تظل ثورة 19 عبقرية في تشكيل وجدان مصر, فهي التي منحت مصر نشيدها القومي “بلادي بلادي” بالتوزيع واللحن المميز للشيخ “سيد درويش” هذا الفتي الذي نقل مسرح الريحاني( للعركة) داخل وهج الوطنية المصرية بمحتوي متفرد, في زمن الليبرالية العابر, ولعب الشيخ الأزهري التنويري “يونس القاضي” دورا هاما في حياة “سيد درويش” الذي تأثر بثلاثة مشايخ هم” الشيخ سي “عبده الحامولي” والشيخ “سلامة حجازي”, ثم الشيخ “يونس القاضي” لكن تأثير “درويش” علي “القاضي” كان كبير جدا، إذ استخرج “درويش” عبقرية “القاضي” كما قال في حديث للأخبار عام 1954، “الشيخ “سيد” كان عبقري زمانه، ولو عاش لكنت معه، وبمسرح الريحاني صنعنا مجدا لمائة عام, لكن بموت “سيد درويش” مات مسرح الريحاني سياسيا وتلك حقيقية”.
“سيد درويش” شخص متفرد مدهش مجنون, و”الريحاني” عبقري غاية في الإنسانية، وكان ثالثهم “يونس” القاضي الذي يبحث عن دافع، مغامر بقلب جسور يحمل كلماته للمجد، فكان عليه أن يحول الكلمات الخطابية الرنانة؛ لغناء ومسرح جديد.
بعد وفاة الزعيم “مصطفي كامل” و”سيد درويش” يبكي لفراق خليله “بيرم التونسي” المطرود من مصر، وقلب “سيد” يفتقد كلمات “بيرم” الطازجة اليومية التي تتجلي في السهر الليلي في شارع عماد الدين، و”درويش” يدرك أنَّه يحتاج أكثر من صوت ثوري شعري مسرحي يعبر به عن موسيقاه, فكان الحل في “يونس القاضي” المؤلف والريحاني المنتج المغامر المغضوب عليه من رموز الوفد وثوار 19، يتهمونه بمحاباة الأتراك, إذن ليس هناك أفضل من جناح “سيد درويش” الموسيقي هذا الفتي معشوق الثوار, هكذا تجلت عبقرية الثلاثي (الريحاني– يونس القاضي– سيد درويش) تكونت رابطة المسرح الجديد بوضوح شديد.
يصف “يونس القاضي” لقائه بالشيخ “سيد درويش” عام 1917، بالحدث الأهم في حياته ، فإذا كان “سيد درويش” هو أول فنان ربط ما بين الفن والمسرح والسياسة، فإنَّ “القاضي” هو من كتب له الكلمات والمسرحيات للريحاني، واستمرت تلك الصداقة طوال فترة حياتهما، التي أنتجت كلمات وأغان من أعظم ما عرف الفن، على رأسها النشيد الوطني الذي ظهر في ليلة من أجمل ليالي سبتمبر1918، حيث كان “الريحاني” يجلس في المسرح مع “سيد درويش” و”يونس القاضي” ثم هجم بلطجية تابعين للإنجليز علي المسرح، فخرج الثلاثة وراء البلطجية, فإذا بمظاهرة كبري ضد المحتل؛ تمر من شارع عماد الدين ناحية قهوة “متاتيا” وما إن لمح الثوار الشيخ “سيد درويش” حتي رفعوه علي أعناقهم؛ فصرخ “بلادي” ومعه “الريحاني” و”يونس القاضي”. والغريب أنَّ الثوار عرفوا الريحاني بثوريته ووطنيته للمرة الأولي, وتكفلوا بعد ذلك بحماية المسرح كل ليلة، وشكلوا مجموعة منهم تراقب هجوم الإنجليز الذين يطاردون الشيخ “يونس القاضي” الذي دفع له “الريحاني” كفالة الخروج من السجن أكثر من خمس مرات.
حكى “الريحاني” وهو يبكي ويتذكر وفاة “سيد درويش” في منتصف سبتمبر 1923م،أن البوليس هجم علي المسرح ذات يوم، فهرب “درويش” و”القاضي” وبالطبع كان “الريحاني” يعرف أين يختبئان، وبعد العرض ذهب إليهما ومعه كباب وكفته، وقال: “يعني يا ربي لما تكرمني بمبدعين يقوم يطلعوا جوز مشايخ رد سجون” ثم يدخل الثلاثة في نوبة من الضحك.
رحل سيد درويش بشكل مفاجئ، فكانت صدمة بالغة للشيخ “يونس” الذي نجح مع سيد درويش بعد فشل تجربته مع “عبد الوهاب” الذي تبناه فنيا وهو صغير، وكان يدفع له راتبا يوميا, لكنَّه لم يرتح للعمل الدائم مع “عبدالوهاب” الذي كان يراه محافظا وتقليديا بعكس “سيد درويش”. فكان ظهور “سيد درويش” بمثابة طوق النجاة للقاضي، الذي ألف أكثر من خمسين مسرحية قدَّم فيها خلاصة فكرة، بدعم وتشجيع من “الريحاني” الذي كان متأثرا بالأدب الفرنسي خاصة مؤلفات “موليير”.
كان لقاء “الريحاني” و”درويش” تحولا وتطورا مهما, فقد أدرك “الريحاني” على الفور قيمة العبقري.. وكان قد سمع من “بديعة مصابني” عن هوس الشوام بفنه؛ فقرر “نجيب” أن يسافر الشيخ “سيد درويش” إلى إيطاليا-على نفقة “الريحاني”-كي يتم تعليمه. وكان من شدة حبه له يعطيه مائة جنية في اللحن الواحد، في وقت كانت المائة جنية تشتري عمارة, وكان يقول له: “أنت كنز يا شيخ “سيد” وسوف تدخل التاريخ وخلينا نخش معاك يا سيدي”.
ولولا “نجيب الريحاني” لما ظهرت وخرجت التوزيعات العالمية لموسيقي “سيد درويش” التي بلغت القمة في عرض رواية “بيرم” “شهرزاد” وقال “نجيب” أنَّ “سيد درويش” قال له ذات يوم: “دائما حجة الإنجليز أمام العالم لتبرير استعبادنا؛ أننا شعب ضعيف، لا يستطيع حكم نفسه وأننا بحاجة إلى حماية مستمرة، وعلشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أولها إلى آخرها لازم يكون فيها تمجيد للإنسان المصري” ويعلق “نجيب”: “عشان كده نويت تقديم “سيد درويش” معايا ومع غيري, وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتني اسمها “اللحية الزرقاء” فاتفقت مع الكاتب “محمد تيمور” على تمصيرها، ثم عهدت لـ “بديع خيري” في وضع أزجالها، وإلى المرحوم الشيخ “سيد درويش” في أن يلحن هذه الأزجال”. ما أثمرت عنه تلك الخلطة الفنية كان أوبريت “العشرة الطيبة” التي ظلَّ أبطالها “روزاليوسف” و”عزيز عيد” و”استيفان روستى” و”زكى مراد” يؤدون بروفاتها لمدة خمسة أشهر كاملة، كان “نجيب الريحاني” يدفع فيها رواتبهم، حتى إن مجموع ما أنفقه عليها حتى ليلة رفع الستار بلغ (3000) جنيه، لتكون أول عهد “الأوبراكوميك” و”الأوبريت” في مصر.
أوبريت “العشرة الطيبة” نص مسرحي يرفض استبداد الأتراك، وينقد الإنجليز المعارضين لنهضة مصر واستقلالها, بتلك الموسيقي المسرحية دخل “سيد درويش” التاريخ.. كانت الجماهير في كل مكان تغني أغنيات العرض المسرحي, فقد نجحت الرواية في جذب الجماهير كما نجحت في تأليب أعداء “نجيب” عليه؛ واستغلوا يومها فكرة الرواية، وباتوا يشيعون بين الناس أنَّه يهاجم الأتراك؛ ليحبب الإنجليز لقلوب المصريين، لدرجة أن أحد مشاهدي الرواية وقف في منتصف ليلة من ليالي العرض؛ داعيا بالثبور على ذلك “النجيب الريحاني” دسيسة الإنجليز، وهو ما دعا “الريحاني” لدعوة أحد أقطاب الوفد لرؤية الرواية والحكم عليها، فحضر “مرقص حنا” وزوجته وابنته التي كانت زوجة “مكرم عبيد” وشاهدوا الرواية واقتنعوا ببطلان الدعاوى ضد “الريحاني” وهو ما عبر عنه المسئول الوفدي في الصحف في اليوم التالي.
كان يحلو لـ “نجيب الريحاني” بين وقت وآخر -حسب مذكراته- أن يحاسب نفسه؛ ليرى قيمة ما قدمه لفنه وأوصله لعنان الشهرة، وهو ما يقول عنه: “كان دخول “سيد درويش” تجربتي المسرحية سببا هاما في أن أشعر بقيمة ما أقدم للناس, فقد كنت أجد أعمالي كلها من الناحية الفنية صفرا على الشمال، وليس لها قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير”.
لكن عشق المسرح جعله يبحث -دوما- عن التجويد؛ فيقرر ضم الأديب “حسين شفيق المصري” للفرقة، لتناول موضوعات جديدة، تنال رضا الجمهور، فيقدم معه رواية “سنة 1918” هكذا كان اسم المسرحية الجديدة التي نجحت وبات ما يقدمه نجيب الريحاني من مسرحيات هو المفضل لدى رواد المسرح, ومع ما حظى به “نجيب الريحاني” من تقدير الطبقة المثقفة سياسيا وفكريا في مصر، وفى مقدمتهم الزعيم “سعد زغلول” الذى كان يحرص على متابعة أعماله وسط جمهور مسرحه، قرر “نجيب” أن يُسخِّر المسرح للنهوض بأمَّةٍ كانت تعانى غشاوة الاحتلال وفجاجته، كما كانت تعانى عيوبا اجتماعية غير خافية على عين خبير, يقول “الريحاني”: “رحت أنقب عن العيوب الشعبية، والعلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد” ثم أضمِّن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء، فتضاعف الخصوم والحسِّاد واختلفت أسلحة كل منهم في حربى”.
حاول الاحتلال الإنجليزي ضرب وتكسير مسرح “الريحاني” الذى فوجئ بتكاثر عدد البلطجية في مسرحه، بشكل بات يهدد النظام ويمنع عرض الروايات، للحد الذى كاد فيه أن يقتل بطلقة رصاص طائشة, لم يكن “نجيب” يختلف عن بقية الفنانين المصريين المنتمين لثورة 19, ولم يكن “الريحاني” مسرفاً في المال وحسب؛ ولكن في الوطنية أيضا حتى إنه خرج بأفراد فرقته في مظاهرات للمرة الثانية سنة 1919، ومعه الشيخ يونس القاضي وسيد درويش يهتفون ضد الإنجليز هو وفرقته وينشدون في المظاهرة نشيد الكشافة, ورغم ذلك نجح خصومه في إقناع الجماهير بأنَّه دسيسة إنجليزية، وأنَّه وسيلة الاحتلال في تغييب العقول المصرية عبر مسرحياته التي يلتف الناس حولها، حتى أن الناس هاجمت منزله في ذات ليلة، ولكنه كان قد غادره مع “لوسي” إلى أحد الفنادق هربا من الغوغاء, لكنه صبر حتى استقرت الأمور، وعاد العمل في المسارح، فعرض مسرحية «قولوا له» التي كانت سلطات الاحتلال قد صادرتها, ويقول الريحاني عن نجاح هذا العرض: “ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التي اشتركت فيها جميع الطبقات، وراعينا أن ندخل في صلبها ألحاناً وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه المظاهرات، بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، بأزجال وضعها “بيرم” أو “بديع خيري” ولحنها “سيد درويش”.
كان المحتل الإنجليزي يطارد الشيخ “سيد درويش” و”بيرم التونسي” وهما يقدمان الأعمال الغنائية للفرقة, والكارثة أن الملك فؤاد شخصيا كان له موقف من “بيرم التونسي” مع ذلك كانت كلمات “بيرم” تُزيِّن مسرح “الريحاني” وأثناء هروب “بيرم” من منفاه في باريس وعودته للقاهرة علي سفينة شحن تكفَّل الريحاني بكل متطلبات “بيرم” عبر الشيخ “سيد درويش” وكان “بيرم” قد تقابل مع الريحاني في باريس, فحاول التوسط عند “النحاس” باشا في سبيل إصدار عفو عنه، وذلك حسب وصية الشيخ “سيد درويش” له الذي وصاه علي بيرم في ليلة من ليالي الإسكندرية الصعبة.
وكان الشيخ “سيد درويش” قد سقط مغشيا عليه بعد أن قبض البوليس علي الشاعر “بيرم التونسي” في منزله.. ولولا تدخل “نجيب الريحاني” لدخل الشيخ سيد درويش السجن, فقد كان “الريحاني” صاحب نفوذ كبير بين رجال الدولة، خصوصا الدكتور “طه حسين” وزير المعارف الذي كان يحب مسرح الريحاني ويحضر حفلاته، وكثيرا ما كان ينزل ضيفا عليه في منزله الصيفي في باريس.