رؤى

البلشي نقيبًا: أول انتصار للحركة الوطنية منذ 2014

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة مصر 360

حسين عبد الغني

انتخاب الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين المصريين الصحفي خالد البلشي مرشح تيار الاستقلال النقابي على حساب الصحفي خالد ميري مرشح الحكومة ورئيس تحرير الأخبار، ثاني أكبر مؤسسة صحفية قومية بكل إمكانياتها، ليس مجرد مسألة نقابية منعزلة، وإنما هو زلزال سياسي كبير قد تستمر توابعه بحيث تبعث الدماء في الجسد السياسي المصري المعتل منذ نحو عشر سنوات بحكم مطلق سياسيًا ويحمي مصالح القلة الغنية اقتصاديًا.

نتيجة انتخابات النقابة أكبر دليل عملي خارج جدران مقالات شجاعة في المواقع غير الحكومية و«بوستات» في «السوشيال ميديا»، على أن المطلب الشعبي في التغيير السياسي الشامل لأوضاع مصر وإدارتها الحالية قد انتقل من باب الدعوة والتمني إلى باب تحدي السلطة ومواجهتها عبر آلية الانتخابات السلمية.

ورافق انتخاب البلشي إعادة تشكيل عضوية مجلس النقابة المنتخب وفيه أزاح الصحفيون بشكل شبه كامل قبضة الدولة على أغلبية المجلس السابق.

أول انتصار للحركة الوطنية المصرية منذ 2014

هذا الفوز هو أول انتصار من نوعه تحققه الحركة الوطنية المصرية التي أعلنت رفضها الاستبداد السياسي والفشل الاقتصادي وبيع أصول مصر وإغراقها في الديون، وعارضت انسحاق غالبية الشعب المصري تحت عجلات الفقر والتضخم وغلاء الأسعار والخضوع لبرنامج صندوق النقد الدولي والدول المانحة للمساعدات، وعارضت التفريط في تيران وصنافير.

إذ لم تفعل هذه الحركة، التي أبت الخضوع رغم كل حصارها وضعفها، شيئًا سوى تلقي الهزيمة تلو الهزيمة والضربة تلو الضربة من الإدارة المصرية التي فضت تحالف 25 يناير/ 30 يونيو الذي تكون من جبهة وطنية واسعة لإسقاط نظام الإخوان وتحولت بعد ذلك لسجن وارتهان العديد من ألمع شباب تيار ٢٥ يناير، ووضعتهم خلف الأسوار والقضبان مدججة بقانون حبس احتياطي يخالف روح الدستور ليصل سلب حرية بعضهم لما يقارب عشر سنوات عجاف.

وتعرضت ثورة 25 يناير ورموزها وتضحياتها لأكبر عمليات تشويه واغتيال معنوي في التاريخ المصري والذي وصل في مستواه إلى العبث بكل تقاليد العمل السياسي والعمل العام وحدود الخصومة السياسية التي راكمتها مصر وحركتها السياسية منذ أكثر من 125 سنة.

تم حصار وتفكيك كل الأحزاب المعارضة وجرت عملية هندسة سياسية لأحزاب جديدة تلعب بعضًا من أدوار الحزب الوطني القديم لكن هذه المرة شكلته من قيادات مجهولة التاريخ لم تضبط من قبل متلبسة بممارسة العمل السياسي ليصبحوا أغلبية برلمانية فيقومون بتعديل الدستور وتفريغه من مضمونه والقضاء تمامًا على مبدأ تداول السلطة وعلى مبدأ توازن السلطات.

وحتى الحوار الوطني، الذي تمت الدعوة إليه أساسًا كوسيلة لتخفيف الانتقادات الغربية، قامت الحكومة بتجميده في ثلاجة من ثلاجات الموتى 12 شهرًا كاملًا، فها هو يكاد يكمل عامه الأول دون أن يبدأ أصلًا، وحتى لو بدأ فقد تجاوزته وتجاوزت سقوفه المنخفضة حالة السخط الحالي للمصريين الآن بسبب انهيار قدراتهم المعيشية وفقدان الأمل في قدرة الإدارة القائمة على إيجاد باب خروج آمن من الحائط المسدود الذي أوصلت الشعب والوطن إليه.

هذه أول مرة ترد الحركة الوطنية، عبر أهم نقابة للرأي، الصاع صاعين للانحياز الإعلامي الحكومي، وذلك عبر معركة انتخابية حسمتها الجماهير عبر صناديق الاقتراع.

الثأر لحرية الصحافة وكرامة الصحفي

ما حدث هو انتصار كامل لإرادة الجمعية العمومية للصحفيين وليس لتيار معين، إذ استثمرت الجماعة الصحفية الفرصة للرد على ما جرى في أكثر مرحلة سياسية تعرضت فيها المهنة لإهانة بالغة كما تعرضت حرية الصحافة إلى أكبر مستوى من مستويات الحصار وهو أثر بالسلب على اقتصاديات الصحفيين المستقلين ففرض عليهم البطالة والعوز المادي، خاصة مع ما جرى من احتكار تام لمؤسسات الإعلام وقصر العمل والترقي فيها -إلا ما ندر- على التابعين والموالين.

لقد تكفل غل يد الصحفيين عن ممارسة الحد الأدنى من حريتهم وفرض الرقابة الخانقة غير المعلنة على كل حرف وكل صورة وكل رسمة كاريكاتير فضلًا عن عمليات الإفقار الموازي للقاعدة العريضة من الصحفيين.. تكفل بإسقاط أسطورة «تغاضي عن حريتك من أجل لقمة عيشك واختر مرشحي الحكومة تغرق في الخدمات والمزايا»، فقد استوعب الصحفيون درس السنين العشر العجاف وهو: أن من يفرط في حريته يفرط في الضمانة الأولى للقمة عيشه.

كان هذا هو الثأر العام للجمعية العمومية.. ثأر حرية الصحافة ولقمة العيش للصحفي بكرامة دون ذل ومهانة.

الثأر من «اقتحام حرم وحرمة النقابة»

الثأر الثاني كان ثأرًا بأثر رجعي إذا صح التعبير، وهو ثأر اختلط فيه الرد على إهدار حرية الصحافة بالرد على إهدار كرامة وحرمة الكيان النقابي، عندما تجبر الأمن واقتحم مقر نقابة الصحفيين في مايو 2016 وألقى القبض علي يحيي قلاش أحد ألمع النقباء من تيار الاستقلال عن الحكومة مع زميليه جمال عبد الرحيم سكرتير عام النقابة حينها، وخالد البلشي وكيل النقابة الأسبق والنقيب المنتخب حديثًا أول أمس ثم احتجزهم، وأحيلوا لاحقًا إلي المحكمة وحُكم عليهم بالسجن لمدة عام واحد مع إيقاف التنفيذ.

ثأر الصحفيون للنقيب الأسبق يحيى قلاش بتصويتهم الجمعة 17 مارس 2023 للقائمة والنقيب الذي دعمه، أي لرمز من رموز النقابة وضمير من ضمائرها الحية في النضال من أجل حرية الصحافة. لم ينس الصحفيون هذه السابقة التي انطوت علي تجبر مفرط وعن إطلاق الدولة اليد بلا حدود للأمن في السياسة عامة وفي قمع الصحافة والصحفيين خاصة دون رادع أو خوف من حساب.

ثأر جيل 25 يناير من الصحفيين

بالورقة والقلم كان من المفترض أن لا ينجح مرشح معارض وتقدمي حر لا ينتمي لمؤسسة صحفية كبرى مثل خالد البلشي في مواجهة مرشح السلطة وانحيازها الإعلامي، وحملة التخويف منه والتشويه له و للنقيب المخضرم يحيى قلاش الذي دعم البلشي. ولكنه نجح وبفارق محترم ونجح معه أربعة أعضاء في المجلس يعدلون الميزان المختل في السابق لفريق الموالاة والتغاضي عما تتعرض له حرية الصحافة من كبت غير مسبوق.

وإضافة إلي انتفاضة الجمعية العمومية وثأرها لكرامة الصحفي ومنع العملية الممنهجة لإذلاله وسوق الصحفيين إلى مربع الموالاة، وكذلك الرد الغاضب على اقتحام حرمة نقابتهم التي تمت الإشارة إليه، لكنني أضيف هنا عاملًا أراه مهمًا هو ما يمكن تسميته بثأر الجيل الجديد من الصحفيين والصحفيات من أبناء ثورة 25 يناير -عن طريق هذه الانتخابات- لكل ما تعرضت له هذه الثورة وتضحياتها وشهدائها ومنهم صحفيون من تشويه وتخوين واحتقار في الخطاب السياسي والإعلامي الحكومي المصري في السنوات الثمان الأخيرة بما يتعارض حتى مع نص الدستور الذي أقسمت السلطة الحالية على الالتزام به. .

وقد أخذ هذا الجيل «الينايرجي» بشكل خاص بثأر زملائهم من الصحفيين الذين قبض عليهم ونالهم نصيب وافر من عمليات الارتهان الواسعة في السجون في السنوات العشر الأخيرة. ولعل هذا يفسر الهتاف الذي هيمن على انتخابات الجمعية العمومية الأخيرة (هاتوا اخواتنا من الزنازين.. عاشت وحدة الصحفيين).

هذا الجيل استطاع تحت خبرة أجيال نقابية شديدة الصلابة وعميقة المعرفة بخبايا الانتخابات في النقابة تمكن ليس فقط من إعادة الروح الجبهوية التي ميزت باستمرار المكونات المختلفة لتيار الإستقلال في نقابة الصحفيين من كامل زهيري إلي جلال عارف ومن جلال عارف إلي يحيى قلاش وأخيرا خالد البلشي ولكن نجح أيضا في إجراء عملية حشد منظمة اعتمدت على الوعي وعدالة قضية حرية الصحافة وكرامة الصحفي وأنهما كلاهما لن يتحقق إلا باسترداد النقابة لأبنائها كل أبنائها من هيمنة أطراف خارجية لا علاقة لها بالصحافة ولا بالنقابة.

وفي هذا المجال لابد من الإشارة بوجه خاص للدور البارز الذي لعبته الصحفيات المصريات من جيل الإنتماء لثورة 25 يناير مع تفاوت في الأعمار في حملة النقيب البلشي وقائمة الإستقلال من أعضاء مجلس النقابة التي دخلت معا وانتصرت معًا.

أليست هذه الانتخابات رسالة تحد ديمقراطية كبرى للسلطة السياسية تتجاوز نقابة الصحفيين لتقول باختصار: أجروا انتخابات برلمانية حرة وانتخابات رئاسية حرة تحت إشراف محايد حقيقي واحتكموا لصندوق لا هندسة مسبقة لنتائجه وليقبل الجميع معارضة وموالاة حكم المصريين على شعبية وشرعية الوضع السياسي القائم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock