مجموعة مخاوف لكاتب لم يغادر بعد العشرينات.. يتلصص على من يعايشون خريفهم من كوة صنعتها هواجسه عن زمن قادم وأيام مجهولة وأقدار لا مفر منها.. يرى الحياة بارعة في إعادة صياغتنا وتجعلنا نرضخ لمقايضتها.. نتنازل عن حلم تلو حلم.. ونتخلي عن أمل تلو أمل.. عشر مقطوعات يعزف فيها محمد علام على وتر وحدة لم تترك أيا منا إلا وأذاقته شيئا منها.
أوراق عن عبد الرحمن جميل
“من منا لم يحلم يوما ما بمعجزة؟” إنكار انتظارنا لمعجزة يجعلنا نبدو سذج.. نشبه المراهقين في ادعائهم التغافل عما يطرأ على أجسادهم ومن ثم نوازعهم من تغييرات.. كلنا ننفض أيادينا فى العلن بينما لازلنا نمارس لعبة الانتظار فى الخفاء.. ومتى توقفنا عن اللعب توقف عداد أعمارنا.. “إذا كان خروج الروح من الجسد مؤلما فعودة الروح إلى الجسد مرة أخرى أشد إيلاما” ألم من لم يخبره لن يدركه.. على مشارف الغرق يظهر من العدم طوق النجاة.. حتى المعجزات نستقبلها بالبكاء إذ لم نتصور ما حسبناه سراب أضحى بقيعة ماء.. “لا شيء أسوأ من أن يعجز الجميع عن إدراك ما تشعر به” عجز إختيارى نما من تكاسل ولا إكتراث.. من إكتفاء ببذرنا فى الأرض ثم لا رى لا تشذيب.. نركن إلى الظل أو نُترك إلى الشمس.. نذبل نتكسر دون إلتفات من أحد.
غابات القمر والصمت
“إما أن تعيش وإما لا، المهم أن تبقى”هكذا كتب سارتر.. البقاء فى حد ذاته انتصار إذ لازالت الفرصة ومهما كانت ضئيلة قائمة.. الموت وحده من يجعلها تتلاشى.. “هناك أشياء كثيرة لا يعرفها الإنسان” جملة قد تخدعنا بساطتها رغم أنها تقودنا إلى احتمالين.. أكثرهما مرارة أننا لا نعرف شيء وأقلهما أن كل ما لدينا شبه معرفة وهو الأقرب للواقع.. فلطالما فاجأنا كشف جديد يضع نقطة ويبدأ من أول السطر بل أحيانا ينزع الورقة بكاملها.. نزعها الذى قد تُنتزع معه روحه.. جاليليو صرخ بكروية الأرض فأبتلعه باطنها الغاضب على الدوام.. “الكل مُدان ولا يريد أن يعترف، بل يتمادى فى إقناعنا بأن الذنب يقع دائما على آخرين” ملثمين مجهولين يصعب الكشف عن هويتهم وإن حدث فمثلهم كالزئبق إفلاتهم مسلم به.. لا أسهل من الإدانة.. أعطنى ملاك وأعاهدك على أن أجعل من نورانيته جريمة.. من طاعته وامتثاله دعوة للملل والرتابة.. التمادى فى تسويده سيلقى ترحاب على نطاق واسع.. أوسع بالطبع من ذمم هؤلاء “ممن يقولون أمرك سيدى”.. وهو ما سيفضى بثلة قليلة لتجرع مثل هذا الإحساس “كان وحيدا أكثر من اللازم” قبل الأكل هذا إذا ما أعتبرنا لديهم بقايا شهية للحياة.. شيء ما يدفعهم للترقب.. للتعلق بلحظة قد تكون الفاصلة أو ربما القاضية “الانتظار هو الشيء الأهم” الموتى فقط من يقلعون عن هذه العادة.
صياد النهار
“القلب يخفق فى الدماغ” حين تؤول الدفة إلى مشاعرنا فتوجهنا أنّى شاءت.. تتحول الفصوص إلى حروف، فيُعاد نظمها فى جمل محسوسة ومن ثم حكاية تُروى ربما للعظة للترهيب.. حد أن المستمع “تصطك فى رأسه الأسنان” تطغى ضوضاؤها بما يضمن له الشتات.. وهو أمر طبيعى فى عالم “يتساوى فيه إنجاب العظماء والتافهين” وهو ما يدفعنا لتقصى حقيقة الجينات والسعى وراء أسرار الحامض النووى.. الرجوع إلى “دارون” ودعوته إلى الانتقاء حيث لا يستحق البقاء إلا العظماء.. أو لـ “مارك” الذى قد يجد لحياة التافهين مبرر إذا ما استطاعت زمرة المنتقين استعمالهم على الوجه الأمثل.. بالطبع لن يقبلوا باستمرار مهزلة كمثل “تساقط الثمار على رؤوس العباقرة والمغفلين”.. من المرجح أن يحظى العباقرة باللب بينما المغفلين بالقشور متمنين دوامها على اعتبارها عطية مقتطعة من نصاب محسنين!
سلامة إلياس
“فى أعماق أعماقه شخص متقرفص فاقد الأمل” شخص يمشى يهرول يركض بهيئة مخادعة يصطنع الحياة والإقبال عليها.. ثمة صورة زائفة تطفو على السطح بإمكان ما هو بوزن قشة أن يزج بها إلى القاع.. مع الظلمة والبرد تنجلى الحقيقة.. ملوحتها تضطره للإنكماش التقرفص.. الأمل لا يطيق تلك الوضعيات.. ينسل من خلاياه.. يتخشب حد أن يصير كتمثال.. “اعتدت النوم فى فراشى دون أن يزعجنى نفس دافئ” الاعتياد لون من فقدان الأمل بالتغيير.. بامتلاك ما يهيِّئنا للتأقلم معه الاستمتاع بما قد يمنحنا من دفء.. الاعتياد يجعلنا بارعين بالتخلى عن الفرص من دون رفة جفن.
نهايات صغيرة
“كل ما أفعله أننى أستقبل أخبار الناس لا أنتظرها” الفضول عادة الفارغين.. أما المثقلين بالهموم فثمة فتور فى علاقتهم بالآخر.. هم على وضعهم ومن أراد الاقتراب فليبادر بالسعي نحوهم.. فأبوابهم لا تفتح دون طرقٍ لحوح.. الآخر عادةً ما يمثل عبء إضافى لذا فالأخبار لن تجد رفوف لحملها أو أدراج للاحتفاظ بها.. لحظة سماعها هى ذاتها لحظة محوها.. “هؤلاء الريفيون لديهم تصورات صارمة حول المهن التى يجب أن يشغلها المرء” وهوايتهم المزمنة الثرثرة مع من يعرفونه أو حتى يجهلونه.. لا يتورعون عن عرض دستورهم الذى لا يقبل استبيان ولا تصويت إذ يستحيل خضوعه لتنقيح بالحذف أو الإضافة أو حتى بإعادة الصياغة.. دستور يستند إلى ساعة بلا عقارب.. الزمن تقديرى وكل شيء أيضا.. وعلى المرء الذى يسوقه قدره إليهم أن يخلع ساعته ويرتدى حلتهم.
الوداعات
“تضيع أنفسنا فى الناس فيضيعون منا” نصير انعكاس لبشر لا تشبهنا.. أردنا استرضاءهم فضعنا وضيعناهم.. فالحفاظ على هويتنا أولى درجات التواصل فيما بيننا.. “قصص الوحيدين فى الأرض” الضائعين من أنفسهم إلى الأبد.. متاهة الوحدة ذات مدخل واحد ومخرج واحد أيضا.. أخير وختامى.
سيد الجدران
“أحيانا تكون البنايات أكثر وفاء من البشر، مهما طال غيابك ستجد الصخور فى انتظارك دائما بنفس الوفاء القديم” هذا إن بقت الصخور فلم تطالها معاول أطماعنا.. تحيل ما نقشنا وما حفرنا إلى نسى منسى.. وليرقد بسلام مع الوفاء جنبا إلى جنب.
أول طيف النور
“وتتمنى أنه عندما يقرر الجميع الرحيل ألا تستيقظ أبدا” ولكن ما يحدث هو أننا ومهما تعددت طرق الهروب سواء بالنوم أو غيره نصطدم بواقع الفراغ الوحدة الصمت إلا من صدى صوتنا.
أقمار ملونة لرجل وحيد
“حتى الفراغ أسود وأنت فى قلبه نقطة باهتة صغيرة” نقطة تخدشه فيثأر منها بالزحف عليها واقتطاع ما استطاع منها لصالحه.. وربما تمادى فأبتلعها عن آخرها بجوفه الحالك.. “تُرى متى تموت العيون فى الصور؟” حين تؤول إلى النسيان.. تنمحى النقطة من ذاكرة الجميع.. “هل يمكن أن تعيش طوال حياتك تستمد وجودك من البشر؟ كن أنانيا ما استطعت” وهل يرى أغلبنا نفسه إلا فى حدقة غيره.. وحتى الأنانية ما هى إلا طلب المزيد من الصور المرضية لغرورنا.. صور يلتقطها غيرنا.. “فكر ما معنى أن يكون المرء شريرا؟” ألا تراوده نفسه بين حين وآخر عن سؤال كهذا.
منتهى الشعر
“أنني انشغلت بالعاصفة بدلا من الاستمتاع بالحقول، فلا أنا سبقتها ولا أنا حققت متعتى” وما الجدوى من أن نتسابق مع العاصفة.. أعتقد الحكمة تكمن في الاختباء من كل ما قد يستنفذ طاقتنا بلا مردود.. والمتعة فى تجنبنا الخسارات المحسومة قبلا.
انتهت معزوفة محمد علام
والذى قدم مجموعته القصصية الأولى (البنت التى تغتال الحكايات) 2016م، وتُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والفرنسية، وحصل على جائزة نادى القصة 2012م، وجائزة الشارقة الثقافية لشباب الجامعات 2014م، وجائزة ربيع مفتاح الأدبية 2016م.