رؤى

ابن الخشاب.. جهاد يتجاوز الطائفة

كان الانقسام المذهبي والطائفي الذي عانت منه الأمة العربية في القرن الحادي عشر الميلادي أحد أهم أسباب نجاح ما عُرف باسم الحملة الصليبية الأولى ووصولها إلى القدس عام ١٠٩٩، واحتلالها للمدينة المقدسة.

إذ كانت الأمة ممزقة بين خليفة عباسي سٌني قابع في بغداد، قد فقد كافة سلطاته لصالح سلاطين السلاجقة القادمين من آسيا الوسطى، والخليفة الفاطمي في القاهرة، رأس الدولة الفاطمية ذات المذهب الشيعي الإسماعيلي الذي لم يكن أحسن حالا من منافسه العباسي، فمنذ عهد الوزير بدر الدين الجمالي، صارت السلطة الحقيقية في يد الوزراء لا الخليفة.

انعكس هذا الانقسام بطبيعة الحال على حكام الشام الذين سيطرت عليهم حالة عامة من الضعف؛ عجزوا معها عن التصدي للغزاة الأوروبيين بل اختار بعضهم التحالف معهم.

هنا برز دور المقاومة الشعبية التي تجاوزت هذه الطائفية الضيقة، وانحازت إلى من يرفع السلاح في وجه الغزاة أيا كانت عقيدته.

وكانت البداية من مدينة حلب، حيث كان حاكمها الملك رضوان قد بلغ درجة من الضعف لم يجد معها سبيلا لحماية مدينته ومُلكه سوى عقد معاهدة ذليلة مع أمير أنطاكيا الصليبي “تنكريد” تلزم رضوان بأن يدفع للصليبيين ٣٢ ألف دينار عدا الخيل والثياب؛ بل بلغت رغبة الصليبيين في إذلال الحلبيين حد إلزام الملك رضوان بتعليق رمزهم -أي الصليب- على قمة قلعة حلب ومنارة المسجد الجامع في المدينة.

وهنا تبرز شخصية قاضي حلب والفقيه الشيعي الامامي – نسبة إلى المذهب الإمامي الاثني عشري- أبو الفضل بن الخشاب كرمز لرفض الحلبيين هذه السياسات الذليلة وإصرارهم على مقاومة الصليبيين.

كانت أولى صور المقاومة التي تزعم فيها ابن الخشاب أهل حلب من سنة وشيعة على حد سواء حين احتج مع أهل المدينة على تعليق الصليب في حلب، ونجح هذا الضغط الشعبي المتواصل في إقناع رضوان بالعدول عن هذه الفكرة وإقناع حليفه الأنطاكي بوضع الصليب أعلى كنيسة تاريخية في حلب، إلا أن هذا لم يوقف الغضب الشعبي خاصة في ظل تكرر الغارات الصليبية على نواحي حلب الشمالية والغربية والتي أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية بها.

وتشير دراسة لعدد من الباحثين في قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة ذي قار العراقية، إلى أن القاضي ابن الخشاب توجه على رأس وفد ضم عددا “من الفقهاء والزهاد والتجار ورجال الصوفية” إلى بغداد لمطالبة الخليفة العباسي بإغاثة حلب في مشهد مشابه لما قام به الفقيه أبو سعد الهروي قبل ذلك بسنوات.

ونظم هذا الوفد ما يشبه الاعتصام السلمي في مسجد السلطان السلجوقي في بغداد بقصد إثارة الجماهير؛ حيث يذكر المؤرخ ابن القلانسي أنهم “أنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه وصاحوا وبكوا لما لحق بالإسلام من الإفرنج من قتل الرجال وسبي النساء والأطفال، ومنع الناس من الصلاة ” و كرروا ذلك في الجمعة التالية مما سبب حرجا بالغا لكل من الخليفة والسلطان السلجوقي، فلم يجدا أمامهما سوى توجيه أمير الموصل شرف الدين مودود بتجهيز حملة عسكرية لإنقاذ حلب.

إلا أن الملك رضوان الذي لم يجد حرجا من التحالف مع الصليبيين رفض استقبال حملة الأمير مودود خوفا من أن يستولي أمير الموصل على مدينته، بل عمد إلى إغلاق أبواب المدينة واعتقال أعيانها وشيوخها ومن بينهم ابن الخشاب وأودعهم في سجن القلعة.

لم يطل عهد رضوان بعد فعلته هذه حيث وافته المنية عام ١١١٣ ميلادية وكان ابن الخشاب قد خرج من سجنه، وكان يخشى أن تعم المدينة الفوضى عقب وفاة رضوان؛ فنظم صفوف ما عُرف بـ”قوات الأحداث” وهم متطوعون من عامة البلاد، وتمكنوا من إحكام سيطرتهم على المدينة في محاولة للتأثير على الحاكم الجديد “ألب أرسلان” ابن الملك رضوان الذي كان ما يزال شابا مراهقا.

إلا أن الحاكم الجديد سرعان ما أثبت أنه شر من أبيه فقد كان كما وصفه المؤرخ ابن العديم “متهورا قليل العقل” ولم يتورع عن قتل بعض أقاربه، ما أدى في النهاية إلى مقتله على يد خادمه “لؤلؤ اليايا” وتوالى حكم الخدم والغلمان للمدينة حتى عام ١١١٧ ميلاديه.

التف الناس حول ابن الخشاب في ظل هذه الأوضاع واعتبروه “المرجوع إليه في حفظ المدينة والنظر في مصالحها” فاجتمع ابن الخشاب مع أعيان المدينة وممثلي فئاتها وطوائفها وقرروا الاستعانة بحاكم يستطيع أن يحل محل الحكام الضعاف، ويحمي حلب من الصليبيين؛ فأرسلوا بالفعل –في خطوة تعكس تجاوز الاختلاف المذهبي– وفدا منهم إلى حاكم ماردين التركي السُني نجم الدين إيلغازي بن أرتق التركماني، وزاد ابن الخشاب على ذلك أن استقبله بنفسه وفتح له أبواب المدينة.

وبحلول عام ١١١٩، كان إيلغازي قد وحّد حلب تحت إمرته، وكان تحت يده أربعون ألف مقاتل أتى بهم من ماردين وسار لملاقاة الصليبيين في معركة عُرفت باسم معركة “سرمدا”.

وهنا أيضا خرج ابن الخشاب إلى ميدان القتال.. ويذكر ابن العديم أن القاضي ابن الخشاب “أقبل بنفسه إلى وسط ساحة المعركة قبل بدايتها وهو يرتدي لامة الحرب -أي زي الحرب- وبيده رمح ثم اعتلى دكة نُصبت له وخطب في الجند خطبة بليغة ذكرهم فيها بواجب الجهاد”.

كان ابن الخشاب في بداية الأمر موضع استخفاف من القادة العسكريين الذين قال بعضهم “إنما جئنا من بلادنا تبعا لهذا المعمم” لكن سخريتهم سرعان ما تحولت انبهارا وتقديرا؛ حين رأوا تأثير ابن الخشاب وخطبته على جنودهم الذين بكوا متأثرين منها فـ “عَظُمَ في عيونهم” كما قال المؤرخ.

وكان لهذا الإعداد الروحي أثره البالغ في المعركة، حيث أسفرت عن انتصار جنود ماردين وحلب وبلغت خسائر الصليبيين آلاف القتلى، وكان من بينهم أمير أنطاكيا “روجر”.

إلا أن وفاة “إيلغازي” في ١١٢٢، جددت أطماع الغزاة في حلب خاصة بعد استشهاد خليفته الأمير “بلك” الذي كان حاكما مجاهداً مثله.. حيث توجَّه ملك القدس الصليبي “بلدوين” لمحاصرة حلب طمعا في ضمها إلى مملكته عام ١١٢٤، وانضم إلى حلفه الصليبي بعض مرتزقة المسلمين، وقاد ابن الخشاب مقاومة الحلبيين رغم الظروف القاسية التي فرضها عليهم الحصار، والتي بلغت حدا “أكلوا فيه الكلاب والميتات وقَلّت الأقوات، ونفذ ما عندهم، وفشا المرض فيهم”.

لكن المدهش أن أهل حلب رغم كل ذلك لم تضعف مقاومتهم فكانوا كما يذكر ابن العديم “إذا ضُرب البوق لزحف الفرنج قام المرضى؛ كأنما نشطوا من عقال وزحفوا إلى الفرنج وردوهم إلى خيامهم ثم يعودون الى مضاجعهم”.

وللمرة الثانية يتفق ابن الخشاب مع أهل حلب على الاستغاثة بحاكم من خارج المدينة وبالفعل يصل وفد أرسله ابن الخشاب الى الموصل لطلب النجدة من حاكمها الأمير آق سنقر البرسقي والذي لبى نداء حلب وسار بقواته نحوها.

وعند وصول أخبار تقدم جيش الموصل إلى ملك القدس آثر التراجع كي لا يدخل في معركة مع الأمير البرسقي؛ ما شجَّع القاضي ابن الخشاب على الخروج من حلب، ومهاجمة مؤخرة القوات الصليبية المنسحبة، وتمكن أتباعه من قتل وأسر العديد من جنودها وغنموا خيامهم.

دخل البرسقي إلى حلب محفوفا بترحيب أهلها ولأول مرة منذ احتلال الصليبيين للقدس؛ وربما قبل ذلك.. تتوحد كل من الموصل وحلب في جبهة واحدة ضد الصليبيين وتحت قيادةٍ موحدةٍ.

ولكن لأن الطائفية بطبيعتها تبغض الوحدة، فقد وثب قاتل غامض ينتمي –وفقا لبعض الآراء– إلى فرقة الحشاشين التي كان يتزعمها حسن الصبَّاح في تلك الفترة على القاضي ابن الخشاب وهو خارج من داره عام ١١٢٥، واغتاله غدرا وغيلة بطعنةٍ في ظلمة الليل.

كانت حياة ابن الخشاب واستشهاده تجسيدا لقيم عدة: أولها قدرة الأمة على المقاومة؛ حتى وإن تهاون حكامها وثانيا: قدرتها على تجاوز الخلافات المذهبية والعقائدية في سبيل غاية أسمى وأكبر وهي دحر الغزاة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock