ظلَّ فنان الشعب “سيد درويش” صاحب النصيب الكبير من حكايات “نجيب الريحاني” في مذكراته.. يتحدث عنه في أكثر من موضع, فبينما كان يبحث عن ملحن يضع له موسيقى مسرحياته الجديدة، اُقترح عليه اسم الشاب “سيد درويش” ورغم أنَّه ظَلَّ كثيرا في حيرة من أمر العمل مع ذلك الشاب السكندري؛ لكن محبته للفن جعلته يقرر العمل معه، يقول الريحاني في مذكراته: “أخيرا تغلَّبتْ عليَّ محبتي للفن، فقررت الاتفاق مع “سيد درويش” مهما كان وراء ذلك من تضحية، إذ إنني وجدت من “الإجرام” حرمان الفن من شخص كـ”سيد درويش… أعددنا رواية أطلقنا عليها اسم «ولو» وضع بديع أول زجل منها، وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من السقايين، يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، ومطلع هذا الزجل هو “يعوض الله.. يهون الله، على السقايين، دول غلبانين، متبهدلين من الكبانية، خواجاتها جُوْنَا، دول بيرازونا في صنعة أبونا، ما تعبَّرونا يا خلايق”. وسلَّمنا الزجل للشيخ “سيد” وكانت ميزته أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمى إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام.. تسلَّم الشيح “سيد” الكلمات ليلحنها، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المحدد، ولا في اليوم التالي، حتى إذا كان اليوم الثالث قصد إليه أحد أصدقائنا، فسهر معه الليل بطوله، وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة، وأنَّه قضى الأيام الثلاثة الماضية، يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق دون جدوى.. وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام، صادفهما أحد “السقايين” وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحوارى، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة، وسمعه ينادى بأعلى صوته وبنغمته التقليدية «يعوض الله» فتنبه الشيخ سيد وأمسك بذراع صديقه وهتف “وجدته.. وجدته”، وفى المساء حضر الشيخ “سيد” وأسمعني اللحن، وكدت أطير به فرحا، وفى اليوم التالي وضع الشيخ “سيد” اللحن المناسب، ثم لحَّن عقب ذلك زجل استقبال “كشكش” الذي كتبه “بديع” ويقول فيه: “ألفين حمد ﷲ على سلامتك.. يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك”.. فكان اللحن كذلك بدعة”. وهكذا كان عبقري التلحين “سيد درويش”.
وللفنان الراحل “نجيب الريحاني” تسجيل نادر مع الصحفي العظيم “فكري أباظة” تحدث خلاله عن الشيخ “سيد درويش” قائلا: “أنا لما هكلمكم عن “سيد درويش” مش هيكفيني يومين، ولكن هاختصر لكم الكلام عنه.. “سيد درويش” روح طاهرة وشفافة ونقية، روح غير مستقرة بتستعجل أيامها في الحياة، روح كانت بيتهيأ لها إنَّها حمل ثقيل في هذه الحياة وعاوزة تخلص من الأيام، وكان الحديث عن الموت ما بيغبش أبدا عن باله، حتى في سهراته المبهجة، وذكرياتي معاه كلها ود وإخلاص ورحمة ومشاحنات وعناد وعتاب. وأتذكر موقف غضب بيني وبين “سيد” كدنا نمسك في خناق بعض، وفجأة عصفور الكنارية زقزق؛ فلقيت “سيد” قام من مكانه بسرعة؛ فقلت في نفسى ده “هيجيب حاجة يضربني بيها”.. وفجأة مسك العود وطفى النور، وفضل يعزف لمدة نصف ساعة، وبعدها ولَّع النور ولقيت وشه مليان دموع.. وفجأة أنا عيَّطت، وخدته في حضني، وقلت له حقك عليا يا “سيد” مع إن سيد هو اللي كان غلطان من ساسه لراسه، المهم نزلنا في الشارع واتكلمنا نصف ساعة وبعدها لقيت سيد مسك في خناقي تاني، فوقفت عربجي وقولت له اطلع يا اسطى على شارع عبد العزيز.. فـ “سيد” قال لي: “ليه قلت له يمكن ألاقى غراب أشتريه ينوَّح لك يمكن تسكت فضحك “سيد”.
ويكمل “الريحاني” العظيم “أما عن شغلي معاه في المسرحية؛ فعمل شوية ألحان جبارة أصبحت مصر كلها تتغنى بيها وخصوصا “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية” كنتوا تلاقوا الناس ماشية تغنيها في الشارع، وأنا بصوتي ده بقيت منافس قوى للمطربين في زمنى، بسبب ألحان “سيد” الله يرحمه.. ولو كان عبد الوهاب وأم كلثوم على أيامى وأنا بأغنى ألحان “سيد” كانوا هيغيروا منى” ويستكمل “الريحاني” حديثه عن “درويش” قائلا: “رحمك الله يا “سيد” رغم ضخامة جسمك إلا إن إنت من جواك كنت طفلا متقلب المشاعر، سَمْح من جواك أحيانا وغَضِب أحيانا كنت غير مستقر تغنى للصبح وتقلب على الظلام ثم تعشق الظلام وتكره الصبح وأنا عمرى ما هنساك وربنا يرحمك بروحك الشفافة الرقيقة”.
فجَّر “سيد درويش” ثورة في المسرح بالعمل مع “نجيب الريحاني” لينتج واحدة من علامات الفن المصري الحديث بعد سفر “بيرم” لباريس، كان قد حلَّ المشكلة؛ ظهور “بديع خيري” الذي يعد اكتشاف “الريحاني” بمساعدة شيخ الموسيقي، وقد كوَّن “بديع خيري” و”سيد درويش” و”نجيب الريحاني” ثلاثيا فنيا ناجحا، حيث قدموا معا عدة مسرحيات مثل “رِن” و”إش” واستعراضات مثل “ولو” وقدموا معا أوبريت “العشرة الطيبة”، التي أخرجها “عزيز عيد” للمرة الأولى، والتي تضمنت ما اعتبره البعض سخرية من الأتراك ؛ فتسبب ذلك في غلق مسرح “نجيب الريحاني” وسفره للبنان لفترة، كما ألفَّ “بديع” الشعر لـ”سيد درويش”، فقدما أغنيات ثورية واكبت ثورة 19، كما في رواية “قولوله” التي قدمتها فرقة “الريحاني” وتقول كلمات الأغنية: ده بأف مين اللي يألس. على بنت مصر بأنهي وش. والنبي يجري يتليس. ماطلع كلامه طظ فش. النوه النووه. هي هي هيه. شغل البكش ده يا أختي. مابقاش ينفعنا دلوقتي. دي المصرية كتّر خيرها. في التربية سبقت غيرها. يا سلام يا إخوانا دي العبرة. ماهيش في جوة ولا برّة. عمر الحُّرة ما تبقى عرّة. يا أهبل ليه غيرنا يفارقنا. ماتخلي زيتنا في دقيقنا. دي المصرية تبيَّض وشك. الأفرنجية عينها في قرشك.