بقلم: حسن حافظ، نقلًا عن صفحته على الفيسبوك
في صمت تجري فصول جريمة كاملة في مدينة الموتى، إذ تسعى الحكومة لإطلاق البلدوزر لدهس تاريخ المصريين على مدار ألف سنة أو يزيد بحجة انشاء طرق أو كباري، في اعتداء متواصل الفصول من قبل الحكومات المتتالية على حرمة المقابر التي تضم بين جنباتها الكثير من تفاصيل التاريخ الملقى على الأرض.
لا أحد يعلم حجم الانتهاكات الحكومية التي ستتم في ظل تكتم على خطط إقامة طرق وكباري تقطع مناطق القرافة إلى شرائح بائسة تفقد علاقتها بنسيجها العمراني، فالمقابر سواء في القرافة الكبرى أو الصغرى أو السيدة نفيسة أو باب الوزير أو صحراء المماليك أو باب النصر، تضم الكثير من التفاصيل التاريخية التي لا تقدر بثمن، خصوصا إذا بدأنا في حفريات لنكتشف ما تحت طبقة السطح من مقابر أعيد استخدامها وسنجد باطن الأرض أغنى كثيرا من ظاهره في الكثير من الأحيان.
تمتلك القرافات الممتدة حول القاهرة القديمة طبقات تاريخية أقدم من مدينة القاهرة ذاتها، فالقرافة الكبرى تعود إلى عصر الفتح العربي الإسلامي وتتزامن مع تأسيس الفسطاط، أي قبل تأسيس القاهرة ذاتها بما يزيد عن ثلاثة قرون، وتشكل كل منطقة مقابر طبقة تعبر عن ازدهار المدينة وتطور تاريخها العمراني، بداية من القرافة الكبرى مدفن الصحابة، ثم مع تطور الفسطاط شمالا كان ظهور القرافة الصغرى التي دشنت مكانتها باستقبال جثمان الشافعي، ثم تحولت المنطقة الواقعة شمالها إلى منطقة دفن نموذجية بعد دفن آل البيت خصوصا السيدة نفيسة. بينما عبرت مقابر باب النصر عن رغبة أهالي الأحياء الشمالية في إيجاد مدافن قريبة منهم، فكانت البداية بقبة بدر الجمالي ثم تكالب الناس على دفن موتاهم في هذه المنطقة. بينما عبرت المساحة الشرقية خارج باب البرقية عن رغبة السلاطين والأمراء في مساحة خلاء يبنون فيها منشآت تخلد ذكراهم.
بطبيعة الحال أعيد استخدام مساحات من مدن الموتى مرارا وتكرارا، فزاد الرصيد الحضاري، فلا تخلو مقبرة من تاريخ متراكم يحكي قصة ألف عام من تقلبات العصور والبشر، فمن مقابر الخلفاء والسلاطين مرورا بالأمراء والحرافيش إلى الأسرة العلوية والباشوات والبكوات وليس انتهاء بآل البيت والمتصوفين، نجد التاريخ الحي على مستوى البشر والحجر، فشواهد القبور تنطق بالكثير من التفاصيل التي لا نجدها في بطون الكتب، بل قد نجد تصحيح معلومة في كتاب عبر استنطاق شاهد قبر، ناهيك عن الطرز المعمارية المختلفة التي تحتويها مقابر القاهرة، ما يجعل وضعها على مسارات السياحة أمرا سهلا لو توفرت العقلية المناسبة التي تقدر قيمة ما تملكه القاهرة من تراث غير مسبوق.
نحن أمام حكومة بلا عقل لا تفهم حجم الجرم الذي ترتكبه في مدينة مثل القاهرة وتراثها الغني والهش في الآن ذاته، فالتعامل مع القاهرة بمنطق المطور العقاري الذي لا يفهم إلا نماذج مدن بلا روح مثل دبي وغيرها من مدن الخليج الاستهلاكية، سيؤدي الى طمس تاريخ لا يمكن استعادته بمجموعة من ناطحات السحاب بلا روح ولا هوية. لدينا الفرصة الآن قبل أن ينطلق البلدوزر لدهس تاريخ لن يعوض إذا فقد. على الجالسين في المكاتب بلا معرفة بتاريخ هذا البلد وقيمته الحضارية، أن يراجعوا أنفسهم وأن يحترموا تراث المدينة، وأن يتوقفوا عن العبث بمكوناتها التاريخية، فبناء ألف مدينة حديثة لا يشفع أبدا لتدمير مدينة مثل القاهرة؛ من سوء حظها أن من يعيش فيها لا يعرف قيمتها.