة من الأرياف «بعَبَلهم»، لم يروا إلا زرعهم وضرعهم وبيتهم المتواضع الذي تنام فيه الجاموس والبقر بجوارهم، وفيهم للتزوج وله أولاد، وفيهم من لم يبلغ الحلم، يدخلون فجأة هذا القصر المنيف، ويراد منهم أن يعيشوا عيشة نظامية نظيفة، ويجلسون أمام مسيو «بتيير» يتعلمون منه الفرنسية! يا لها من معجزة! والشيخ علي الفرغلي الأنصاري يخلع حذاءه ويشمِّر ويتوضأ، ويخلع جبنه، ويفرشها على الأرض، ويصلي الظهر في حجرة واحدة مع مسيو «ديزون».
كان رفاعة يدرك أهمية مشروعة لمصر وتحمل كثيراً من المصاعب فقد كان يدون ملاحظات وسلوك الطلاب ومن يتطور منهم نحو المعرفة وقد سجل في دفتره الخاص ملاحظة عن الطالب (أحمد عبيد الطحطاوي) من طهطا بلد رفاعة وهذا الطالب ضمن طلاب آخرين في المدرسة يبصق على أرض الحجرة المصنوعة من «الباركية» عقليات مختلفة في الطلبة، وعقلية متباينة في الأساتذة، ويُطلَب من كل هذه العناصر المتناقضة أن تكوّن وحدة.
لا بأس، فالشيخ رفاعة قادرعلى كل ذلك، وقد مر بهذه الأدوار كلها وعرف عقلياتها، فهو يستطيع مواجهتها ومعالجتها، هو ملتقى العقليات المختلفة والتقاليد الاجتماعية المتباينةوقد صار هذا الطالب مترجماً كبيرا ًبعد ذلك .
غريب أمر الشيخ رفاعة في المدرسة, فقد رزقه الله صحة جيدة لا تمل، ورزقه قلة النوم، ورزقه الطبع الفرح المرح الذي يستعذب النكتة ويضحك لها من أعماق قلبه ويشارك في صنعها، بكل ذلك يملأ جو المدرسة، هو أب رحيم لكل الطلبة، وأخ كريم لكل الأساتذة. هو حركة دائمة لا تتقيد بميعاد ولا جرس، يحلو له أحيانًا أن يعقد درسًا بعد العشاء أو في ثلث الليل الأخير فيفعل والطلبة في إقبال على التحصيل، والأساتذة في إقبال على الدرس.
فإذا نال الطلبة قسطًا لا بأس به من الفرنسية والعربية مرنهم على الترجمة، ولكن لا يمرنهم بموضوعات تكتب في كراساتهم ثم تطرح، بل في كتب نافعة يترجمون منها ما استطاعوا، فإذا وقفوا في فهم جملة أو لم يستطيعوا ترجمتها رجعوا إلى الشيخ فساعدهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لغتهم، وخاصة الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة بفضل ما منح من قدرة على التدريس بلغة سهلة، وعبارة فصيحة وقدرته الفائقة على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون. فإذا أتموا الكتاب أو الكتب روجعت ثم قدمت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرًا خالدًا
أمتحن الطهطاوي 15 ألف طالب ,اختار 50 فقط
خمسين تلميذًا اختارهم رفاعة من بين خمسة عشرا ألف طالب ,أي عقل جبار هذا الطهطاوي الفذ ليجمع نظام التعليم الداخليقبل معظم جامعات العالم في مدرسة الألسن يأكلون ويشربون ويلبسون وينامون ويتعلمون على حساب الدولة، ومعهم ثلاثة مدرسين فرنسيين، ومدرسون من علماء الأزهر لتدريس اللغة العربية، ومدرسون للمواد الأخرى وعلى رأسهم الشيخ رفاعة, ومن بين تجارب رفاعة المتميزة في تاريخ التعليم تجربة المشايخ السبعة الكبار في الألسن والعشرين في الإدارة للمدارس وتلك تجربة فريدة ، ومن هؤلاء الذين أشرفوا على هذه المدارس من علماء الأزهر, فكانوا مثالًا يحتذى في النزاهة والتوجيه والنهوض بالنشء, ومنهم الشيخ: خليل الخوانكي, ناظر مدرسة الرحمانية وكان يتدث الفرنسية بطلاقة وهو من خريجي الأزهر , والشيخ: غنيم سالم, ناظر مدرسة شبراخيت الذي كان يجيد الإنجليزية وهو خريج الألسن ، والشيخ: أحمد عصافيري, ناظر مدرسة دمنهور كان متعمقاً في علوم الفقه والشريعه , والشيخ: محمد حسن, ناظر مدرسة أبيار خريج الأزهر، فضلاً عن المشايخ الكبار من صفوة من حصل علي تعليم في مدارس الإدارة بعد إتمام التعليم في الأزهر وهم الشيخ: رضوان بالي, ناظر مدرسة الحلمية الكبرى, والشيخ: وهبه مصطفى, ناظر مدرسة بندر زفتى، والشيخ: محمد كفافي, ناظر مدرسة شربين, والشيخ: سليمان الخطيب, ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ: أحمد الشيخ, ناظر مدرسة فارسكور, والشيخ: علي القهتيم مدير عام التعليم العام , والشيخ: جوده مصطفى, ناظر مدرسة ميت غمر، والشيخ محمد عبد الرحمن, ناظر مدرسة الزقازيق.
وفي نفس الوقت لم يغفل رفاعة حاجة مدرسة الألسن لأساتذة كبار في اللغات الأجنبية وقد إختار من بين مشايخ الجامع الشريف كوكبة تعد بحق كنز علم في اللغات،وقد ألحقم للتدريس بمدرسة الألسن العليا،ومن هؤلاء المدرسين الذين تولوا التدريس بهذه المدارس من شيوخ الأزهر, وعُرِفَ عنهم الجدُّ والميل إلى البحث والتحقيق,وقد تحدَّث عنهم علي مبارك في خططه وذكرهم بالأسم, كالشيخ: محمد قطه العدوي، والشيخ: الدمنهوري، والشيخ: علي فرغلي الأنصاري -وهو ابن خالة رفاعة بك, والشيخ: حسنين حريز الغمراوي, والشيخ: أحمد عبد الرحيم الطهطاوي، والشيخ: عبد المنعم الجرجاوي ، ومن بين النجباء عبقري الترجمة الفذ بحق وهو الشيخ أبو عبد الله أبو السعود, وتعلّم بالأزهر صدر حياته, حتى أنشأ رفاعة باشا مدرسة الألسن فالتحق بها, وأظهر براعةً وتفوقًا في علوم اللغة والرياضة والفقه, وأجاد الفرنسية والإيطالية, وأخذ في التعليم وتصحيح تراجم الكتب الرياضية وغيرها, وظلَّ يرتقي بنبوغه وجده حتى عُيِّنَ في ترجمة ديوان المدارس، ثم صار في عهد إسماعيل ناظر قلم الترجمة بهذا الديوان, وعلَّم التاريخ بمدرسة دار العلوم, ثم عين عضوًا بمجلس الاستئناف, إلى أن توفي سنة – 1878م, وهو أول من أنشأ جريدة سياسية عربيةً بمصر, تسمى: “وادي النيل” فكانت تهيئ الأفكار, وتدعو إلى تنشيط الأقلام الحرة, وهو صاحب المقالات الشائقة التي كان ينشرها في روضة المدارس، كما أن له بضع مقالات قيمة في صحيفة “روضة الأخبار” التي كان يصدرها ولده أنيس أفندي، وأبو السعود من أنبغ تلاميذ رفاعه بك وأنبه المترجمين في ذلك العهد، وقد اشترك مع رفاعة بك وتلامذته في ترجمة قانون “نابليون” واشترك في تعريب قانون المرافعات, كما ترجم لمعظم كتاب الجريدة العسكرية من الفرنجة، وقد ألَّفَ كتبًا قيمةً, منها نظم اللالئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك” مُذَيَّلٌ بجدول لمقابلة تاريخ الهجرة بتاريخ الميلاد, من أول الهجرة إلى سنة 1300هـ ثم الكتاب التحفة في تأريخ أحداث مصر(الدرس التام في التاريخ العام) وكتابة قناصة أهل العصر في خلاصة تاريخ مصر القديم, أصله لماريت باشا,ونقله أبو السعود من الفرنسية إلى العربية, بأمر نظارة المعارفوللشيخ أبو السعود ديوانٌ جمع شعره الرقيق, وبه كثير من المنظومات المولدة؛ كالموالي والموشحات.وله أرجوزة في سيرة محمد علي, تبلغ ألف بيت، وكتاب منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ مصر, لخصه عن “الجبرتي”. وله غير ذلك آثارٌ قيمة في التأليف والترجمة.
وفي عَهِدَ الخديوي إسماعيل إلى علي مبارك – بإنشاء مدرسةٍ يتوفر أبناؤها على دراسة اللغة العربية والعلوم الدينية, مع التزود بشيءٍ من علوم العصر, وما يستعان به من وسائل التربية والتعليم؛ كي يعهد إلى المتخرجين فيها بتعليم اللغة العربية بمدارس الحكومة الابتدائية، وقد تمَّ إنشاء هذه المدرسة في 15 من فبراير 1871م واستمدت تلامذتها وأساتذتها من الأزهر،فقام على التدريس فيها جمهرة من فحول العلم والبيان, ووصفهم علي باشا مبارك في الخطط بقوله– وكان تلامذتها من نوابغ الأزهر وأفذاذهم الذين قضوا شطرًا طويلًا في التعليم والتثقيف في الأزهر, فنضجت موابهم, وكَلُمَتْ قرائحهم, ونما علمهم، واقتدرت أقلامهم وألسنتهم، ولا تزال هذه المدرسة تعتمد على النابهين من طلاب الأزهر بعد أن يحصلوا على شهادة الدارسة الثانوية “قسمًا ثانيًا” من المعاهد الدينية، فتُجْرَى بينهم مسابقةٌ في الدخول؛ لتظفر بالنوابغ المجلين.
وليس ينكر إلّا جاحدٌ من الناس ما كان لهذه المدرسة من الأثر الملحوظ في خدمة العلم والأدب, وما لأبنائها الفحول من عُلُوِّ المكانة في الشعر والكتابة, والأدب في مختلف فنونه، ولكن شيئًا واحدًا لا يغالط فيه إلّا معاند, ولا يُصِرُّ على جحوده إلّا مكابرن, وهو أن الثورة العلمية والأدبية في هذه المدرسة إنما مَردُّهَا إلى الأزهر الذي غذّاها بأساتذته وطلابه وكتبه.
ثورة الأزهرين نحو العلوم الحديثة
كان من العلماء والأدباء الذين تولَّوا التدريس بهذه المدرسة, والذين حملوا لواء البيان واللغة فيها من الأساتذة, وتخرج عليهم طائفة من ذوي العلم والأدب في مصر, المرحوم الأستاذ الإمام الشيح: محمد عبده، والمرحوم الشيح: حسن الطويل، وشيح الأدباء المرحوم: حسين الرصفي،وإذا كانت لمدرسة دار العلوم, والجامعة المصرية القديمة, ومدرسة القضاء الشرعيّ, فضلٌ مباركٌ وأثرٌ ملموسٌ في نهضة اللغة العربية وآدابها, وفي تخريج فحول البيان وحماة اللغة, وكان لهم القدح المعلَّى بين أعلام النهضة الحاضرة, فإن ذلك مما يفاخر به الأزهر ويباهي، فقد غذَّى هذه المدارس منذ إنشائها بطبقة من أفذاذ الأساتذة ونوابغ التلاميذ, فقامت عليهم بحثًا ودراسةً وإنتاجًا وتوجيهًا.
أما أساتذة هذه المعاهد الذين قاموا بتدريس اللغة العربية وآدابها, فإن الدولة لم تجد سواهم يضطلع بهذه الرسالة وتشرف به، ولم تجد موردًا تستقي منه أمثال هؤلاء إلّا الأزهرمنبع الثقافة العربية.
وأما تلامذة هذه المدارس, فإنهم قضوا الشطر الأعظم من حياتهم العلمية في الأزهر, ولم يغشوا هذه المدارس وهم فراغ من العلم, خواء من الثقافة, بل كانت المدة التي أمضوها في الأزهر كافيةً لتثقيفهم وتوجيههم, وصقل بيانهم، ولو قيست المرحلة الأخيرة التي أمضوها في هذه المعاهد, بجانب مرحلتهم الأزهرية الأولى, لكانت حظًّا ضئيلًا وقسطًا متواضعًا على أنهم لم يفقدوا صبغتهم الأزهرية في إتمام تعليمهم بهذه المعاهد, فقد وجدوا بها أساتذةً من الأزهر يتلقون منهم التوجيه، وينهلون من وردهم علم الأزهر وأدب الأزهر, ووجدوا الكتب التي تدرس بهذه المعاهد هي كتب الأزهر، و لم يكن أمام الحكومة مورد ثروة لتغذي به هذه المدارس إلّا الأزهر, فاعتمدت عليه تلتمس عنده الطلبة والمدرسين, ولجأت إلى كتبه في تعليم اللغة العربية, وأدخلت في هذه المدارس طريقة الأزهر في التعليم، أجل, فقد كانت اللغة العربية سواء في مدارس المبتديان أو في التجهيزية, والخصوصية, هي المادة الأساسية, في خطط الدراسة، ودرس علماء الأزهر في مدارس المبتديان كتب السنوسية والأجرومية والألفية والكفراوي, وفي المدارس التجهيزية كتب الشذور وقطر الندى والشيخ خالد وغيرها؛ فكانت أزهرًا في وضعه وثقافته، ولم يكن علماء الأزهر وحدهم ليقوموا بتدريس اللغة العربية في هذه المدارس فحسب, بل كان منهم رؤساء المدرسين في مكاتب المبتديان, والتجهيزية, والخصوصية.
وقد نص في قانون التعليم الابتدائيّ الذي صدر في سنة “1872” على أن يكون نظار المبتديان من علماء الأزهر, بعد أن ارتفعت الشكوى من جهل النظار الأولين الذين كانوا من مشايخ القرى, فقد كانوا جهلاء ضعفاء الإدارة, فاسدي النظم, وكانت إدارتهم لهذه المدارس في مستهلِّ نشأتها مدعاةً لكثير من العبث والانحلال والفساد, فكان لإحلال الأزهريين
وفي أوائل عهد إسماعيل أُعيدَ إنشاء قلَم الترجمة المُلحَق بديوان المدارس، وتولَّى الإشراف عليه رئيسه القديم رِفاعة بك، وكان من مُترجِميه الشيخ أبو السعود وصالح مجدي، بل لقد أتى على هذا القلم وقتٌ لم يكن به من المُترجِمين غير صاحِبَيْنا وزميل ثالث لهما كان له شأنٌ أيُّ شأنٍ في ترجمة الكتب التاريخية في عصر محمد علي وهو حسن أفندي الجبيلي.
وقد شارك مجدي في تلك الفترة كأُستاذه رِفاعة وزميله أبي السعود في التحرير في روضة المدارس، ثم في ترجمة «قانون نابليون Code du Napoleon»، وفي ترجمة القوانين المُختلفة الأخرى التي تمَّ نقْلُها إلى اللغة العربية في عهد إسماعيل. وظلَّ يتقلَّب في الوظائف حتى عُيِّن في سنة ١٢٩٣ﻫ/١٨٧٥م قاضيًا بمحكمة مصر، وكتب علي باشا مبارك عن مجدي صالح تلميذ رفاعة النجيب — وفي كلِّ تلك العهود كان علي باشا مبارك يَستَعين به وبجهوده وعلمه في تأليف وتصنيف مُعظم كُتبه؛ فقد قال في الخُطط: «وفي سنة ثلاثٍ وثمانين ومائتين بعد الألف أحيلت على عُهدَتي — وأنا إذ ذاك ناظر القناطر الخيرية — مأمورية تأليف كتاب الهِجاء والتمرين، فطلبتُ المُترجم من ديوان المدارس بأمرٍ عال، فحضَر عندي، واشتَغَل معي بالكتاب المذكور حتى تمَّ على أحسن حال … وتكرَّر طبعه حتى زادت نُسَخه على خمسة عشر ألفًا …» ثم قال: «ولمَّا أُحيلتْ على عُهدَتي نظارة عدَّة دواوين ومصالح في آنٍ واحد استعنتُ بقلَمه على تحرير عِدَّة لوائح وترتيباتٍ نافعة لإدارة هذه المصالح …» وقال أيضًا: «وباشر معي بعضَ التاريخ الذي عملتُه للديار المصرية في عدَّة مجلدات، وبعض رسائل جمعتُها، وطُبعَت بمعرفته في جرنال روضة المدارس …» وقال أبو السعود وصالح مجدي علَمَان كما قُلنا من أعلام خِرِّيجي الألسن، وهما خير نموذجين لهؤلاء الخرِّيجين. وعلى مِثالِهما بذَل إخوانُهما الجهد في الترجمة والتأليف. ومن صنفهما: محمد عثمان جلال في ميدان الأدب، وقدري باشا في ميدان القانون.
وقد ربَطتِ الحوادث بين هذين العلَمَين وبين أستاذهما رفاعة، فعَمِلا معه في قلَم الترجمة في عصرَي محمد علي وإسماعيل، واشتركا معه في تحرير روضة المدارس وفي ترجمة قانون نابليون. غير أنهما رغم هذا اختَلَفا الواحد عن الآخر في ميادين أخرى، فقد كان صالح مجدي أقرَبَ إلى علي مبارك في دراساته وثقافَته الرياضية والعسكرية، ولهذا تعَاوُنٌ في إنتاجه العلمي مع علي مبارك أكثرَ من تعاوُنِه مع أستاذه رفاعة. ومع هذا فقد كان فضْلُ رِفاعة عليه كبيرًا، فإن ثقافته الفرنسية والعربية التي تلقَّاها في مدرسة الألسن هي التي رشَّحتْه للعمل في قلم الترجمة في عهدَي محمد علي وإسماعيل، وهي التي رشَّحته للعمل في مدرسة المُهندسخانة في عهدي محمد علي وعباس. وثقافته القانونية في الألسن أيضًا هي التي رشَّحته للعمل في ترجمة القوانين ثم لتولِّي وظيفة القضاء في عصر إسماعيل؛ لهذا كان مجدي أبرَّ التلاميذ بأستاذه، فهو الوحيد من بين تلاميذ رِفاعة الذي أرَّخَ له بعد وفاته، فكتب عنه كتابَه القيِّم — رغم صغره — «حِلية الزمن بِذِكْر مَناقِب خادِم الوطن».
عرفان أبو السعود بعظمة رائد النهضة
أما أبو السعود فكان أكثر تأثُّرًا بأُستاذه، فقد تخرَّج من الألسن شغِفًا كأستاذه بعِلمَي التاريخ والجغرافيا؛ ولهذا كانت مُعظم مُترجماته ومؤلفاته في هذين العِلْمَين, وقد اعترَف بفضل رِفاعة عليه وتأثُّره به في هذا الميدان وكتب في مُقدِّمة كتابٍ عرَّبه في الجغرافية في عصر إسماعيل، ونشره بالتَّتَابُع في صحيفته وادي النيل، ثم طبَعَه على حِدةٍ تحت عنوان: «الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد». قال: «وكان قد سبَقَني في انتهاج هذا المنهاج … في مُنتصَف هذا القرن الأخير وأول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير، حضرة أستاذي رِفاعة بك أفندي الشهير. وهو وإن كان لم يزَل له فضل السبق، وكان بالاحترام والتبجيل أَحَق، ولربما جئتُ بالغثِّ وجاء بالسمين، وتَزيَّيتُ بالرَّثِّ وتَزيَّى بالثمين، غير أنه لمَّا كان هذا العلم عبارةً عن استقصاء حقيقة أحوال هذا العالم السريع الانتقال من حالٍ إلى حال، واستمرار تنقُّل المِلل والنِحل، وغير ذلك من التقلُّبات الموالية على مَمَرِّ الأوقات واللحظات، احتاج هذا العلم لمن يقِفُ له بالمِرصاد، ويبذل في خِدمته على الدَّوام كالحاصل في البلاد المُتمدِّنة كل الاجتهاد؛ فلذلك قَفوتُ من أستاذي الأثَر، وحَذوتُ حَذْوه في مشقَّة ذلك السفر … وإذا كان أستاذي حفِظَه الله قد أتى من هذا الأُكُل بالباكُورة فقد أتيتُ بوفرة الثمَر، أو كان قد بدَر بالبدْر فقد جئتُ بالشمس والقمَر. وإذا كان قد جاء بالتعريبات الشافِية في علم الجغرافيا، فهذه الرسالة بحمد الله هي الخلاصة الكافية »