بقلم: د. نصر محمد عارف، نقلًا عن موقع العين، لقراءة المصدر الأصلي، أضغط هنا
في العالم المتقدم اقتصاديا نماذج متعددة للتعليم العام والجامعي، لعل أهمها النموذج الأوروبي، الذي يسمى “نظام بولونيا”.
و”بولونيا” هو نظام شامل يجمع بين تعليم القيم والأفكار والمهارات، غير أن الانتشار العالمي كان من نصيب النموذج الأمريكي، لأن المفهوم الشعبوي لفكرة العولمة جعلها مرادفاً لمفهوم “الأمْركة”، وأن ما يطلق عليه متطلبات عصر العولمة تبنّى في حقيقته النموذج الأمريكي أو نقل الخبرة الأمريكية في التعليم.
وهنا يجب أن نلقي نظرة سريعة على أهم ملامح النموذج التعليمي الأمريكي، الذي يركز بصورة أساسية على المهارات الأدائية أكثر من تركيزه على الأفكار أو النظريات أو الفلسفات، فأهم ما يميز التعليم الأمريكي في جميع التخصصات هو أنه تعليم ينصرف بصورة كلية إلى ترسيخ مجموعة مهارات مطلوبة لسوق العمل، وليس تعليماً يجمع بين الفكرة والمهارة، وإنما الفكرة فيه في جوهرها مهارة، بل إنه يركز على المهارة ويتجاوز الفكرة.
ولعل أهم عناصر الجاذبية في هذا النموذج أنه يستجيب بصورة سريعة وواضحة جدا مع متطلبات عمليات النمو الاقتصادي، أو التحديث الإداري، أو التطوير التكنولوجي، الذي يجذب مَن يديرون الشركات الاستثمارية.
لذلك كان حضور هذا النموذج –الذي أصبح يأخذ صفة العالمية وأطلقت شعوب العالم عليه مفهوم “العولمة”- طاغيا ومؤثراً ومن الصعب تجاهله، خصوصاً لدى شعوب وحكومات تطمح في تحقيق تنمية اقتصادية سريعة.
ودون إخلال بمتطلبات التحليل العلمي الدقيق لهذا النموذج يمكن أن نلخص أهم عناصر مكنوناته في النقاط الآتية:
1-الواحدية الفكرية والثقافية، فرغم شعار العولمة وما يتركه من انطباع بأن هناك تحاورا لأفكار وتفاعلا لثقافات وتلاقيا لحضارات، فحقيقة الأمر أن هذا الشعار يعبر عن تيار يسير في اتجاه واحد يعتبر أن الغرب بصفة عامة، وأمريكا بصفة خاصة، مصدرٌ لكل شيء، لذلك فقد تم الانتقال من واحدية الرؤية في زمن هيمنة الأيديولوجيا والحزب والطبقة إلى هيمنة الآخر القادم من وراء البحار، وفي كلتا الحالتين النتيجة واحدة، وهي أن ما يتلقاه المتعلم يعبر عن وجهة نظر واحدة، وعن فكرة واحدة، وعن نموذج واحد، حتى وإن انتشرت مقولات مثل “التفكير الإبداعي” و”التفكير النقدي”، فالنقد يتوجه دائماً للتراث الحضاري غير الأوروبي، وليس للتجربة الحضارية الغربية أو لحركة العولمة، والتفكير الإبداعي يكون دائماً مقلداً نمطَ التفكير الغربي ومساراته.
2-الواقعية المفرطة وتجاهل الأبعاد النظرية والفلسفية، فهذا هو جوهر حركة العولمة، وهي الإغراق في الواقع والتعامل معه مبتوراً عن سياقه التاريخي والحضاري والتجاهل شبه التام للنظريات والفلسفات، على أساس أنها تفكير مثالي، وأنها لا تؤدي إلى نتائج مباشرة على عملية التنمية، التي تمّ اختزالها في البعد الاقتصادي، وتمّ اختزال البعد الاقتصادي في الجوانب التكنولوجية، وتمّ اختزال التكنولوجيا في المنتج الاستهلاكي الترفيهي غالباً، وفي ظل هذه الوضعية أصبحت مخرجات العملية التعليمية في الجامعات تقترب كثيرا من مخرجات المدارس الفنية أو الحرفية، تنتج بشراً ليسوا سواء.. أدوات في ماكينة الرأسمالية العالمية تذكرنا بموقع الإنسان ودوره في عصر هيمنة الآلة كما عبرت عنه أفلام شارلي شابلن.
3-الارتباط الشديد بالاقتصاد العالمي على حساب الاقتصادات المحلية الإقليمية، فالتخصصات التي تقدمها الجامعات العربية في مرحلة العولمة أصبحت صورة طبق الأصل مما يتم تقديمه في الجامعات الأمريكية، وأحيانا دون تمييز لاختلاف السياق، وفي غالب الأحيان لا علاقة لها بالأبعاد المحلية. ففي دول زراعية بالأساس نجد الاهتمام بكليات الزراعة يتضاءل أمام الاهتمام بعلوم الحاسوب وإدارة الأعمال. وعلى الرغم من أهمية هذه التخصصات الحديثة وضرورتها وحاجة المجتمعات إليها، لا ينبغي أن تكون بديلا عن التخصصات، التي تكوّن أجيالا قادرة على تفعيل المزايا النسبية للاقتصاديات المحلية والإقليمية.
وفي ظل هذه الوضعية أصبحت نظم التعليم الجامعي في العالم العربي منهمكة بصورة كاملة في تعليم المهارات الفنية والأدائية واللغوية دون الاهتمام بنفس القدر بالمحتوى الفكري والنظري والفلسفي، ما سيؤدي على المديين المتوسط والبعيد إلى إنتاج جيل غير قادر على تحقيق التنمية المستقلة وإنما بارع في أن يكون وكيلا للاقتصاد العالمي ومروجا لمنتجاته، ومن ثم فإن هذه الحالة ستؤدي إلى ترسيخ التبعية الاقتصادية والثقافية، ثم السياسية، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج حالة الجمود في صورة جديدة ظاهرها تحضر وتقدم وجوهرها ضعف وخواء داخلي ينهار مع أقل الأزمات التلقائية أو المتعمدة.