وقد تناولنا بعض ما جاء في دراسة الدكتور جلال أمين التي حملت عنوان “ماذا حدث للمصرين” التي تعرَّض خلالها للتغييرات التي طرأت على المجتمع خلال نصف قرن من عام 1945 حتى عام 1995.
لقد أصبحنا في أشد الحاجة إلى دراسة حديثة وشاملة تستكمل ما بدأه “أمين” من تناول للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها مصر خلال العقود الأخيرة خاصَّة في الفترة من 2010، حتى 2020، هذا العِقد الذي شهد أكبر معدل لانتشار الجريمة في تاريخ مصر المعاصر.
حيث كشف تصنيف “ناميبو” لقياس معدلات الجريمة في دول العالم عن احتلال مصر المركز الثالث عربيا والـ (24) عالميا في جرائم القتل.
وأشار التصنيف الدولي إلى أنَّ معظم تلك الجرائم كانت تندرج تحت مُسمَّى “جرائم الشرف” وجرائم الفقر، إضافة إلى القتل الناتج عن العنف الأُسَرِى.
كما أكدَّت دراسة للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، أنَّ نسبة 92% من هذه الجرائم تُرتكب بدافع العرض والشرف، فضلا عن العوامل الاقتصادية التي أصبحت من بين أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي.
وكشفت دراسة صادرة عن جامعة عين شمس، أنَّ جرائم القتل العائلي وحدها باتت تُشكِّل نسبة تصل إلى 30 % من إجمالي جرائم القتل.
وقد بلغت جرائم القتل خلال شهر يوليو الماضي وحده أكثر من (50) حالة، أغلبها كان بدافع السرقة أو لخلافات أسرية على توفير احتياجات المعيشة، أو خلافات على تقسيم أرباح التجارة، وجاءت جرائم الشرف في نهاية قائمة تلك الدوافع؛ ما يشير إلى أنَّ الدوافع الاقتصادية تتصدر الجريمة المعاصرة بشكل لافت.
كل هذا العنف؟
توضح تلك المؤشرات والدراسات أنَّ المجتمع المصري صار أكثر قسوة وحِدَّة وصار يلجأ عددٌ كبير من أفراده إلى الدم؛ لتصفيه خلافاتهم وأصبح القتل أمرا واردا في حساباتهم؛ نحن هنا لا نتحدث عن المجرمين الذين تحولوا لأسباب كثيرة إلى ممارسة الجريمة بشكل عادى؛ لكننا نتحدث عن المواطن العادي الذى قد يتحول في لحظة إلى قاتل، فقد كان ذلك النموذج قابلا للتحقق في الواقع، لكنَّه كان قليلا جدا؛ بل نادرا.. وعندما كان يحدث كان المجتمع يتوقف أمامه بالدراسة والتحليل.
لكن الأمر الآن صار مختلفا؛ فقد صار من المعتاد أن نتابع العنف في منازلنا، والدم يسيل في طرقاتنا والجريمة ترتكب في شوارعنا.. هكذا تغير المجتمع، وتعددت الدوافع والأسباب والطرق المؤدية نحو هذا النفق الذى صرنا فيه دون أن ندرى محاصرين في ظل فجوة ثقافية وقيمية غير مسبوقة بين أجيال المجتمع الواحد.
الفن.. الجاني البريء
مع كل جريمة ترتكب، وكل نقطة دم تسيل، وكل عرض يهتك، وكل حق يضيع تتوجه أصابع الاتهام نحو عدد من المسببات والتهم الجاهزة مسبقا.
يصبح الفن متهما بالترويج للعنف، وقتل القدوة في مخيلة شبابنا بما يقدم من أعمال مسفه ومبتذله وما يروَّج له من نماذج قبيحة وسلبية.
يقف الفن متهما لأنَّه في بعض الأحيان يكشف عن قبح الواقع أو كما يقال “يرسِّخ” للقبح بدلا من تجاهله أو نقده أو تقديم حلول لتجميله.
ليظلَّ السؤال الحائر والباحث عن إجابة.. أيهما يصنع الآخر.. الفن يصنع الواقع أم أنَّ الواقع يصنع ما يقدمه الفن؟
ويطرح المجتمع سؤال أكثر جدلا.. أليس الواقع أكثر قسوة مما يقدمه الفن؟.
يرى بعض من يحمِّل الفن مسئولية ذلك التردي الأخلاقي والقيَمي أنَّ تسييد نموذج “البطل البلطجي” في كثير من الأعمال؛ خاصَّة تلك التي تحقق رواجاً وانتشارا؛ يزيد من حجم الأزمة المجتمعية، وأنَّ المبالغة في تقديم العنف والبلطجة في شوارعنا عبر الدراما يجعل منها أمر معتادا لا يثير فزع الشباب ومن ثم يتحول إلى صورة نمطية.
الانفلات الأمني وما فعله بنا
وقد يحيلنا هذا السؤال إلى دراسة مهمة قدَّمها عدد من الباحثين تحت إشراف الدكتور “حسام مليجى” جاءت ضمن أوراق المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بعنوان “تطور الظاهرة الإجرامية في مصر من منظور ضحايا الجريمة في الفترة من 2011: 2018.
ويتناول هذا البحث “مرحلة تاريخية في حياة الوطن، بكل ما حملته من انتشار لجرائم بالغة الجسامة أعقبت إطلاق سراح عدة آلاف من المسجونين الجنائيين من مؤسساتهم العقابية، بهدف إحداث ارتباك كامل في حياة المصريين بعد أن فقدوا الإحساس بالأمان في حياتهم اليومية.
فترة تلاحمت فيها ظواهر إجرامية واقعية، واعتداءات مست الكافة من المواطنين العاديين، ورجال الأمن ومعداتهم ومراكز عملهم ما بين الحرق والنهب، وصاحبتها مشاعر الإحباط، والهلع والإحساس العارم بالوقوع كضحايا حاليين للجريمة”. وأشارت الدراسة إلى أنَّ تلك المرحلة قد شهدت نموا غير مسبوق في معدلات الجريمة بالإضافة إلى تغير واضح في طبيعتها وأساليبها وصارت الجريمة أكثر وحشية وقسوة مما كانت عليه.
ومن ثم تتضح أهمية تلك الدراسة التي تؤكد أنَّ ثمة تغييرا جذريا قد طرأ على سلوك المصريين بعد تلك الأحداث الجسيمة التي تعرضت لها البلاد، والتي خلقت جيلا أكثر تعايشا مع العنف، فالطفل الذى كان عمره حينذاك بين السابعة والعاشرة صار شابا الآن يتراوح عمره بين السابعة عشرة والعشرين. والملاحظ أنَّ الفئة العمرية من الخامسة عشرة حتى الخامسة والعشرين؛ هم الأكثر تعرضا للعنف أو ممارسة له خلال السنوات الأخيرة.
الفقر والمخدرات
وتشير أصابع الاتهام أيضا إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تزايدت صعوبة في السنوات الأخيرة، وتسببت في مزيد من الانهيار للطبقة الوسطى؛ بل أنَّها أثَّرت بشكل كبير على الشرائح الدنيا من الطبقة الأرستقراطية، بينما ساهمت في مزيد من الثراء لغالبية الطبقة العليا، ومزيد من الإفقار للطبقات الفقيرة والأشد فقرا.. وجاء بالتوازي مع ذلك تنامى حالة الاستقواء والاستفزاز الطبقي بشكل غير مسبوق لم تعرف له مصر مثيلا حتى في ذروة الانفتاح الاقتصادي، وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وتحوّل العالم إلى غرفة صغيرة في نقل سلوك الطبقات شديدة الثراء، وعدم مراعاة وسائل الإعلام –بما فيها الرسمية– لمقتضيات السلم الاجتماعي والبعد عن إثارة غضب الفقراء بما يقدمه الإعلام من مواد برامجية أو إعلانية أو ترويجيه لأنشطة وممتلكات هؤلاء الأثرياء.
هذا ما تسبب في زيادة معدلات “جرائم الفقر” . تلك الجرائم التي تحركها عوامل اقتصادية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
وكلما ارتفعت معدلات الفقر كلما أصبحت معدلات الجريمة مرشحه للتزايد ووفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء؛ فإنَّ معدلات الفقر في مصر قد بلغت نسبته 29.7% عن عام 2020 بما يعنى أن أكثر من 30 مليون مواطن تقريبا يعانون الفقر –وفقا للتقارير الرسمية– وهذا ما يمثل بيئة مناسبة للجريمة بشكل كبير.
كما أنَّ أصابع الاتهام تشير أيضا إلى وجود علاقة وثيقة بين المخدرات وبين الجريمة وخاصة جرائم السرقة والقتل وتشير تقارير عن “صندق علاج ومكافحة الإدمان ” أنَّ حوالى 85% من الجرائم غير المبررة مثل القتل دون ذنب أو إشعال النيران وكذلك حوالى 58 % من جرائم هتك العرض و55% من جرائم السرقة تتم كلها تحت تأثير المخدرات.
تعددت إذن أصابع الاتهام ما بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتأثير المخدرات وأيضا تأثير بعض أنواع الفنون سواء كانت عربية أو أجنبية خاصة تلك التي تحقق نسب مشاهدة عالية بين الأطفال والمراهقين. وأشارت أصابع الاتهام أيضا إلى تغييرات كبيرة شهدها المجتمع المصري خلال العقد الأخير جعلت الجريمة أشد قسوة وأكثر دموية.