ثقافة

عبد الله النديم.. وسر التقدم والتأخر

لم يكن عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني الشهير بعبد الله النديم؛ مجرد خطيب مفوه سخَّر لسانه ومهاراته البلاغية والخطابية لخدمة الثورة الوطنية المصرية الشهيرة بالثورة العُرابيه قبيل الاحتلال الإنجليزي لمصر عام ١٨٨٢م.

وإنَّما كان أيضا –كما تشي مقالاته على صفحات المجلات التي أصدرها من “التنكيت والتبكيت” إلى “الأستاذ”– صاحب همٍّ وطني وكاتبا متأملا متعمقا، في ما آل إليه حال أمته العربية والإسلامية، وباحثا في كيفية نهضتها وعودتها لسابق عهدها بعد قرون من التأخر؛ أدّت إلى سيطرة الاستعمار الأوروبي عليها وعلى أراضيها ومقدراتها.

وفي مقاله القيم الذي عنونه “بم تقدموا وتأخرنا” والذي ضمَّنه مجلته “الأستاذ” عام ١٨٩٢ عقب عودته من المنفى إلى مصر؛ يُقِرُّ النديم بأن سؤال التقدم والتأخر هو سؤال “لهجت به ألسنة الشرقيين واشتغل العقلاء به في كل الممالك الشرقية”.

ويرفض النديم كليةً دعوى الأوروبيين ومقلديهم في الشرق.. أنَّ الدين الإسلامي هو سر هذا التأخر حيث أنَّ “الشرق ممتلئ بأديان تغاير الدين الإسلامي، والآخذون بها أضعاف الآخذين بالإسلام، ومع ذلك فإنَّ تقهقرهم في المَدَنِيَّة والقوى العلمية أكثر من المسلمين”.

التنكيت والتبكيت

ويضيف أن هذه الدعوى مدحوضة بالحروب المتواصلة بين الأوروبيين منذ عهد الدولة الرومانية؛ وحتى زمن كتابته هذا المقال (القرن التاسع عشر).

ثم يمضي النديم في محاولته تفسير التقدم الأوروبي، ويَخْلُصُ إلى عدة أسبابٍ: أولها هو توحيد اللغة داخل القطر الأوروبي الواحد، وهذا لأن توحيد المملكة الواحدة للغة “في المعاملات والتكليفات والتعليم والمخاطبات” يحظر على الرعايا استخدام لغة الغير إلا لضرورة بحيث لا يتوسعون في استخدامها حتى لا “تسطو على اللغة المحلية”.

وكما وحَّدت أوروبا اللغة داخل كل قطر؛ فإنَّ الممالك الأوروبية أيضا –وفقا للنديم– وحدت السلطة بحيث لا يتمكن أي فرد من الرعية من الفرار “من توزيع السلطة وضياع القانون بالأهواء والميول”.

أما السبب الثالث فهو ما يسميه النديم “توحيد الديانة” وهو هدف أريقت في سبيله الكثير من الدماء في تاريخ أوروبا من أجل “توحيد الجماعة الدينية” وحين انضمت وحدة الدين إلى وحدة اللغة والسلطة “قامت المملكة على أساس متين”.

مقع من مذكرات النديم

ورغم ما بين ممالك أوروبا من التباين إلا أنّ ملوكها كما أكَّد النديم؛ عقدوا المعاهدات “لتأمن كل مملكة شر جارتها وتلتفت لتنظيم إدارتها” وبالتالي “اجتمعت كلمة ملوك أوروبا على حفظ الوحدة الأوروبية من مس الشرق لها” وهذا النوع من الوفاق الأوروبي هو ما مكَّن الاستعمار من “التغلغل في أفريقيا وآسيا”.

وعلى العكس تماما من الوفاق بين الاستعماريين الأوروبيين فإنَّ الممالك الشرقية قد “استبدلت الاتفاق بالنفرة وبث العداوة بين أفراد الأمم”.

إلا أن هذه الأسباب ليست وحدها التفسير لما آل إليه حال كل من الشرق وأوروبا؛ حيث يدرج النديم ما يسميه بالأسباب الفرعية ومن بينها إطلاق حرية الكُتَّاب في نشر أفكارهم، وبهذا “رَبَّى الكُتَّابُ الأمم وهذبوهم ونقلوهم من حضيض الجهل والخمول، إلى ذروة العلم والتطور” وهنا أيضا كان الشرق على النقيض حيث “خاف الملوك من الكُتَّاب” وضغطوا على أفكارهم “حتَّى أماتوها في أذهانهم” وذلك رغم أن دولة صدر الإسلام قد “أطلقت حرية الأفكار وجمعت العلماء من كل الجهات وترجمت كتب الأوائل”.

وعلى الصعيد الاقتصادي فإنَّ أرباب الأموال في أوروبا استغلوا ثرواتهم “في المعامل والتجارة” وبهذا النوع من الاستثمار “اتسعت الثروة وارتفع الفقراء إلى مقام الأغنياء” إلا أنَّ الشرقيين بدلا من أن يقوموا بالخطوة ذاتها فقد “استعملوا مصنوع أوروبا حتى أماتوا الصنعة والصناع”.

وفي الوقت ذاته فإنَّ ملوك أوروبا انتهجوا نهج تشجيع الاختراع والابتكار “وكلما اخترع واحد شيئا كوفئ على اختراعه” وبالتالي زاد عدد المخترعين، وعرفت أوروبا البخار والكهرباء واكتشفت عوالم جديدة.

في المقابل فإنَّ الشرقيين انكبوا على المنتج الأوروبي بدلا من تشجيع مخترعيهم و”اغمض الملوك عنهم عين الرعاية والاعتبار” وبالتالي “فترت الهمم وقعدت عن السعي خلف النافع من بنات الأفكار”.

ولا ينسى النديم بطبيعة الحال الإشارة إلى أهمية تعميم التعليم الذي انتهجته أوروبا في عصر نهضتها في مقابل إهمال الشرقيين للعلم وأهله، وهي سياسة مرتبطة باستحداث الأوروبيين لمجالس الشورى (البرلمانات) المنتخبة من الشعوب لمحاسبة الحكام الذين صاروا “لا يصرفون ولا يُحْدِثُونَ عملا ولا يبرمون أمرا إلا بمشورة نوابهم”.

ويذكر النديم سببا فرعيا لا يخلو من الطرافة، وهو استخدام الأوروبيين لمجالسهم الخاصة “لاجتماع أهل الأفكار” في حين جعل الشرقيون مجالسهم قاصرة على “الغيبة والنميمة”.

وبعد هذا التحليل لا يرى النديم أنَّ التقدم والتأخر قدرٌ لا فكاك منه كما يصور البعض، وإنَّما يرى أنَّ نهوض الشرق ممكنٌ “إذا أطلق الملوك حرية الأفكار والمطبوعات” وإذا بذل الأغنياء الذهب في حياة الصنعة وتعميم المعارف في المدن والقرى” وإذا ما “اجتمعت كلمة الملوك والوزراء والأمم على السعي خلف التقدم” عندها يمكنهم أن “يقفوا تيار أوروبا شيئا فشيئا؛ حتى يضارعوها قوة وعلما”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock