مقدمة:
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أنَّ القضية المحورية، والفكرة المركزية التي تدور في فلكها فلسفة الفيلسوف الفرنسي “إيمانويل ليفيناس”.. هي قضية أو مقولة الآخر الذي يتبدَّى للذات من خلال مقولة الوجه. فالوجه يمثل مرآة عاكسة لحقيقة الأنا وكينونتها، ومن هنا ينبغي للآخر أن يحترمها ويعترف بمنزلتها، من خلال تبادل المسئولية؛ سعيا للحفاظ على الحياة الإنسانية. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّ اللغة تلعب دورا محوريا في العلاقة بين الأنا والآخر؛ لأنَّها تجعل العلاقة بين المتحاورين ممكنة، كما أنَّها تسمح بتبادل المعارف والمعلومات بينهم. ولقد أعطى “ليفيناس” لمقولة الوجه أهمية كبيرة في التواصل مع الآخر، لأنَّه من خلال الوجه يتجلَّى الآخر للأنا. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك وجها يتميز به عن الآخرين، بينما الأشياء والكائنات الأخرى ليس لها وجه تتميز به بعضها عن بعض.
ويتجلى وجه الآخر للأنا من خلال -وعبر- النظرة، وهنا نشير إلى حقيقة مهمة وهي أنَّ النظرة ليست مجرد الرؤية الحسية، بل التمعن والتحديق والإبصار. كما أنَّ الوجه ليس مجرد الجبهة والأنف والوجنتين بل هو بصمة الشخصية ورمزها الواضح والصريح. وهنا يشير “ليفيناس” إلى أنَّ الوجه ودلالته تكمن في البعد الجديد الذي يفتتحه في إدراك الوجود. والمقصود أنَّنا -نحن- موضوع الإدراك بحكم الاختلافات في الوجه. فالوجه هو الذي يقيم جسر التواصل مع الآخر، كما من خلاله يتم إقامة حوار متوازن مع الآخر.
الوجه وجدل الحوار مع الاخر :
يرى “ليفيناس” أنَّ الوجه هو المقولة الرئيسية في إقامة حوار مع الآخر، هذا الحوار هو الضامن الوحيد لإنهاء النزاع، وتحييد العنف وإرجاع الناس إلى طبيعتهم السوية، وتكوين الحقيقة المشتركة عن طريق الإجماع.
ومن هنا يحدد “ليفيناس” العلاقة بين الأنا والآخر بوصفها مقابلة أو حوارا، وهذه المقابلة تتطلب وتحتاج إلى المحافظة على المسافة بين طرفي العلاقة، والبقاء في حالة من الانفصال؛ فالحوار ليس معناه إذابة الفروق بين طرفي الحوار أو اقتحام خصوصية الآخر، والاندماج التام بين المتحاورين، بل على العكس إذا أردنا حوارا هادفا ناجحا -من وجهة نظر “ليفيناس”- فلابد من الإبقاء على مسافة بين المتحاورين. فإذا ضاعت المسافات وتم الاندماج تتحول العلاقة بين الأنا والآخر إلى علاقةِ مطابقة.. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّ المسافة الضرورية ليست مسافة مكانية بل مسافة زمانية وثقافية وتاريخية، وهي غير قابلة للاجتياز والتخطي.. لماذا؟. لأنَّها هي التي تسمح للغيرية بالوجود عند الطرفين. ولعله من الأهمية بمكان أن نوضح هنا أنَّنا نعثر على خاصيات الحوار المتعالي في علاقة الترابط بين الأنا والآخر، لكونها علاقة أخلاقية متعادلة، وهذه هي صورة الارتقاء بالحوار من أجل إتاحة الفرصة للأنا لكي تقابل الآخر، وللآخر من أجل مقابلة الأنا بدون أحكام مُسْبَقة.
إذن، فإنَّ الحوار الأصيل يأتي من خلال هوية العلاقة التي بين الأنا والآخر. لذلك الكون والحقيقة يتم تفسيرهما عند “ليفيناس” على أنَّهما موضوع للحوار. ولعل النقطة الأهم في موضوع الحوار عند “ليفيناس” والتي غالبا ما يؤكد عليها -أنَّنا يجب ألاَّ نحددَ أو نضعَ شروطا للحوار، فعندما نفعل ذلك يفشل الحوار بين الأنا والآخر. من هنا نستنتج أنَّ الوجه عند “ليفيناس” هو المحور الأساسي في إقامة حوار بين الأنا والأنت أو الآخر، هو الذي يبدأ بالحوار. فالحوار عند “ليفيناس” هو أهم عمل للوجه، هو المحك الأساسي للتواصل بين الأنا والآخر. فمن خلال الحوار الذي يقدِّمه الوجه تتحمل الأنا مسئوليتها تجاه الآخر.
المسئولية التزام أخلاقي تجاه الآخر:
يؤكد “ليفيناس” على حقيقة مهمة، وهي أنَّنا قبل أن نلتقي الشخص الآخر على صعيد المعرفة، فإنَّنا نكون مثقلون بفعل المسؤولية والاحترام لدعم الآخر. فالمسؤولية عن الآخر تسبق فهم الآخر، لذلك يأتي اللقاء الأخلاقي أولا وقبل الحديث المعرفي. ومن هنا لابد من وجود بُعْدٍ أخلاقي في الشعور بالمسئولية تجاه الآخرين، لكي يتسنَّى إقامة حوارٍ متوازن بين طرفين. ويصف “ليفيناس” الذات بأنَّها مَدِيْنَةٌ للسيد الآخر -من حيث المسئولية- وعلاوة على ذلك فهي لا حصر لها، وبالتالي لا يمكن سداد الدين بالكامل. وبسبب تلك المسئولية يدعو “ليفيناس” دائما إلى وضع الذات مكان الآخر؛ من أجل كسر التباين في العلاقة الأخلاقية. وفي هذا السياق نشير إلى أنَّ المسئولية تقع بشكلٍ أكبر على عاتقي كذات تجاه الآخر. ومن هنا يصف “ليفيناس” المسئولية بأنَّها لا مُسَوِّغَ لها من دون الحاجة إلى المعاملة بالمثل .
العلاقة الأخلاقية بين ألانا و الآخر عبر الوجه:
أكد “ليفيناس” على أنَّ العلاقة بالآخر هي جوهر الأخلاق، لأنَّنا من خلال الوجه ندرك المعنى الحقيقي للإنسانية. ومن هنا يعتبر حضور وجه الآخر عند “ليفيناس” حالة من الأمان والرغبة في التعاون ومسئولية الذات عن الآخر. فوجه الآخر يمثل العمومية والاستقامة، فهو يُعْلِي علاقتي بالاستقامة. وبنفس تعبير “ليفيناس” الوجه هو الآخر الذي يطلب مني ألا اتركه يموت وحيدا. ففي العلاقة بالوجه يتم التنديد بي كمغتصب لحرية الآخر. ولعلنا نشير هنا إلى حقيقة هامَّة، وهي أنَّ الأخلاق تبدأ عند “ليفيناس” فور اللقاء بالآخر، وبمجرد النظر الى الوجه، فإنَّ اللغة الخاصَّة هي أول ما يسود. وفي هذا السياق يرفض “ليفيناس” تلخيص واختزال الوجه في الوجه المجرد المعروف الذي يتضمن العين والأنف، بل ما وراء الوجه من نظرةٍ ومحاولةٍ لاكتشاف الآخر، والدخول معه في علاقة أخلاقية تدفع إلى مزيدٍ من التعاون والتواصل. فالوجه يكشف عن المشاعر والإحساسات الداخلية، وما يجول بداخل الإنسان. ومن هنا فلابد من تجاوز الظاهر إلى الباطن، إلى ما وراء الوجه. أي إضفاء معنى لكل ما يبدو ظاهرا على الوجه بشكل مباشر.
خلاصة القول:
تمثل مقولة الوجه، نقطة محورية في فلسفة “ليفيناس”.. استطاع من خلالها الوصول إلى حوارٍ متوازنٍ مع الآخر، وتحقيق تواصل مع الآخر. ليس هذا فحسب بل اكتشاف الآخر من خلال سيمياء وملامح الوجه، وتجاوز الظاهر إلى أعماق ما وراء الوجه. وهنا تكمن أهمية وعظمة فلسفة “ليفيناس” أي في استبطان الداخل من خلال الوجه الظاهر. فالوجه أعمق من المعروف عنه من أنه يحتوي على أنف وعين وفم.. بل الوجه عالم من المشاعر الداخلية ومعرفة أحاسيس الإنسان، والتعرف عليه وقراءة ما يجول بداخله.