ثقافة

الطهطاوي ومحمد عبده وأقباط الأزهر الشريف!

لو فتشت في تاريخ الأزهر؛ ستدهشك عظمة تيار التنوير، وفقه التسامح الديني الأزهري الذي وقف دوما في وجه التيار المحافظ، وخاض حروبا عديدة نجح في بعضها، وفشل في أخرى, وقد نُسبت تلك النجاحات للتيار “الليبرالي” الإصلاحي الأزهري.

خلال ثلاث سنوات جاب “رفاعة” كل ربوع مصر؛ بحثا عن النوابغ –بغض النظر عن الدين– وكان بيت “رفاعة” في طهطا –حاليا مكتبة عامة– ملتقي لكل موهوب يبحث عن المعرفة, وتكشف وثائق مولانا الشيخ رفاعة الطهطاوي عن موقف تقدمي جليل، وهو تعليمه تلاميذه “تادرس” و”الجندي” و”ميخائيل شاروبيم” في الأزهر الشريف! بل وكان يحتفل معهم بعيد الميلاد المجيد وكتب عن ذلك في كتابه “تخليص الإبريز” إذ تعوَّد علي ذلك من يوم السفر بالباخرة إلى باريس عندما شارك في حفل علي ظهر السفينة, وقد سبق الشيخ “رفاعة الطهطاوي” المفكر الفرنسي “جان جاك روسو” في تبجيل واحترام النساء دون تمييز, كما أسهم في وضع أسس المواطنة حسب المفهوم الإسلامي الجامع.

روسو
روسو

نجد الطهطاوي يخصص سبعة مقاعد لطلاب مسيحيين من أثيوبيا في البعثة التعليمية الكبرى لباريس, وقد أورد في “تخليص الإبريز” وصفا دقيقا للإيقاع المتناغم بين الأذان وصوت الترنيم في الكنيسة, وضرب الطهطاوي أروع المثل في التسامح والمحبة بين المصريين دون تفرقة بل ووضع عبارة أن مصر وطن السعادة المشتركة, وتلك مفاجأة إذ كتب مولانا الشيخ رفاعة الطهطاوي شعرا يلخص فيه حرية العقيدة، وحق كل شخص في اختيار دينه فيقول في وصف سيدة مصرية:

يقولون: قبطية أُمُّ خالدٍ فقُلْتُ ذَرُوها كل نفس ودِينُها

فإن تَكُ قبطية أُمُّ خالدٍ فإن لها وَجْهًا جميلًا يَزِينُها

ولا عَيْب فيها غير زُرْقَة عَيْنِها كذاك عتاق الطير زُرْق عُيُونُهَا

وتشهد مكتبة “رفاعة الطهطاوي” التي تضم 14370)) مخطوطا من أندر المخطوطات في العالم، له بتنوع مصادره العلمية وسعة اطلاعه وانفتاحه على مختلف الثقافات ونبذه للعنصرية.. ولعل ذلك هو السر في نفيه للسودان لأكثر من أربعة أعوام, في زمن الخديوي “عباس” الذي حكم مصر، وعرف بالخديوي السلفي، حيث أغلق مدرسة الألسن، وأوقف أعمال الترجمة، وحاول منع توزيع صحيفة الوقائع التي أصدرها “رفاعة”.

وقد أدرك “الطهطاوي” خطورة فكر الخديوي “عباس” الذي طبق سياسة الانغلاق، والردة الحضارية، والاتجاه نحو الجزيرة العربية، فكان يرسل مبعوثه للخيول “على باشا اللالا” إلى شبه الجزيرة، لشراء واقتناء أفضل وأجمل أنواع الخيول العربية, وقد أساء “عباس” الظن بأفراد أسرته وقادة النهضة وبكثير من رجالات “محمد علي” باشا و”إبراهيم” باشا وخيّل له أنهم يتآمرون عليه؛ فأساء معاملتهم وخشي الكثير منهم على حياته؛ فرحل إلى “الأستانه” وإلى أوروبا خوفًا من بطشه، وانتشرت الجاسوسية في عهده انتشارًا مخيفًا، فصار الرجل لا يأمن على نفسه من صاحبه، وكان العقوبة المتكررة النفي إلى السودان ومصادرة الأملاك.

تخليص الإبريز في تلخيص باريز

وكان كتاب “مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” الذي دعا فيه “رفاعة إلى المساواة بين المصريين في الحقوق والواجبات –تهمة من وجهة نظر الخديوي, فكان النفي للسودان سنة 1850، لكن هذا لم يحبط رفاعة؛ إذ ترجم هناك عددا من المسرحيات، وأعمالا أدبية أخرى، وكانت عودته إلى مصر بعد وفاة “عباس” وتولي الخديوي “محمد سعيد” الحكم عام 1854.

كان “الطهطاوي” حريصا علي تأمل فكرة التعايش بين المصريين الأقباط والسودانيين،  وقد تحول تأمل “رفاعة” وملاحظاته إلى قناعة بأنه لا يجب أن يكون هناك فرق بين مسلم وقبطي في فرص العلم والعمل.. وعلي درب “الطهطاوي” صار الرواد الأزهريون بعده يواصلون العطاء دون تفرقة.

قدَّم الشيخ المستنير في كتاب “مناهج الألباب” أفكاره الأساسية في إصلاح المجتمَع وتنويره، بحيث يُمْكن اعتباره كِتابًا في التثقيف السياسي، هَدَفُه شحْذ الهمة الوطنية وإذكاء الروح المصرية من جديد, وقد رأى رفاعة أن قضية التمدن أو تحديث المجتمع المصري وتطويره تتم من خلال إصلاح بعضٍ من عاداته، حيث إن التمدن يتحقق من خلال تهذيب الأخلاق وبثِّ الفضائل بين أفراد المجتمَع، وكذلك توفير وتطوير ما أسماه ﺑالمنافع العمومية الممثَّلة في الخدمات العامة التي تُقَدِّمها الدولة، والصناعة والزراعة والتجارة، بحيث تفيد كافة المصريين دون تمييز، كما نبَّهَ أن عملية التمدن يجب أن يشترك فيها الجميع، كل حسب طاقته، كذلك يشير إلى مسئولية البعض عن دفع عجلة التمدن كالأمراء والمثقَّفِين، أو من يُسَمَّوْا بالنخبة، من خلال دَعْمهم لمشروعات التعليم والثقافة مادِّيًّا ومعنويًّا.

ويحدد “رفاعة” قواعد التعامل مع اليهود والأقباط حتي في رعايتهم وحفظ حقوق المعوقين منهم فيقول: “كل ملة من الإسلام والنصارى من أروام وقِبْط وشوام ومن اليهود أيضًا تعمل من الآن فصاعدًا حانوتًا لقبول كافة العميان والعرجان والشحاذين العاجزين عن الشغل يكون مُعِدًّا لهم”. لم يجد أقباط مصر من معينٍ لهم في ذلك العصر سوى “رفاعة”؛ حتي إن يعقوب نخلة صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية، درس في الرواق القبطي بالأزهر بتوصية من رفاعة الطهطاوي وقد سار الشيخ “محمد عبده” على نهج الرائد الكبير. في ذلك الوقت صارت طهطا مدينة للعلم وملجأ لكل أبناء الصعيد من طلاب العلم.. وكان منهم الفتى القبطي “إسكندر نظير” وقد التحق بالأزهر بقرار من الطهطاوي وتخرج فيه، وقد نشأ في رعاية أحد كبراء طهطا, تبعه تلميذ “رفاعة” الموهوب “وهبي تادرس” الشاعر المعروف، المذكور في معجم البابطين لشعراء العربية بـ “تادرس بن وهبة الطهطاوي المصري” تعلم اللغات الفرنسية والأرمنية والعربية والإنجليزية والإيطالية، ثم التحق بالأزهر –مع كونه مسيحيًا– فحفظ القرآن الكريم ودرس علوم الحديث والفقه، وعندما تقدم للامتحان النهائي بمدرسة الأقباط، كان “رفاعة” على رأس اللجنة. وقد عمل “تادرس” مترجمًا في نظارة المعارف، وساهم في المكتبة العربية بمؤلف بعنوان “الخلاصة الذهبية في اللغة العربية”.

مناهج الألباب

كما تلقى الصحفي القبطي “جندي إبراهيم شحاتة” (1864- 1928) دروسه في أحد الكتاتيب بمدينة جرجا قرب طهطا، كما درس في الأزهر الشريف، تحت اسم إبراهيم جندي، فتلقي علوم العربية والشريعة علي يد الشيخ “الطهطاوي” أيضاً.

 أما “فرنسيس العتر” فقد ولد في القاهرة، ودرس اللاهـــوت والفلسفـــة, وأجاد القبطية واللاتينية والفرنسية، وكان من أخلص تلاميذ الشيخ “محمد عبده” أثناء دراسته في الأزهر الشريف, مثله مثل الكاتب “أديب إسحق” وهو مسيحي سوري، ألف كتاب “نزهة الأحداق في مَصارِع العُشاق” كما ترجم عدة روايات فرنسية بعد أن درس علوم اللغة العربية علي يد الشيخ “محمد عبده” كما أن “قليني باشا فهمي” الذي ولد سنة 1860، درس العربية على يد الشيخ “محمد القنائي” النحوي الشهير في عصره، وحفظ ألفية ابن مالك وكذلك شرح ابن عقيل، وعاصر “الطهطاوي”.

ويحفل تاريخ الأزهر بسجل عظيم للتسامح؛ فعائلة العسال واحدة من أشهر العائلات القبطية، التي عاشت في القرنين السادس والسابع الهجريين، ودرست في رحاب الأزهر الشريف، وتلقى أبناؤها تعاليم الإسلام، واللغة العربية، فانعكست تلك الثقافة الإسلامية في كتاباتهم، بالإضافة إلى الشيخ الرئيس “ابن قيصر” الأزهري، وهو من رجال القرن الـثالث عشر وهو مؤلف مصري  قبطي، وألف كتابا في نحو اللغة القبطية سماه التبصرة، والعالم المصري “ميخائيل الصباغ” ويذكر “محمود المقداد” في كتابه تاريخ الدراسات العربية في فرنسا أن “الصباغ” درس علي أساتذة مصر، وممن ذكرهم الشيخ “يوسف الخراشي” الأزهري نجل مولانا الإمام “الخراشي” والسياسي القبطي “مكرم عبيد” تلميذ مولانا الشيخ “مصطفي القاياتي” الذي درس في الأزهر عامين في مقتبل حياته، فحفظ القرآن حتي إنه كان يكسب معظم قضاياه أمام القضاء، لاعتماده علي محفوظه من الكتاب العزيز.

وقد ورد في موسوعة الكنيسة القبطية الكتاب التاسع ص171، عن المعلم “ميخائيل البتانوني” أنه درس بالأزهر من سنة 1885-1891 م، وفي هذه الفترة أتقن علوم النحو والصرف والبيان، كما استمع إلى ألفية ابن مالك من الشيخ “محمد بصرة” وخلال السنة الثانية من دراسته بالأزهر رأى البابا “كيرلس” في صوت هذا الناشئ وفي حفظه السليم لكل ما تلقَّنَه من الطقوس والألحان المؤهلات الوافية لرسامته شماسًا، فرسَّمه بنفسه، ولما أتمَّ “ميخائيل” دراسته بالأزهر, عيَّنه البابا “كيرلس” مرتلًا بالكاتدرائية المرقسية.

ميخائيل البتانوني
ميخائيل البتانوني

ويعتبر المؤرخ المصري “توفيق إسكاروس” (1871- 1942) واحدا من أهم المؤرخين الذين أرخوا لتاريخ الاقباط في مصر في القرن التاسع عشر، وقد درس العربية علي يد المشايخ الأزهريين.. وقد كتب عن الشيخ قدري باشا، مقالا شهيرا يعترف فيه بفضله.

ومن أشهر مؤلفات “ميخائيل شاروبيم” بك، كتاب “الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث” فهو موسوعة ضخمة في أربعة مجلدات ظهرت خلال الفترة من (1898- 1900) وقد تناول الكتاب تاريخ مصر من عهد نوح، حتى نهاية عهد الخديوي توفيق، مرورا بتاريخ الجزيرة العربية، والحضارة الإسلامية.

وتثبت وثائق الأرثوذكس المصريين أن دراسة الأقباط في الأزهر كانت دراسة منهجية، وانتهت بإتمام الدراسة, ولم ير البابا “كيرلس” وهو من رجال الإصلاح التعليمي في الكنيسة –غضاضة في ذلك. وكان الإمام “محمد عبده” يعطي دروسه في الرواق العباسي بالأزهر، وكان عدد من الشباب القبطي يقبلون على دروسه، معجبين بآرائه وتسامحه حتى إن الإمام محمد عبده أشاد بهم، وبعلو محصولهم العلمي.

ميخائيل شاروبيم
ميخائيل شاروبيم

لقد احتضن الأزهر منذ زمن الشيخ “حسن العطار” رواق الأقباط الذي ظل مفتوحا حتى عام 1918، وكان قرار الإغلاق من قبل الإنجليز بعد تواصل انطلاق المظاهرات من الجامع الأزهر نكاية في الزعيم “سعد زغلول” ومحبيه وزملائه الأزهريين وخصوصاً بعد خطبة “سرجيوس” الشهيرة ضد المحتل من علي منبر الأزهر.

كانت مشيخة الأزهر تتولى الإنفاق علي الرواق منذ عام 1902، بعد أن أوقف الإنجليز مخصصات الأروقة الأزهرية. الذي كان يقدم خدمات متعلقة بالأحكام التجارية والقروض والديون والمواريث والمعاملات والحقوق.

ومازال طلاب الدراسات العليا من المصريين الأقباط يترددون على مكتبة جامعة الأزهر حتى وقتنا الحاضر، ويدرسون مع بعض أساتذتها في تخصصات مثل: الدراسات المقارنة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية وبعض الدراسات التاريخية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock