عرض وترجمة: أحمد بركات
في تركيا يبدو أنَّ الحاضر يتكبد فاتورة الماضي، بعد أن عايشت البلاد أشهر قليلة العدد، ثقيلة الوطأة واجهت خلالها وحشة العزلة الدولية، وواصل الاقتصاد تدهوره المروِّع، وكثرت الأسئلة حول صحة الرئيس “رجب طيب أردوغان” وتراجعت بقوة أرقام استطلاعات الرأي الخاصَّة بالرئيس وحزب العدالة والتنمية الحاكم، ما مَثَّل على الأقل لمجموعة من المراقبين والمعارضين الأتراك “المسمار” الأول في نعش النظام الحالي.
ويصر حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير وغيرهما على مواصلة الضغط باتجاه إجراء انتخابات مبكرة، ووضع خطط للتخلص من الرئاسة التنفيذية لـ “أردوغان” والعودة بتركيا إلى نظامها البرلماني الرئاسي السابق.
ربما يكون هذا سابقا لأوانه، فالقانون الحديدي لحقبة حزب العدالة والتنمية؛ لن يسمح بسهولة بتمرير هذه الخطط وإقصاء “أردوغان” عن مقعد السلطة. رغم ذلك يبدو وضع الرئيس وحزبه سوداويا.
ومن بين جميع المشكلات والتعقيدات التي تجابهها تركيا، يبرز الموقف الاقتصادي المتدهور كأحد أخطر الأزمات. فنتيجة لسوء الإدارة، خسرت الليرة التركية 75% من قيمتها مقابل الدولار في العقد الماضي، و45% في العام الماضي، و15% فقط يوم الثلاثاء الماضي (23 نوفمبر). صحيح أن تركيا تمكنت من تحدي الكثير من الأزمات والوباء العالمي، وحققت نموا اقتصاديا في عام 2020، بمعدل 1.8%، لكن الصورة الاقتصادية الإجمالية بالنسبة للأتراك بوجه عام لا تزال قاتمة، حيث يبلغ معدل التضخم 20%، والبطالة 14%، إلى جانب زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وكرد فعل على انهيار الليرة، أغلقت العديد من كبريات البنوك التركية عملياتها عبر الإنترنت، وخرج الناس إلى الشوارع في كل من “أنقرة” و”اسطنبول” ولا تزال الأيام القادمة تحمل نُذُر مزيدٍ من التظاهرات والاحتجاجات.
وفي محاولة لرفع أسهمه السياسية المتراجعة، لجأ الرئيس التركي مؤخرا إلى ورقة السياسة الخارجية في محاولة لتحسين علاقات تركيا مع دول الجوار، فيما يمثل نكوصا عن سياساته في عام 2020، عندما شرعت الحكومة التركية في انتهاج سياسة خارجية عدوانية، خاصَّة في منطقة شرق المتوسط لتحقيق أهداف سياسية داخلية. وتمكنت “أنقرة” من تحقيق بعض النجاحات فيما يتعلق بالخروج من عزلتها. وتحسنت نبرة علاقاتها الثنائية مع كل من حكومتي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على وجه التحديد.
كما سعى الأتراك لإقامة علاقات أفضل مع “إسرائيل” برغم عدم تجاوب الأخيرة، إذ لا تتوافر لها أسباب وجيهة للثقة في سياسات “أردوغان” خاصة وأنَّ الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية لا يعيان أنَّ الأيام التي بذلت فيها إسرائيل جهودا حثيثة لإقامة علاقات جيدة مع تركيا، برغم محاولات أنقرة إقصاء الإسرائيليين عن الاجتماعات الدولية المهمة، وعلاقات تركيا الوثيقة مع حركة “حماس” ولهجة العداء التي يرددها أردوغان في العديد من المناسبات ضد إسرائيل والإسرائيليين–قد انقضت، ولم تعد سوى أمر من الماضي.
وهناك أيضا مصر.. فعلى مدى الربيع والصيف كانت الصحف التركية ومؤيدو الحكومة يشعران بالانتصار بشأن التطبيع القادم في العلاقات بين تركيا ومصر. كان الافتراض السائد في “أنقرة” هو أنَّ المصريين سيتمسكون بهذه الفرصة، وأنَّ تحسين العلاقات مع القاهرة سيضع ضغوطا كبيرة على عاتق حكومات اليونان وقبرص وإسرائيل. ومع ذلك لم يبد المصريون الكثير من الحرص على تحسين العلاقات على نحو ما توقع المسئولون الأتراك، الذين أخطأوا في قراءة الأهمية التي يوليها الرئيس المصري لعلاقات بلاده باليونان وقبرص اللتين تساهمان في مساندة قضية مصر داخل مجالس الاتحاد الأوروبي.
وبالحديث عن أوربا، فإنَّه يمكن القول إنَّه لولا ألمانيا لفرض الأوربيون الكثير من حزم العقوبات على تركيا بسب تجاوزاتها المختلفة، بما في ذلك العمليات العسكرية التركية في سوريا، والتنقيب عن الغاز بالقرب من قبرص، والتهديد بتوجيه موجات المهاجرين صوب اليونان.
وفيما يتعلق بالولايات المتحدة، فقد عوَّلت الحكومة التركية كثيرا على الاجتماع الثنائي بين الرئيس التركي ونظيره الأميركي، جو بايدن في قمة مجموعة العشرين في أكتوبر، لكن لا يبدو أنَّ هناك تغيرا كبيرا في العلاقات بين البلدين، حيث لم يتم حسم بعض الأزمات العالقة، مثل شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية “إس ـ 400” ودعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب في سوريا، ورفض ثلاث إدارات أميركية تسليم عالم الدين التركي “فتح الله غولن” لـ”أنقرة”. وفي ظل هذه الأوضاع؛ طلب الأتراك (40) طائرة جديدة من طراز “إف ـ 16” ومعدات متطورة لـ (80) طائرة أخرى، وهو ما يعارضه “الكونغرس” وتتمنع عنه إدارة “بايدن”.
وفي خضم الأزمات التي تواجهها أنقرة على صعيد السياسة الخارجية والاقتصاد، تبرز العديد من التساؤلات حول الحالة الصحية للرئيس التركي. ولكن بعيدا عن ذلك، تكمن ردود الفعل العنيفة على أي تساؤلات تثار بشأن مستوى الرفاهية الذي يعيش فيه الرئيس، وهو ما يعكس هالة التقديس الشخصية التي تحيط بـ”أردوغان”.
أما الأهم فيما يتعلق بما تتكشف عنه هذه الحالة فهو أنَّ هذه الاستجابات المفرطة تشير إلى الفجوة المتفاقمة بين ما تقوله الحكومة التركية، ليس فقط عن صحة الرئيس، وإنَّما أيضا عن الديمقراطية والازدهار من جانب، والواقع من جانب آخر، حيث يحاول المتحدثون الرسميون والأبواق الإعلامية ومهيجو وسائل التواصل الاجتماعي ملء هذه الفجوة بالهجوم والتصيد والقمع.
ويمثل العدد الهائل للأشخاص المحتجزين في تركيا على خلفية انتقاداتهم للحكومة مؤشرا واضحا على أنَّ “أردوغان” وحزب العدالة والتنمية لا يستطيعون إقناع الكثيرين بحكمة أجندتهم. ومن ثم فإنَّه إذا كانت تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية قد أصبحت في طليعة الانتكاسات الديمقراطية، ومهدت الطريق أمام دول أخرى مثل المجر وبولندا وحتى الولايات المتحدة ذاتها، فربما تستطيع أن تقبع الآن في مقدمة تصحيح المسار الديمقراطي.
قد يكون من الصعب التنبؤ بما يحمله قادم الأيام، لكنَّه من الصعب أيضا، وبالقدر ذاته، تخيل أن المشكلات التي تواجهها الدولة في تركيا، وبخاصة المشكلات الاقتصادية، في حال استمرارها، لن تؤثر على الآفاق الانتخابية لحزب العدالة والتنمية. في الوقت نفسه، من الصعب أيضا تخيل أن “أردوغان” لديه أي استعداد لخسارة الانتخابات على نحو عادل وصريح. ومن ثم فليس أمام المعارضة التركية سوى التشبث بأهداب الأمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا