فن

عمّار الشريعي “بيتهوفن مصر” المبصر بالموسيقي (2-2)

“… عارف يا يوسف أنا ساعات بَأقوم من النوم يا ابني قلبي مقبوض.. حاسس إني هاتخنق.. بأبقى عاوز حاجة واحدة بس.. أسوق موتوسيكل وأطير بيه..”.

فعلها الشيخ حسني في “الكيت كات” على شاشة السينما، وفعلها عمّار في الواقع رفقة شقيقه مرات ومرات.. قيادة الدرجة النارية، والاندفاع بأقصى سرعة دون خوف أو وجل.. فعلٌ يحرر الروح، لا علاقة له بالتهور؛ يكشف عن جانب شديد الأهمية في شخصية العبقري الصعيدي ابن مدينة “سَمَالّوط” بمحافظة المنيا.. الجامح الخيال في الفن والحياة.

عقب انتهائه من دراسة الأدب الإنجليزي في الجامعة؛ يتفرغ عمّار للموسيقى، ويحترف العزف على آلة الأكورديون في عددٍ من الفرق الموسيقية التي كانت منتشرةً في مصر آنذاك، ثم يتحول الشريعي إلى الأورج الذي بزغ نجمه فيه كأحد أبرع عازفي جيله؛ حتى اعتبر نموذجا فريدا في تحدى الإعاقة؛ نظرا لصعوبة وتعقيد هذه الآلة، واعتمادها بدرجةٍ كبيرةٍ على الإبصار.

يقع صدامٌ ضخمٌ بين عمّار ووالدته بسبب رفضها القاطع لاحترافه العمل بالفن؛ لم تكتف الأم بالرفض والقطيعة؛ بل حرضت كل أفراد العائلة على مقاطعته؛ لكن ذلك لم يفت في عضد الفتى الذي كان إصراره مكتملا على استكمال مشوار الفن وحده دون عون من أحد.

عاش عمّار أسوأ فترات حياته.. مرت به أيام لا يجد ما يَتَقَوَّت به؛ حتي قيَّضت له الأقدار النجاة من البؤس والضياع على يد العظيمة “شادية” التي صار عمّار بعونها ودعمها الموسيقي النابه والمؤلف القدير والناقد المتفرد.

البداية الفنية كانت مع غنوة “امسكوا الخشب” للفنانة مها صبري عام 1975, في عام 1980، كوَّن فرقة الأصدقاء التي ضمت منى عبد الغنى، حنان، وعلاء عبد الخالق. وقد حاول الشريعي من خلال الأعمال التي قدمتها الفرقة المزج بين الأصالة والمعاصرة وإعادة بعث الغناء الجماعي من خلال التماس مع مشكلات المجتمع في تلك الفترة.

“غواص في بحر النغم” برنامج إذاعي لتحليل وتذوق الموسيقى العربية بدأ عمّار في إعداده وتقديمه، منذ عام 1988. كان البرنامج يذاع عبر إذاعة البرنامج العام بعد منتصف ليلة الاثنين من كل أسبوع.. مدة البرنامج كانت حوالي 53 دقيقة. اهتم عمّار في البرنامج بتحليل الموسيقى والأغاني العربية تحليلا مبسطا لتوضيح جماليات الموسيقى للمستمع العادي.

ويعد برنامج “غواص في بحر النغم” عملا فنيا لا نظير له في شرح مكنونات ومكونات الموسيقي والغناء المصري بصورة مبسّطة، ثم “سهرة شريعي” من إعداده وتقديمه لقناة دريم الفضائية. ثم “مع عمار الشريعي” على راديو مصر و“المسحراتي” في التلفزيون المصري.

يعتبر عمّار الشريعي لحظة علمه بتعـيينه أستاذا بأكاديمية الفنون المصرية عام 1995، من أسعد لحظات حياته. فمن خلال الأكاديمية استطاع مبدعنا التعرف على الرسائل  العلمية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في المعاهد والكليات الموسيقية فيما يختص بألحانه ومؤلفاته الموسيقية ودروب الإبداع والتجديد الموسيقي التي كان أول من يطرقها. وقد بلغت تلك الرسائل؛ عشر رسائل ماجستير وخمس رسائل دكتوراه في مصر: في كلية التربية الموسيقية، جامعة حلوان، وكلية التربية النوعية، جامعة القاهرة، ومعهد الموسيقى العربية بأكاديمية الفنون، وقد وصل عمار لقمة المجد الفني عندما حضر في باريس مناقشة رسالة دكتوراه في جامعة السوربون بفرنسا تناولت جوانب في موسيقاه؛ ليدخل سجل العظماء في الموسيقي المصرية.

تجاوزت أعمال الشريعي السينمائية خمسين فيلما، والتليفزيونية ثلاثة أضاف هذا الرقم وما يزيد على عشرين عملا إذاعيا، وعشر مسرحياتٍ غنائية استعراضية, من أشهر أعماله الموسيقية في السينما: الشك يا حبيبي، البريء، البداية، حب في الزنزانة، أرجوك أعطيني هذا الدواء، أيام في الحلال، آه يا بلد، كتيبة الإعدام، يوم الكرامة، وحليم. خاض عمار تجربة الغناء في فيلم كتيبة الإعدام وفيلم البريء (محبوس يا طير الحق – الدم) ثم غنى تتر مسلسل ريا وسكينة مع غناء رباعيات داخلية في المسلسل؛ ليدخل عمار وسط أصحاب البصمة الفنية التي لن تكرر.

ومن أشهر أعماله الموسيقية في المسلسلات التليفزيونية: موسيقى مسلسلات الأيام، بابا عبده، أديب، النديم، وقال البحر، ودموع في عيون وقحة، رأفت الهجان، أرابيسك، العائلة، الراية البيضا، الشهد والدموع، زيزينيا، الأمير المجهول، ذو النون المصري، بين السرايات، امرأة من زمن الحب، أم كلثوم، حديث الصباح والمساء، لا، نصف ربيع آخر، أوبرا عايدة، بنات أفكاري، البر الغربي، حدائق الشيطان ، محمود المصري، أحلام عادية، أرابيسك، وبنت من شبرا, كما تعتبر موسيقى مسلسل “ليالي الحلمية” واحدةً من أكثر شارات الأعمال الدرامية العربية تميزا بصوت الفنان محمد الحلو.

في “أرابيسك” كانت الحالة الشريعية المدهشة  أكثر وضوحا، فلا يمكن أن تتخيل هذا العمل دون لحن الشريعى الذى اعتمد على “القانون” لينقل المشاعر إلى أجواء عربية مصرية أصيلة، مع الكلمات الرائعة شديدة العمق والجمال للشاعر النبيل سيد حجاب:

وينفلت من بين إيدينا الزمان

كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان

وتنفرط لِيَّام عقود كهرمان

يتفرفط النور والحنان والأمان

وينفلت من بين إيدينا الزمان

الشر شرَّق وغرَّب داخل في حوشنا

حوشوا.. لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا

حوشوا.. شرارة تطيش.. تشقق عروشنا

وتغشنا المرايات.. تشوش وشوشنا

وتهيل تراب على الهالة .. والهيلامان

وينفلت من بين إيدينا الزمان

الغش طرطش.. رش ع الوش بُوية

ما دريتش مين بلياتشو.. أو مين رزين

شاب الزمان.. وشقيقي مش شكل أبويا

شاهت وشوشنا.. تهنا بين شين وزين

ولسه ياما وياما ح نشوف كمان

وينفلت من بين إيدينا الزمان.

كان للموسيقار بليغ حمدي  دورُ كبيرُ في حياة الفنان عمار الشريعي؛ إذ كان الفتي عمَّار يوزع موسيقي الأعمال الموسيقية المسرحية لبليغ مثل: رابعة العدوية، الواد سيد الشغال، علشان خاطر عيونك، إنها حقًا عائلة محترمة، الحب في التخشيبة، تصبح على خير يا حبة عيني، لولى، ويمامة بيضا.

وقد اعتمد عمّار في التوزيع الموسيقي طريقة وأسلوب الموسيقي الروسي “نيكولاي ريمسكي” لموسيقي “إيجور فيودوروفيتش سترافينسكي” ولكنه لم يكتف بذلك بل طوّر في أسلوب “ريمسكي” ما جعل البعض يذهب إلى أنه تجاوزه  وتفوق عليه.

وكان دخول بليغ حمدي عالم عمَّار الشريعي وتأثره به سببا مباشرا في تأليف عمّار، كونشرتو لآلة العود وأوركسترا ومتتالية على ألحانٍ عربيةٍ معروفة، عزفهما مع أوركسترا عُمان السيمفوني عام 2005, كما شارك بالتعاون مع شركة “إميولتور” الأمريكية في إنتاج عيناتٍ من الآلات التقليدية والشعبية المصرية والعربية.

استطاع الشريعي ابتكار العديد من الإيقاعات الجديدة، وأعاد صياغة وتوزيع العديد من المقطوعات الموسيقية والأغنيات, وساهم مع مؤسسة “دانسنغ دوتس” الأمريكية في إنتاج برنامج “جود فيل” الذي قدم النوتة الموسيقية بطريقة “برايل”.

اهتم عمّار اهتماما كبيرا بأغاني الأطفال، وشاركه في هذه الأعمال مجموعةٌ من كبار الممثلين والمطربين مثل عبد المنعم مدبولي، نيللي، صفاء أبو السعود، لبلبة، كما خاض تجربة رائعة مع الصوت الفريد عفاف راضي من أشعار  عبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب مثل: “وبتسأل يا حبيبي” و”قالي تعالى” و “هو الطريق”.

اهتم الشريعي أيضا باستكشاف ورعاية المواهب الجديدة مثل: منى عبد الغنى، حنان، علاء عبد الخالق، هدى عمار، حسن فؤاد، ريهام عبد الحكيم، مي فاروق، أجفان الأمير، آمال ماهر، وأحمد علي الحجار، وسماح سيد الملاح.

حصل عمّار على العديد من الجوائز والأوسمة منها:  جائزة مهرجان فالنسيا، وجائزة مهرجان فيفييه بسويسرا، ووسام التكريم من الطبقة الأولى من السلطان قابوس بن سعيد مرتين 1992و20005،. وسام التكريم من الطبقة الأولى من الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن، وجائزة الحصان الذهبي لأحسن ملحن لسبعة عشر عاما متتالية، وجائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2005. بالإضافة إلى العديد من جوائز جمعية نقاد السينما والمركز الكاثوليكي للسينما ومهرجان الإذاعة والتليفزيون عن الموسيقى التصويرية من عام 1977 حتى عام 1990.

تزوّج عمار في سن الثالثة والأربعين بعد أن كان قد أصبح أشهر عازب في مصر.. وكانت الإعلامية ميرفت القفاص قد استضافته في برنامجها “البرنامج الأوربي” وبعد تعارفٍ دام ثلاث سنوات، تزوجت ميرفت من عمار الشريعي وأنجبا ابنهما مراد.

توفي الشريعي نتيجة فشلٍ قلبي في مستشفى الصفا بالقاهرة في 7 ديسمبر 2012. عن عمر ناهز الرابعة والستين بعد حياة حفلت بالكفاح والإبداع والمعاناة والنجاح والألم والأمل.

لقراءة الجزء الأول:

عمّار الشريعي “بيتهوفن مصر” المبصر بالموسيقي (1-2)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock