في عام 1983 قدم المخرج الكبير محمد خان فيلم “الحريف” وأطل على جمهور السينما في مقدمته بقصيدة “الشارع” للشاعرة “أمنية جاهين وجاء صوت الفنان “أحمد زكى ” يردد القصيدة:
فيه ناس بتشتم بعض..
تضرب بعض..
تقتل بعض..
في الشارع
فيه ناس تنام على الأرض
في الشارع
وناس تبيع العرض في الشارع”.
هل توقعت “أمنية جاهين” أن يذبح الناس في شوارع مصر هكذا؟ أم أنَّه الخيال الذي لم يكن يظن أحد أن الواقع قد يبلغ مداه؛ فيتجاوز خيال الشعراء.
القتل في الشارع
اهتز المجتمع واصيب بصدمة مروعة بعد أن استيقظ على مشهد الدماء تسيل على الأسفلت في أحد شوارع مدينة الإسماعلية. كانت الواقعة مفجعة وماتزال تلقى بظلالها على الجميع وتشغل تفاصيلها وسائل الإعلام المختلفة ليس فقط لوحشيتها غير المعهودة؛ بل لأنَّها جرت في واحدة من أكثر محافظات مصر هدوء وسلمية وهى مدينة الإسماعلية.
بمجرد أن تداولت وسائل التواصل الاجتماعي التفاصيل المفزعة بقيام شخص بذبح شخص آخر وفصل رأسه عن جسده والتمثيل بجثته بطريقة تعيد للأذهان عصور إنسان الغابة واكتفاء المواطنين بمتابعة الحدث البشع خشية أن ينالهم أذى القاتل.
وما تزال النيابة العامة تتولى التحقيق في الواقعة التي ستشغل الراي العام لفترة ليست بالقليلة؛ وسيقف علماء الاجتماع وخبراء الجريمة عندها بالتحليل طويلا.
ثقافة العنف
في عام واحد استقبل خط نجدة الطفل 4240 بلاغًا واستغاثة عن ممارسة العنف الأسري بأشكاله ضد الأطفال، كان نصيب الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم 10 سنوات من هذا العنف 2793 بلاغًا، بنسبة 65% من بلاغات العنف ضد الأطفال.
ويعاني المجتمع من أزمات طاحنة؛ يأتي ارتفاع نسب الطلاق أحد أهم تجلياتها –أو مدخلاتها– حيث سجلت نسب الطلاق زيادة قدرها 6.7 % عام 2018 مقارنة بعام 2017، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وكشفت دراسة أجراها برنامج حماية الطفل بمنظمة “يونيسيف مصر” أن 50% من الأطفال في مصر يتعرضون للعنف الجسدي، ويُعد العنف النفسي أكثر الأشكال التي يتعرض لها الأطفال شيوعًا بنسبة 70% في المنزل.
نحن إذن أمام مجتمع يجنح إلى القسوة والغلظة بسرعة مخيفة ومُقلقة.. ولم تَنجُ المرأة من التعرض لقدر كبير من هذا العنف.
مع كل حدث جلل كهذا يتجدد السؤال الذي طرحه الدكتور جلال أمين ويصبح أكثر إلحاحا.
ماذا حدث للمصريين؟
في عام 1997، قدَّم المفكر الكبير الدكتور جلال أمين بحثه الهام “ماذا حدث للمصرين؟” والذى تناول تطور المجتمع المصري في نصف قرن (1945 – 1995) كشفت الدراسة التي أحدثت دويا واهتماما كبيرا –وماتزال– عن المتغيرات التي طرأت على الشخصية المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.. تلك المرحلة التي شهدت مصر خلالها أحداثا جساما من بينها ثورة يوليو 1952، وما أحدثته من متغيرات في الخريطة الاجتماعية والاقتصادية كما تعرضت مصر لهزيمة عسكرية كبرى في 1967، وبعد 6سنوات تحقق نصر أكتوبر 1973، ثم تعرضت لمتغيرات عميقة عقب تبنى الدولة لسياسات الانفتاح الاقتصادي، وما ترتب عليه من تغيير في نمط الحياة والسلوك بشكل عام.
هذه أهم المحطات التي شهدها المواطن المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين والتي ساهمت في إحداث تغيير كبير
بعد سنوات من تلك الدراسة قدَّم الدكتور “جلال أمين ” دراسة ثانية عام 2003، تحت عنوان “عصر الجماهير الغفيرة” والتي تناول خلالها نتائج الحراك الاجتماعي الذي شهدته مصر خلال نصف القرن الأول وهو زيادة الطلب على السلع والإعلام والثقافة.
وتمثِّل دراسة “جلال أمين ” أحد أهم وأكثر الابحاث التي تناولت تلك المرحلة من حيث الانتشار والاهتمام البحثي والتناول الإعلامي.
وبعد ما يزيد عن ثلاثة عقود جرت فيها في نهر الحياة مياه كثيرة؛ بل إنَّها فيضانات غيرَت ملامح البشر النفسية وتبدلت سلوكيات المصريين بشكل مخيف وأصبح العنف لغة سائدة بين أفراد المجتمع.
وقد أفرغ د. “جلال أمين” جزءا كبيرا من دراسته لتحليل واقع الطبقة الوسطى المصرية ووصل إلى نتيجة مفادها أنَّ تآكل تلك الطبقة بشكل لافت؛ هو أحد أسباب التردي المجتمعي الذى شهدته مصر باعتبار أنَّ الطبقة الوسطى هي حارسة للقيم والأخلاقيات الاجتماعية، وهى مصدر للتوازن والسلم الاجتماعي.
ويكشف “أمين” عن حجم الطبقة الوسطى في المجتمع المصري في عام 1952، حيث كانت نسبة الطبقات الثلاثة؛ تتشكل على نحو مختل للغاية وهو (1/5 : 4″17 ) ويظهر رقم “4 ” للطبقة الوسطى بينما تكشف الدراسة عن نمو كبير لحجم الطبقة الوسطى بعد 40 عاما من ثورة يوليو وبالتحديد عام 1991 بلغت نسبتها في المجتمع حوالى 75%. وقد تعرضت تلك الطبقة للتآكل خلال العقود التالية لتصل إلى معدل مقلق لاستقرار المجتمع.
ويعتبر علماء الاجتماع أنَّ تماسك الطبقة الوسطى وصمودها أمام المتغيرات الاقتصادية العاصفة التي تهددها وتدفع بشرائح منها للسقوط في هوة الطبقة الدنيا يمثل تهديدا خطيرا لاستقرار المجتمع.
خاصَّة وأنَّ عددا كبيرا من الباحثين في علم الاجتماع وخاصَّة ظواهر العنف المجتمعي يرون أنَّ غالبية تلك الظواهر تنشأ في الطبقات الدنيا والطبقات العليا؛ مع اختلاف شكل العنف في كل منهما وتباين الفئات المستهدفة من العنف، وفي كل الحالات فإنَّ فئتي الأطفال والنساء هما الأكثر تعرضا للعنف في المجتمع.
الطبقة الوسطى
لقد صارت المتغيرات أسرع من قدرتنا على التوقع؛ فلا يتمكن علماء الاجتماع من تناول ظاهرة حتى تحلق في الأفق ظواهر متعاقبة.. هو عالم يتغير سريعا ويحتاج إلى تفاعل متسارع مع متغيراته اللحظية، وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وتحوُّل العالم إلى غرفة صغيرة –بعد أن كان قرية صغيرة– في جَعْلِ العنف سلوكا عالميا، وفقدت مشاهد العنف رهبتها حتى لدى الأطفال، وقللت وسائل التواصل الحديثة من قدرة الأسرة على السيطرة على سلوكيات أفرادها كما كان في المجتمع التقليدي.
نحن إذن أمام عوامل محفزة لنمو ظواهر العنف المجتمعي بالإضافة لما يسمى بظاهرة الجهر بالسوء –على حد وصف الباحث الراحل إبراهيم العشري– ومن أهم تلك العوامل تراجع الطبقة الوسطى بشكل أقرب لانهيارها وتآكلها بشكل كامل بالإضافة إلى تحول العالم إلى “غرفة صغيرة ” وغياب سيطرة المؤسسات “الأبوية” بكل مكوناتها على أبنائها وأفراد أسرتها سواء في المنزل أو في المدرسة أو حتى دور العبادة.
ومع كل حادث تتصاعد الأصوات المنددة بالفن وتأثيره السلبى على الأجيال الجديدة خاصة تلك الفنون التي يظهر فيها البطل في شخصية المجرم أو المحرض على الجريمة وزيادة مشاهد العنف بكل دائم.
كل هذا يطرح السؤال: من الذى يصنع الآخر؟ الواقع أم الفن؟ وهل الفن يقدِّم ما هو أكثر قسوة من الواقع أم أن قسوة الواقع تتجاوز حدود ما يقدمه الفن؟.