هو ابن عصره بامتياز، فكما أن عصره كان عصر اضطراب وقلاقل وقعت فيه الأمة بين حجري رحى، هما العدوان الصليبي و الاجتياح المغولي، كان هو الفقيه العالم الذي أخذ على عاتقه التصدي لهذا التحدي المزدوج، فلم ينافق ولم يداهن الحكام لاسيما من اختار منهم مهادنة الغزاة ولم يخضع يوما لمعتدٍ.
هو عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن الشهير بالعز بن عبد السلام، المولود في دمشق عام ١١٨١م والمُلقب بسلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام.
كانت أول صور المقاومة التي جسَّدها الإمام العز هي صدامه مع حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل الأيوبي الذي تحالف مع الصليبيين ضد ابن أخيه الصالح أيوب حاكم مصر، وتنازل للصليبيين عن كل من “صيدا” و”شقيف” و”صفد” وسمح لهم بدخول دمشق ليشتروا السلاح.
حوَّل الإمام العز منبر مسجد بني أمية في دمشق حيث كان يخطب إلى سلاح بوجه هذه السياسات حيث أفتى بحرمة بيع السلاح للصليبيين، ووجَّه نقدا شديدا للصالح إسماعيل وقطع الخطبة له.
كان من الطبيعي أن يعزلَ إسماعيل الإمام العزَّ من منصبه، وهو ما دفع الأخير الى ترك دمشق؛ فأرسل له الصالح إسماعيل رسولا يلاطفه ويعرض عليه العودة الى منصبه شريطة أن يُقَبِّلَ يد الملك فكان رد العِزِّ هو “والله ما أرضى أن يُقَبِّلَ الصالح يدي”.
ولم يدم عهد الصالح إسماعيل طويلا بعد ذلك؛ إذ سرعان ما هُزم جيشه المتحالف مع الصليبيين على يد جيش ابن أخيه الصالح أيوب، الذي استقبل الإمام العِزَّ في مصر وأكرم نزله وعينه في منصب قاضي القضاة.
لم يداهن العزُّ الحكام في مصر، كما لم يفعل في الشام.. فكان من أول أحكامه قاضيا للقضاة أنَّ المماليك –الذين أكثر الصالح أيوب من شرائهم– لازالوا في الرق؛ وليسوا احرارا؛ فأوقف –على إثر ذلك– كافة تعاملاتهم في البيع والشراء والزواج بل زاد على ذلك أن قرر بيعهم، وإيداع ثمنهم بيتَ مال المسلمين.
وفي محاولة من الصالح أيوب لحفظ ماء الوجه قام بشراء المماليك من ماله الخاص في مشهد يشبه المزاد العلني الذي شهده أهل القاهرة عن بكرة أبيهم، وأكسب العزَّ حظوةً ومكانةً رفيعةً عند العامة.
ولم يَقِل دور العزِّ في مواجهة الغزاة عن دوره في مواجهة السلاطين؛ فحين قدمت الحملة الصليبية الفرنسية على مصر بقيادة ملك فرنسا آنذاك “لويس” التاسع عام ٦٤٧هـ، خرج العز مع الجنود ومجموعة من الفقهاء إلى المنصورة، حيث دارت رحى معركة طاحنة انتهت بهزيمة “لويس” التاسع وأسره ويذكر المؤرخ تاج الدين ابن السبكي، بشكل لا يخلو من المبالغة “كان الشيخ (العز بن عبدالسلام) مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح «يا ريحُ خُذيهم» عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح وغرق أكثرُ الفرنج، وصرخ من بين يدى المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد رجلا سخّر له الريح”.
وبعد وفاة الملك الصالح أيوب وصعود المماليك إلى سُدَّة السلطة في مصر كان على الدولة الجديدة أن تواجه الخطر المغولي الزاحف إليها من الشرق.
وهنا برز دور الإمام العزِّ مرة أخرى، إذ سعى السلطان الشاب “قُطُز” إلى جمع الأموال؛ لتسليح الجيش لمواجهة المغول؛ فأراد أن يستشيرَ فقهاء الأمة من أمثال العزِّ في أمر فرض ضرائب جديدة على الشعب من أجل هذا الغرض.
إلا أنَّ العزَّ نصيرُ البسطاء رفض هذا القرار وأكدَّ أنَّ على السلطان أولا أن يُخرج الحلي التي في بيته وبيوت الأمراء وأن يضربها -أي يحولها- نقودا فإذا لم تف بالحاجـة؛ فحينها يفرض الضرائب على الناس.
وأخذ “قُطُز” بنصيحة العزِّ، وجهَّز الجيش الذي واجه المغول وأوقف زحفهم وأنزل بهم الهزيمة في موقعة عين جالوت.
وبعد هذا النصر وعند وصول أحد أبطاله وهو الظاهر “بيبرس” إلى منصب السلطنة، رفض العز مبايعته لإيمانه أنه لايزال مملوكا وقال له على رءوس الأشهاد: ” يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك “البندقدار” وهو اسم مالك “بيبرس” الأصلي. أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف”.
وهو ما اضطر “بيبرس” لأن يحضر إلى الإمام العزِّ ما يُثبت أنَّ “البندقدار” قد وهبه للملك الصالح أيوب الذي أعتقه، وعندها فقط تقدَّم الإمام العزُّ وبايع السلطان الجديد.
ويشير الإمام السيوطي في كتابه “طبقات الحفاظ” إلى أنَّ “بيبرس” على كثرة انتصاراته العسكرية؛ كان يهاب الإمام العزَّ، ويضيف “وكان بمصر منقمعا، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخـرج عن أمره”.
وحين تُوفِّي العزُّ في سنة ١٢٦٢م عن عمر ناهز الثالثة والثمانين قضى معظمها في جهاد متصل، بالقول والعمل.. شيَّعته الجماهير التي أحبته في كل من مصر وبلاد الشام بل وأقيمت على روحه صلاة الجنازة في مكة والمدينة والعراق وحتى بلاد اليمن.