بينما كان الترام يتهادى في طريقه الذي يمر بالمدرسة السنية، كانت الفتاة نبوية موسى البالغة من العمر واحدا وعشرين عاما، تقبع في آخر عربة، وقد اصطخبت رأسها بتلك التعليقات التي يطلقها الطلاب الذين ازدحمت بهم عربات الترام، يتحدثون عنها بسخرية لاذعة، وعما يجب أن يُفعل بها في حين رسوبها، ليس ذلك فحسب، بل وينسجون الحكايات عن تبرجها ومجونها وحبها للظهور، وافتعالها تلك الضجة للفت الأنظار، ثم يسبح ببعضهم الخيال؛ فيتحدثون عن أنوثتها الطاغية وجمالها الآخاذ.. بالطبع لم يدر بخلد أحدهم أن تلك المعنية بحديث الإفك هذا هي تلك الفتاة المحتشمة التي تجلس في آخر عربة إلى جوار أخيها الذي كان يرمقها بين الحين والآخر بنظراته المبتسمة.
كانت الدنيا في بر مصر قد قامت ولم تقعد حين تجرأت تلك الفتاة على ملء استمارة التقدم لامتحان شهادة الثقافة العامة (البكالوريا)، وظن رجال وزارة المعارف، أن في الأمر خطأ، فكيف لفتاة لم تتعلم في مدرسة ثانوية، أن تتقدم لمثل هذا الامتحان؛ لذلك أرسلت الوزارة إليها في مقر عملها بمدرسة عباس الأميرية السيد “دانلوب” الذي سبق أن درَّسها ومعه استمارتها، وكانت نصيحته لها أن تعدل عن هذا الأمر؛ لأنها إذا أقدمت عليه ولم تصادف توفيقا؛ فإن منزلتها ستنحط في نظره، فتجيبه في صلابة: إني أقف اليوم على الأرض، وليس بوسعك أن تحفر تحت قدمي، فمكانتي في التوظف لا تحتمل النقصان.
كانت نبوية موسى قد تألمت بشدة حين ذهبت لتتقاضى أول راتب لها فإذا به يساوي نصف راتب زملائها المعلمين الذكور، برغم أن الجميع يؤدي نفس العمل داخل المدرسة، فلما استفسرت عن ذلك عبر مكاتبات رسمية، جاءها الرد: لأنك لا تحملين(البكالوريا)!
كان التقدم لنيل تلك الشهادة قاصرا على الطلاب الذكور فقط، ولم تفكر فتاة مصرية قبل نبوية موسى في أن تتقدم لنيل تلك الشهادة، لذلك كان الأمر صادما للمجتمع بأسره، كيف لفتاة مثلها أن تزاحم الرجال فيما يحاولون نيله من شهادات؟ كيف لها أن تضع رأسها إلى جوار تلك الهامات الرفيعة؟ وكيف لها أن تصر على المُضي قدما في طريقها برغم تلك الصعوبات والعراقيل التي وضعت أمامها عمدا؟
كان قد تقرر أن يعقد امتحانها في المدرسة السنية التي تخرجت فيها من قبل، بينما يمتحن جميع الطلاب بأحد مباني وزارة المعارف الكائنة آنذاك بمنطقة درب الجماميز، كانت ناظرة المدرسة السنية السيدة “جونسون” ما زالت تحتفظ لنبوية بذكريات سيئة إذ رأت فيها –دائما- مثالا للفتاة التي لا تقبل بالخضوع، ولا تعرف الضعف ولا تتحلى بما يجب أن تكون عليه الفتيات المهذبات من مظاهر الهوان والاستكانة.. كانت المواقف التي واجهت فيها نبوية صلف تلك العجوز الإنجليزية وتجبرها، تتزاحم في ذاكرتها وتزيدها توترا، مع اهتزاز العربات كلما اندفعت، أو استعدت للتوقف.
كان يساورها إحساس هو مزيج من الخوف والرهبة والتحدي، ينهضها ويقويها ذلك الشعور بالاكتمال الإنساني الذي يأبى كل أشكال التمييز ضد المرأة التي وعتها منذ طفولتها حيث نشأت يتيمة بعد أن توفي والدها في السودان، وكان يعمل ضابطا بالجيش المصري، كانت الوفاة قبل أن تولد بشهرين وربما منحها هذا تلك الروح الطليقة التي رفضت كل صور الهيمنة الذكورية، ودفعت بصاحبتها للتعليم والعمل من أجل أن يكون لها مصدر للدخل، حتى لا تضطر لأن تعيش في كنف رجل ينفق عليها، ويستبيح مقابل ذلك منها ما لا ترتضي!.
كان الأمر قد بلغ بالطلاب مبلغا غريبا، إذ كانوا ينتظرون قدومها عند الباب الرئيس للمدرسة، لكنها كانت تتخذ من التدابير ما يحول دون أن يروها أو يتعرفوا عليها، فكانت تهبط من الترام في المحطة التي تسبق المدرسة، ثم تسير رويدا نحو الباب الخلفي لتدخل منه، إلى قاعة الامتحان الواسعة، التي كانت قد أعدت لتتسع لكل طالبات المدرسة السنية، وها هي تجلس فيها بمفردها ليس معها سوى المراقب الفرنسي اللطيف- كان يصر على أن يقرأ على مسامعها تعليمات عدم الالتفات أو الإشارة- والسيدتين الإنجليزيتين اللتين كانتا ترسلان إليها نظرات تشتعل بالغضب والمقت دون سبب واضح، سيما السيدة “جونسون” التي آلت على نفسها تحطيم ما بقى لنبوية من أعصاب بعد رحلتها الجحيمية من منزلها إلى حيث المدرسة.
ذات مرة بلغ تعنت “جونسون” معها درجة غريبة إذ رفضت استبدال ريشة الكتابة المكسورة في امتحان مادة الهندسة، وكان يحظر على الطلاب إحضار أدواتهم، وكانت الأدوات توزع عليهم، ولم ينقذ نبوية من هذا المأزق سوى المراقب الفرنسي بعد أن دخل فيما يشبه العراك مع السيدة “جونسون” قبل أن يحسم الأمر لصالحه.
تمر أيام الامتحان ثقيلة تحمل في طياتها آثار جنايات ذلك المجتمع على نسائه وفتياته، حتى إنه وصل في لحظة ما إلى اعتبار نجاح نبوية موسى في اجتياز ذلك الامتحان سقوطا له وانتقاصا من قدره، بل خيبة كبرى يمنى بها، وليس من مبرر منطقي يستطيع ذلك المجتمع التمييزي العنصري تقديمه، ليس إلا ترهات تتحدث عن فتيات آخر الزمان المجترئات على محافل العلم ونيل الشهادات.
ويأتي يوم إعلان النتيجة وتنجح نبوية موسى بتفوق، بل وتحقق المركز الثالث والأربعين من بين مئتي طالب كانوا هم جل الناجحين في القطر المصري.
مع النجاح الباهر قد يتحول الخصوم إلى أنصار، فبين طرفة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، الكل يفخر بالنجيبة التي بزت الرجال، الصحف جميعها تبرز الخبر بعناوين كبيرة، وتسبق اسم نبوية بلقب “الست” حتى لا يختلط الأمر على أحد، كما أرسلت الصحف تهنئتها إلى ناظرة مدرسة عباس الأميرية التي كانت تعمل بها نبوية، وكذلك إلى السيدة “جونسون” ناظرة المدرسة السنية، حتى إن العجوز قد نسيت فجأة حقدها البالغ على نبوية وعندما رأتها أسرعت إليها واحتضنتها، و قبلتها عدة قبلات، ثم شكرتها لأنها رفعت رأسها بما حققته من نجاح.
وكانت نبوية موسى قد دأبت على إرسال المقالات التي تدعو لتعليم المرأة وإصلاح أحوالها في المجتمع، إلى الصحف التي كانت بدورها إذا نشرت شيئا من تلك المقالات نشرته في الزوايا الداخلية، أما بعد هذا الحدث الجلل، فإن تلك الصحف كانت تضع تلك المقالات في الصفحات الأولى وتحت عناوين كبيرة، فسبحان مغير الأحوال!
بعد نجاح نبوية موسى في نيل شهادة البكالوريا بتفوق كان على المصريات أن ينتظرن لإحدى وعشرين سنة، حتى تستطيع مصرية أخرى أن تحصل على تلك الشهادة.
تنقلت بعد ذلك نبوية موسى بين العديد من المدارس تنشر الوعى، وتحرض على كسر تلك القيود البالية، التي تتعامل مع المرأة وكأنها متاع متملك للرجل، وكثيرا ما كانت تتطرق في كتاباتها ومحاضراتها ودروسها إلى قضية التحرر الوطني، وهو ما جعل المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف “باترسون” يسرع بمنحها إجازة مفتوحة مدفوعة الأجر، بعد أن اتهمت بالعمل بالسياسة، وشن الهجوم تلو الآخر على القائمين على حكم البلاد.
لكن هل من المعقول أن ترضخ نبوية، حتى بعد أن انتهى أمرها إلى الفصل من وزارة المعارف، هل ترضخ وهي صاحبة ذلك العزم الذي لا يلين؟.. لجأت نبوية إلى القضاء وقامت برفع دعوى ضد الوزارة، وكان الحكم لصالحها، بإلغاء قرار الفصل وعودتها إلى العمل، بل وتعويضها بمبلغ خمسة آلاف وخمسمائة جنيه عن مدة الفصل، وما لحقها من أضرار مادية وأدبية جراء هذا القرار الظالم.
حققت نبوية موسى نجاحا لا نظير له في إدارة المدارس التي تولت نظارتها، سواء أكانت مدارس خاصة أم تابعة للوزارة، لكنها لم تكتف بما حققته من نجاح في هذا المجال، بل قامت بإنشاء مطبعة ومجلة أسبوعية نسائية باسم الفتاة، صدر العدد الأول مطلع عام 1937.
كما تركت العديد من المؤلفات التي تعتبر إسهاما حقيقيا في الجانب التربوي، وقضية المرأة، كما شاركت في الحركة النسائية بجهد لا ينكر، وكانت ضمن الوفد النسائي المصري المسافر إلي مؤتمر المرأة العالمي المنعقد في روما عام 1923.
توفيت نبوية موسى عام 1951، بعد أن اجتازت بإرادة من فولاذ ذلك الجدار الصلب الذي أقامه المجتمع في وجهها هي وبنات جنسها، محطمة تلك الأباطيل المتعلقة بوصم المرأة بالنقص وعدم القدرة على التعليم والعمل، وأثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن المستحيل أبدا لم يكن امرأة.