ناقش موقع “أصوات” في أولى ندواته عند انطلاقه، المشروع الفكري للدكتور حسن حنفي، والذي كان المشروع الأكثر توازنا في تجديد الفكر، وإعادة النظر في التاريخ الثقافي العربي والإسلامي، بحثا عن حلول ناجعة لمشكلات الواقع الراهن، مراعيا عمق الطرح؛ استدعاء لآراء النخبة والمثقفين؛ دون إهمالٍ لتفاعل الأشخاص العاديين من المهتمين بالشأن العام.
يتمحور مشروع حسن حنفي حول محاولة إعادة بناء العلوم الإسلامية التي صنعت ما يعرف بالثقافة الشعبية العامة لدى عموم الناس في المجتمع، كما أن فكرة اليسار الإسلامي فكرة رئيسة في أفكار وكتابات حنفي، وكذلك انبهاره بلاهوت التحرير ودور الكنائس في أمريكا اللاتينية، التي أسهمت في حدوث النهضة والتقدم في هذه المجتمعات، محاولا الإجابة عن السؤال: هل يمكن أن يتكرر هذا النموذج في مجتمعاتنا، أم أن الفكر الديني –الإسلامي والمسيحي– في منطقتنا له خصوصية مختلفة؟.
المحور الأول حسام الحداد
خطورة التوافق الزائف
بداية لابد من الاعتراف أن النص سواء كان قرآنيا أم تراثيا شكَّل أحد أهم الانشغالات الفكرية في العقود الماضية خصوصا في الثقافة العربية والإسلامية، ولما كان كل خطاب حمَّال أوجه كان الجهد الفكري في كل قراءة يكمن في الكشف عن المعني الخفي للنص، وأنَّ حقيقة الخطاب لا تكمن في المنطوق الظاهري؛ ولكن في المسكوت عنه.. لا في البحث عن صحة الأفكار أو فسادها، بقدر ما تهتم بتفهم مظاهر التعارض والاختلاف حسب “جاك دريدا” ومن هنا لا نعجب من الذين يطلقون على الحضارة العربية أنها حضارة نص، وقد ظهر في هذا السياق جملة من المشاريع التي تشتغل على النص قراءة وتأويلا من أجل النهوض بالواقع العربي لإنجاز حداثة عربية جديدة، تساهم في الخروج من هذا الواقع المتأزم؛ خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وطرح السؤال الذي يتهم النص الإسلامي بتفرده في انتاج العنف والتطرف، وقد أدت هذه التحديات التي تواجه البلدان العربية إلى ظهور مقاربات متعددة تتعلق بالنص قراءة وتأويلا، فجاء مشروع الدكتور حسن حنفي المتمثل في الرؤية التجديدية لقراءة التراث، كمحاولة أراد بها أن تكون طريقا ثالثا، بين العلمانية والسلفية وأن يواكب مشروعه تطور واقعه العربي والعالمي.
يقول حسن حنفي: “التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على العديد من المستويات، ويؤكد حنفي في موضع آخر أن “التراث هو المخزون النفسي عند الجماهير، وهو تمركز الماضي في الحاضر، هذا التراث تحوَّل إلى سلطة في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة، بحيث أصبح يمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيمه وسلوكه، ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية وهي المجتمعات التراثية التي لا زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها، وفي جذورها التاريخية، شرط تنميتها وازدهارها”. فالتراث بحسب حسن حنفي ليس جزءًا من الواقع ولكنه خارج الواقع، بل بديلا عن الواقع، يطرد الواقع الحالي ويحل محله الواقع التراثي، ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن، فالتراث لا يقبل واقعا من خارجه.
يؤكد حسن حنفي في موقع أخر حقيقة أن التراث ليس دينا فقط فيقول ” ففيه يتداخل الديني والشعبي والمقدس والدنيوي، لا فرق في الاستخدام الشعبي بين الاستشهاد بالآية القرآنية أو الحديث النبوي، وبين الاستشهاد بالمثل الشعبي وبسير الأبطال، كلاهما مصدر سلطة، وتتداخل معهما أقوال الآباء والأجداد ونصائح المعلمين والمشايخ والرواد، الكل حجة سلطة وليس حجة عقل يتداخل فيه الصحيح والموضوع والتاريخي والمروي والخيالي، الكل يكون مخزونا في اللا شعور التاريخي للأمة وفي ذاكرتها الجماعية، فالتراث ليس الدين فقط، لأنه ظاهرة حضارية، والحضارة تتكون في الزمان والمكان وبفعلها يصبح الدين جزءا من التراث، وليس كل التراث، ليس كل التراث في الدين وليس كل الدين تراث”.
وحسب حسن حنفي، فالتراث ما هو إلا غطاء زماني أو مكاني يحمل في طياته كل شيء، ولا يوجد دين في ذاته ولكن يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة، ويمكن تطويرها طبقا للحظة تاريخية قادمة.
هذه الرؤية للتراث حتَّمت على حسن حنفي إعادة قراءة التراث قصد التوصل إلى مشروع يرتقي بالتراث إلى زمننا الراهن ويسايره وينهض به، ويكون بذلك قد جدَّد في التراث، بإعادة بناء التراث العربي والإسلامي بشكل عام والتراث الفلسفي بشكل خاص، وذلك بإعادة بناء علومه وأبنيته، وحلوله، واختياراته الممكنة.
أما عن مفهوم التجديد، فقد ارتبط بكثير من المفاهيم المتلازمة له مثل التغيير، والتطوير، والتقدم، من خلال علاقة التلازم والتكامل، يدل على أن التجديد في الحضارة هو فعل إنساني مرتبط بعدة أفعال أخرى. هذه الأفعال بعضها يمثل شرطا ضروريا لحصول التجديد في التاريخ والحضارة، والتجديد عند حسن حنفي هو إعادة قراءة التراث بمنظور العصر، ليس معنى ذلك أن القراءات القديمة له خاطئة، أو أن القراءات المستقبلية له غير واردة، بل كلها صحيحة ولكن الخطأ هو قراءة التراث من المعاصرين بمنظور غير عصري، هنا يكمن الخطأ وهو عدم المعاصرة.
أما مظاهر التجديد عند حسن حنفي، فيقوم مشروعه على طرح قضية التراث كأساس وشرط وقضية، والتجديد كمنهج وميدان وعلم داخل مشروع حضاري من شأنه أن يحل أزمة العالم العربي والإسلامي المعاصر بأسلوب علمي، فهو مشروع يؤسس للتغيير الاجتماعي من خلال منهج يجمع بين التراث والتجديد بكيفية جديدة لا تسمح بسيطرة التراث بمفرده أو سيطرة العصر بمفرده، ففي كثير من الأحيان تكون مشكلة اتجاهات الفكر العربي والإسلامي المعاصر في المفاهيم، لذا يؤكد حسن حنفي على ضبط مفهومي التراث والتجديد، ونقطة الانطلاق في مشروعه هي التراث وليس الغرض من ذلك تجديده لأجل المحافظة عليه وعلى أصالته؛ بل من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية وتأصل الحاضر ودفعه على التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي.
فالتراث إذن هو نقطة بداية كمسئولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، فالقديم يسبق الجديد والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي للغاية، وهنا يصبح التراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته والقضاء على أسباب معوقاته التي تمنع أي محاولة لتطويره، واذا كان الغرب الحديث بدأ نهضته العلمية من الواقع باعتباره مصدر الفكر الأول والأخير، فإن تراثنا حسب حسن حنفي جزء من الواقع فمازلنا نعيش بفكرة القضاء والقدر، وثنائية الله والعالم، وبالقيم السلبية في التصوف، مثل الصبر والقناعة والتوكل والتسليم.. وتتشعب المناقشات في الفروع التي لا تغير شيئا في الواقع، فالتراث مازال حيا في شعور العصر ووجدانه ويمكن للتراث أن يوثر في العصر، ويكون محددا وموجها للسلوك فيه. تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع فالتراث جزء من مكونات الواقع، وليس دفاعا عن موروث قديم، التراث حي بفعل من الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغيره لصالح التغيير الاجتماعي، تجديد التراث إذن هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير، وهو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة والقضاء على معوقات التقدم والتنمية، والتمهيد لكل تغير جذري للواقع، فهو عمل لابد للثوري أن يقوم به.
قمنا بتقديم بعض ملامح مشروع حسن حنفي لتجديد التراث، كتمهيد لإبداء بعض الملاحظات على هذا المشروع لنجد العائق الذي تنطوي عليه قراءة حنفي والذي فرضته طبيعة أدواته المنهجية.
يتجلى العائق الأول بشكل أوضح في تبني استراتيجية التحول بالأبنية التراثية من دلالتها القديمة إلى دلالات أكثر توافقا مع العصر، بحيث تنكشف في الشعور من دون تلك الدلالات القديمة نفسها، وذلك بردها للسياق المعرفي والتاريخي الذي أنتجها، لتبدو كأنها تجاور بين دلالتين أو القفز من دلالة أقدم لدلالة أحدث، دون تأسيس لأي منهما في جملة السياقات التي أنتجتها بل في مجرد الشعور المنتج للدلالة ولعل ذلك هو مأزق الشعور.
وإذا سلَّمنا بما قاله حنفي بأن العقائد تحولت لدى الأمة في العصور الأخيرة إلى مجرد عواطف إيمانية معزولة عن العمل الواقعي، وعن سلوك الأفراد، وعما ينبغي أن يكون عليه أثر هذه العقائد في واقع الحياة والمعاملات، فإن هذا الفصل، إنَّما ترتب على ظروف تاريخية ومتغيرات كثيرة أكثر مما قورنت به على قيام المتكلمين القدماء بفصل الأصول عن الفروع، أو تسمية العلم بأصول الدين كما يزعم حنفي، والذي -بحسب البعض- ينظر للتراث باعتباره معوقا للتقدم أكثر من كونه أداة للتحديث، فـ حنفي يُحمِّل التراث أزمة الإنسان والتاريخ والحرية والديمقراطية والكثير من نكبات الحاضر ومشكلاته، وهذا ما يُشكِّل موقفا سلبيا له من التراث، وذلك على الرغم من تكراره الدائم، أنَّ التراث مخزون نفسي لدى الجماهير يمكن استغلاله في تحقيق التنمية.
وتكمن إشكالية المنهج عند حنفي في أنَّه يلجأ غالبا إلى اتباع سبيل التوافقية الزائفة التي تلوي عنق النصوص، بغية تطويعها لفكرة ما قد تكون في جوهرها بعيدة كل البعد عن هذه النصوص.
المحور الثاني: لاهوت التحرير الإسلامي
نبيل مرقس
هل يمكن محاكاة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية؟
قضية “التغيير والتجديد” المستند إلى التراث الديني بحسب أطروحة د. حسن حنفي تهدف إلى إنتاج لاهوت تحرير مصري شرقي يحمل التراث الديني المحلي ويحوِّله إلى وقود في عجلة التغيير الثوري المستند إلى التراث الديني.
غير أنني أرى أن هناك عدة أسباب خاصة شكَّلت أرضية لانطلاق هذه المعجزة التي حدثت في أمريكا اللاتينية منها:
- أن لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، نجح في إبداع خطاب ديني ثوري يتجاوز المصالح التقليدية للبيروقراطية الدينية المستفيدة من النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم، ينزع نحو تحويل رجل الدين التقليدي إلى مثقف ثوري، يعيد تأويل الخطاب الديني ليحوله إلى قراءة نقدية للواقع المأزوم من حوله، المنحاز ضد مصالح الفقراء والمهمشين ويضيف إليه من رسالته الدينية مددا مثاليا ثوريا يجعل الكنيسة في موقع المقاتل من أجل قضايا الفقراء والمهمشين والمنبوذين.
- أن لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية قام بتقديم حلول مبدعة لكيفية وصول الفكر الثوري المحتجز عادة في دوائر المثقفين والنخب اليسارية في المدن، والمحجوب عن وعي الإنسان البسيط من الطبقات الشعبية للعمال والفلاحين في لغة سهلة بسيطة خالية من تعقيدات وصياغات المنظِّرين تحمل شحنات الإيمان الديني الأصيل والنقي وتحمل معها مفردات الوعي الثوري بتناقضات الواقع وبانحيازه المزمن ضد مصالح طبقات الفقراء والمهمشين. وبلغة “باولو فريري” قدَّم لاهوت التحرير “توليفة ثقافية” Cultural Synthesis جديدة تحمل مزيجا من التراث الديني التقليدي والوعي الثوري النقدي الذي حجب طويلا عن وعي البسطاء بسبب صعوبة اللغة وتعقيد المصطلح وعجز المثقف الثوري في المدينة عن الخروج من شرنقته الثقافية والطبقية، ودفع تكلفة الانحياز الكامل والالتزام غير المشروط مع جماهير الفقراء في الريف وفي عشوائيات المدينة.
- قدم لاهوت التحرير إطارا عقائديا واسعا يسمح لكل المجتهدين والمبدعين الأصلاء داخل إطار منظومة “التراث والتجديد” بلغة حسن حنفي بالتعبير عن أفكارهم وانحيازاتهم في خدمة قضية تطويع الدين والتراث الديني ليصبح رأس حربة في معركة التغيير والتحرير. بينما نري جُلَّ المفكرين والمبدعين إسلاميا ومسيحيا في تراثنا الديني المصري والشرقي وقد وقعوا تحت مقصلة النبذ والتكفير و”الدفن أحياء” لتجاسرهم علي تحدي البيروقراطية الدينية المتحالفة مع النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم (راجع تاريخيا ما حدث لمحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين ونصر حامد أبوزيد علي يد المؤسسة الدينية الإسلامية، وأيضا ما حدث للأب متي المسكين واللاهوتي جورج حبيب بباوي علي يد المؤسسة الدينية المسيحية ).
- يجب أن نعترف أن الكنيسة الغربية الكاثوليكية قد أتاحت بعد مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) هامشا للحرية سمح للصوت الآخر داخل مؤسسات الكنيسة بالتعبير عن نفسه وبالاستمرار رغم كل الاضطهادات والضغوط والمحاربات حتي حصل مؤخرا علي اعتراف غير مسبوق من قبل البيروقراطية الدينية (تم اعتراف الكنيسة الكاثوليكية في مارس 2018 بقداسة الشهيد أوسكار روميرو أحد أبرز رواد حركة لاهوت التحرير والذي كان رئيسا لأساقفة السلفادور بين عامي 1977 ، 1980 وتم اغتياله في 24 مارس 1980 أثناء إقامته لصلاة القداس وذلك بسبب دفاعه عن حقوق الفقراء والمهمشين وأدت حادثة الاغتيال إلى جر البلاد لحرب أهلية استمرت أحداثها اثنتي عشر عاما)
من الواضح أنَّ هذه الأسباب المذكورة أعلاه قد غابت عن ساحتنا المصرية التي لم يبرز عليها كحركة دينية قاعدية تستند إلى التراث الديني سوي حركة الاخوان، والتي انتهت محاولتها منذ عام 1928 لإقامة المجتمع/الدولة الإسلامية علي الأرض المصرية إلى صدام مروع مع أجهزة الدولة المصرية في 14 أغسطس 2013، بينما تعثرت جهود الحركة اليسارية في الريف المصري (عدا انتفاضة كمشيش الثورية في عام 1966) وأيضا ظهر ضعف وهشاشة جهود المثقفين العلمانيين في المدينة في محاولة الوصول إلى نموذج أصيل للتغيير يستند إلى التراث قادر على مخاطبة جماهير الفلاحين المصريين (راجع تجربتي المهندس حسن فتحي في قرية القرنة بالأقصر والمهندس رمسيس ويصا في قرية الحرانية).
الدكتور كريم الصياد
دولة المستبد العادل
الواجهة الفلسفية لمشروع حسن حنفي هو التراث والتجديد، أما الواجهة الأيدولوجية السياسية هي اليسار الإسلامي، فهما وجهان لعملة واحدة، هذا المشروع على قدرٍ كافٍ من التعقيد ويحتاج إلى صالونات لتقريبه للناس، ولدينا أمثلة دالة على غموض هذا المشروع، مثل النقد الذي قدمه جورج طرابيشي للمشروعات العربية المعاصرة.
أولا: نتوقف عند مصطلح إعادة البناء، ولماذا استعملها حسن حنفي، وهو يستخدمها في ثلاثة مجالات أو ثلاث جبهات، التراث القديم، والتراث الغربي، وأيضا إعادة بناء الواقع.
وإعادة البناء هي استراتيجية تختلف عن استراتيجيات التجديد أو الإصلاح الإسلامي السابقة عليها وهذا الاختلاف في الدرجة، وليس اختلافا في النوع، وهي محاولة إعادة بناء الأركان والأصول الأساسية لهذا التراث، سنجد أنَّه حاول إعادة تعريف علم أصول الفقه، وإعادة بناء علم الأصول والفروع بشكل شامل وبالتالي تختلف هذه المحاولة عن محاولات الإصلاح الإسلامي السابقة، والتي كانت تحتفظ بأصول معينة وخطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها، وتحاول أن تُجدّدَ في الفروع. لكن مشروع حنفي كما نعلم هو محاولة أشمل وأعمق.
وفكرة إعادة البناء كاستراتيجية للتجديد تنطلق من قاعدة نقدية لنقد مناهج المسلمين والمستشرقين، فهو يأخذ على المستشرقين أنَّهم استعملوا المناهج التاريخية التي حوَّلت الظواهر الإسلامية إلى تفاعلات ميكانيكية، واستبعدت الوعي والشعور الإسلامي، وهي ملاحظة خاضها الكثيرون في نقدهم على المستشرقين، باعتبار المستشرق يبحث التراث باعتباره منفصلا عنه، وباعتبار التراث موضوعا وباعتباره كمستشرق هو الذات الوحيدة، ولا يتعامل مع التراث الإسلامي باعتباره قرارا وجوديا أو محاولة لبناء قومية دينية عربية مختلفة عن وعي وعن خطة واستراتيجية قد يكون بها بعض المشاكل، فالمستشرق لا يتعامل مع التراث الإسلامي باعتباره ظاهرة واعية، لكنه يتعامل معه باعتباره ظاهرة طبيعية، مثل الظواهر الفيزيائية أو الكيمائية، وبالتالي حاول حسن حنفي أن يستبدل مشروعه باستراتيجية المستشرقين.
ولدينا أربعة مفاهيم أساسية عند حسن حنفي، التراث، والنص، والوحي، والواقع.
التراث هو كل ما وصل إلينا بكل تناقضاته ومشكلاته وهو أيضا مخزون نفسي، وهو يتعامل مع التراث باعتباره مؤثر نفسي وليس باعتباره نظرية.
أما مفهوم النص عند حسن حنفي، هو أحد تجليات الشعور، أو إحدى تجليات الوعي لكنه وعي يصدره الانسان، ثم ينفصل عن الإنسان ويفارقه. إذا كنا نتحدث عن نص ديني، فالنص عند حسن حنفي هو شكل من أشكال تجسد اللوجوس في اللاهوت المسيحي، فكما أن الكلمة صارت جسدا في اللاهوت المسيحي، فإن الكلمة أو الوعي عند حسن حنفي صار نصا.
أما مفهوم الواقع، فيقدمه باعتباره مفهوما بديهيا، فلا يحاول أن يعرف الواقع، لكنه يعني عند حسن حنفي الواقع الزماني، هو المعاصرة أو اللحظة الحاضرة ومجال فاعلية الإنسان، وهو واقع اجتماعي، وليس واقعا ميتافيزيقيا.
أما الوحي.. فهو وعي إنساني مفارق، مثل النص؛ ولكنه أخذ شكل الوحي، ومهمته الأساسية أن يوجه الشعور أو الإنسان بشكل موضوعي، أقرب للروح الموضوعي عند “هيجل” فهو مستوى من الوعي يتطور؛ لينفصل عن الإنسان ويتعالى عليه ويصبح مصدر سلطة كما يحدث غالبا؛ لكنه في الأخير وعي إنساني، وهو ما يوضح تأثر حنفي بـ “فويرباخ” بالذات من اليسار “الهيجلي” وهو الذي يرى أنَّ أشكال الوحي المختلفة وصفات الإله هي طبيعة إنسانية تَمَّ إسقاطها على السماء، بمنطق أنَّ الإنسان المقهور يعتقد أنَّ الله رحيم، والإنسان الفقير يعتقد أن الله غني، وتلك أمثلة مجازية، فالله هو صورة مكبرة ومبلورة من الإنسان تنعكس على السماء من الأرض.
تترابط كل تلك المفاهيم مع بعضها البعض، فالوحي في السماء صادر من الواقع الإنساني في الأرض في عملية تنزيل معكوس، وهذه الشبكة المفاهيمية عند حسن حنفي بها نوع من التدوير للواقع، فالواقع عنده يتحول إلى وحي، ينزل مرة أخرى في تنزيل معتدل، وهو ما يعرف بالتراث.
استراتيجية حسن حنفي لتجديد التراث تعتمد على تفكيك هذا التراث تفكيكا تزامنيا، فسنجد فرقا كبيرا بين حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد، فنصر أبو زيد حينما يتحدث عن علوم القرآن، يركز على الأساسيات والركائز والأفكار الجوهرية والمفاهيم الأساسية، أما حنفي فلا يميز بين أصل وفرع، أو مفهوم جوهري وآخر ثانوي؛ حتى يأخذ هذا المفهوم في دائرة البحث بدلا من أن يتعامل مع كل جزئيات العلم، فيقوم بتفكيك كامل تزامني.
وهو ما يجعلنا نعتقد أن حنفي له استراتيجية معلنة وأخرى خفية، والمعلنة هي: منطق التجديد اللغوي وتغيير البيئة الثقافية، وهي التي أعلنها في كتاب التراث والتجديد، يعني تغيير لغة التعامل مع العلم، ولغة بحث العلم لمحاولة عصرنة وتحديث هذا العلم.
أما الاستراتيجية الخفية، وهي الأكثر أهمية فهي مقسمة إلى قسمين، الأولى هي رد الفعل، فهو يكتب نصه ليؤثر على القارئ، لا ليعلمه بشكل محدد، فعند قراءة حسن حنفي لا تخرج منه بنظرية، مثل أن تخرج بنظرية من “هيجل” أو “كانط” هو لا يفيد بنظرية ولكن فاعلية “من وإلى”.
أما القسم الثاني فهي نظرية الثالث الأيديولوجي، بفرض أنني مثقف علماني، وأنت مثقف أصولي سلفي، والجمهور معك، فلا أستطيع أن أجابهك بشكل مباشر، وإنما ينبغي لي أن أجد طرفا ثالثا، فأقول أنا مثقف علماني يساري أجابه الاستعمار والاستغلال والاحتكار، حتى أستطيع أن أحصل على بعض الشعبية، وهذا هو الطابع الشعبوي لمشروع التراث والتجديد.. إنَّه مشروع يحاول أن يحصل على أكبر قدر ممكن من الأصوات، لا أن يحرر هذه الأصوات، فهو يتعامل مع الجمهور المتأثر بالتراث ويحاول أن يحافظ على حالته لا يحاول أن يحرر هذا الجمهور من التراث، فهو هنا يختلف اختلافا فارقا عن المثقفين العلمانيين مثل مراد وهبة، أو جورج طرابيشي.
أخيرا أتكلم عن تقنية إعادة البناء عند حسن حنفي، فهو يقوِّس مصادر العلم، يعني الله كمصدر للقرآن بين قوسين لا يصدر عليه أحكاما وإنَّما يتعامل مع منتجات ونصوص هذا الطرف، وأيضا، المتن والهامش وهيكل الصفحة، فللصفحة عند حسن حنفي شكل مميز يدل على أنها من كتابته، فالنص كله في الهامش، والمتن كله للمؤلف، في محاولة للتوازن بين التراث والحداثة.
وأيضا استعمال اللغة الوصفية، التي يحاول بها أن يتخفى عن الخصوم، فيستعمل الجمل الاسمية والأفعال المضارعة والمبني للمجهول، والجمل القصيرة، فهو يحاول أن يحشدَ أكبر قدر من تناقضات هذا التراث ليبينَ أنَّ هذا التراث متنوع وأنَّ الإسلام متنوع وأكبر من تصنيفه في شكل محدد.
وفي النهاية يجب أن نسألَ. هل أصابت فكرة التفكيك التزامني هدفها؟. أرى أن هذه الاستراتيجية قد ضيَّعت وقتا وجهدا في تفكيك فروع بدلا من التركيز على تفكيك الأصول، وكذلك عدم وضوح الموقف في القضايا الفلسفية الكبرى، وقد يكون وضوح الموقف وسيلة أقوى لتجديد المجتمع لبلورة اتجاهٍ سياسي أو فلسفي.
أما النقطة الأخيرة التي يجب أن نتعرض لها. فتدور حول تركيز حسن حنفي على إظهار علاقة الإسلام بالمصلحة، فيقول أن الإسلام يراعي مصالح الناس فهو أقرب للعلمانية، والعلمانية تبحث عن مصالح الناس فهي أيضا أقرب للإسلام، ويحاول أن يوفق بينهما بناء على المصلحة باعتبارها حلقة الصلة، في المقابل لم يركز حنفي على الحقوق الإنسانية الطبيعية، فحقوق الإنسان عند حسن حنفي نجدها في بعض المقالات لكن أين هي في علم أصول الفقه، وهو أصل التشريع الإسلامي، فلم يركز على الحقوق الانسانية، فقدم تصورا في مشروعه لليسار الإسلامي يركز على المصلحة العامة، ولا يضع اعتبارا للحقوق الإنسانية الفردية، لأنَّ حسن حنفي يقدم تصورا شموليا للدولة، وهو أقرب إلى نموذج دولة المستبد العادل.