مقدمة:
من وقت لآخر ينهض رجال يجسدون طبائع ومزاج شعوبهم، أو مطامحهم بقوة يحققون معها تأثيرا غير عادي، ورفعة رمزية تنسب إلى أشخاصهم أكثر مما تنسب إلى إنجازاتهم. وأنَّه لأمر أكثر قدرة بالنسبة لكاتب أن يصبح التجسيد المعترف به لروح شعبه، وجسد فكر أمته.. إنَّه “ميجيل دي أونامونو. فهو مفكر وروائي و شاعر وكاتب اسباني . ولد في بلباو عام 1864، ودرس الفلسفة والآداب وحصل على كرسي اللغة الإغريقية في جامعة “سلمنقة” ثم صار عميدا لها حتى أقيل منها لأسباب سياسية ونُفِيَ إبان الحكومة الديكتاتورية عام 1924، إلى جزيرة “تنريفي”؛ لكنه فرَّ منها إلى فرنسا ومكث هناك رغم صدور قرار العفو عنه، وشغل منصب رئيس جامعة “سلمنقة” ويعتبر من أصغر رؤساء الجامعات في ذلك الوقت. ويجب أن نشير هنا إلى حقيقة مهمة وهي أنَّ فلسفة “أونامونو” لم تكن منهجية؛ بل كانت نفيا لجميع الأنظمة، وتأكيدا للإيمان في حد ذاته.
ولقد تأثَّر “أونامونو” بالفلسفة الوجودية التي صبغت كل أفكاره فيما بعد؛ خاصَّة في نظرته للإنسان والموت والخلود، والمعنى المأساوي للحياة.. ولا نجافي الحقيقة ولا نتجاوزها إذا قلنا أنَّ فلسفة “أونامونو” هي فلسفة متصلة بمأساة الحياة، والتفكير في هذا المعنى والشعور الذي يصبغ الحياة كلها في جميع جوانبها. إنَّ جوهر الحياة ينبثق من الإيمان، ويستند إلى اللامعقول، إنَّها فعل جوهره النضال، ولا نتيجة لهذا النضال غير هزيمة الإنسان، لكن هذه الهزيمة هي نفسها أروع انتصار، لماذا؟ لأنّها تجعل الإنسان يناضل مرات ومرات من أجل الوصول إلى المعنى الأعمق لتلك الحياة، هذا المعنى المأساوي يُغَلِّف كل الحياة، ويصبغها بصبغته المأساوية.
بانوراما حياتية “سيرة ومسيرة”
“ميجيل دي أونامونو” شاعر وكاتب وفيلسوف أسباني ولد عام 1864 في بلدة بلباو بإسبانيا.. وهو الابن الثالث بين ستة من الأبناء داخل أسرته، ولقد شهد أثناء طفولته أعمال العنف التي نشبت بين القوى التقليدية والقوى التقدمية من خلال حصار بلباو. مما ترك آثارا عميقة في فكره السياسي فيما بعد. وبعد موت والده انتقل للعيش مع عمه في مدريد، وكانت هذه فرصة عظيمة للتردد على مكتبة المدينة، وقراءة كل ما تقع عليه عيناه. وقد أثَّر هذا في تكوينه الفكري فيما بعد، وفي تقديمه أفكارا ورؤى فلسفية عميقة، ترتبط بالناس والأحداث الواقعية. ولقد حصل “أونامونو” على درجة الدكتوراه عام 1884، في الآداب من جامعة مدريد عن رسالته حول “اللغة الباسكية” –نسبة إلى إقليم الباسك شمال إسبانيا- ثم عاد بعد ذلك إلى موطنه الأصلي بلباو وعمل معلما، وأسس مع أصدقائه المجلة الاشتراكية.
ولعلنا هنا نسرد بعض مكونات “أونامونو” الفكرية وشذرا من حياته الثرية معرفيا، لأنَّ كل هذا مقدمة طبيعية لأفكارٍ جعلت منه واحدا من أهم مفكري وفلاسفة إسبانيا في القرن العشرين.
ويطلعنا هذا – أيضا– على موهبته الكتابية وفي التأليف المعرفي، فقد كتب مئات المقالات، وعشرات من الكتب في الأدب والسياسة والفلسفة، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد.. ولعل أشهر كتبه التي ذاع صيتها في جميع أنحاء العالم هو كتاب “الإدراك أو الشعور المأساوي بالحياة” الذي جسَّد فيه كيف نعيش حياة تغلفها المأساة، فالحياة مأساة وليست كوميديا. كما كتب “أونامونو” عددا من الروايات والمسرحيات؛ لعل من أهمها رواية “السلام والحرب” وهي أول رواية وجودية تتحدث عن ذكرياته عن حصار “بِلْبَاو. ورواية “الضباب والحب” و”أصول التربية” وغيرها.
الانسان بين منطق العقل ووثبة الروح
لعلنا نشير –هنا– إلى أهم المشكلات الفلسفية التي استحوذت على اهتمام “أونامونو” هو الإنسان الحي المكون من لحم وعظم، كما يصفه في كتابه “المعنى المأساوي للحياة”. ذلك الإنسان الذي يولد ويموت، ويرتبط ليس بعقله؛ لكن بإرادته وعاطفته بالكون والوجود.. من هنا يرفض “أونامونو” أن يضع معنىً محددا للإنسان ويرتبط هذا بفكره الوجودي، الذي يرى أنَّه من الصعب أن نضع الإنسان في إطار محدد، لماذا؟ لأنَّه متجددٌ باستمرار ويتعارض بل يتناقض تماما مع القوالب الجامدة.
لذا؛ فالإنسان لا يتميز فقط بالفكر، بل بالمشاعر والوجدان والعواطف. وهذه العواطف والمشاعر هي ما تجعله متجددا ويتسم بالحيوية والنشاط.
ولقد كان اهتمام “أونامونو” الدائم منصبا على التنقيب في أعماق الإنسان الفرد. لذا؛ استحوذ المصير الإنساني على اهتمامه، انطلاقا من الأبعاد الوجودية التي تتمثل في القلق والشك والصراع.. من هنا كانت فلسفته تعبيرا صادقا عما يؤرقه ويزعزع استقراره النفسي ويزلزله بسبب تدينه، ومحاولته المستمرة إيجاد صيغة مناسبة تساعده على الدخول إلى أعماق النفس البشرية وتحليل ما فيها من مشاعر وأحاسيس. لذا؛ امتزجت الفلسفة الوجودية بشخصية “أونامونو” وكانت انعكاسا لحياته التي كانت معبرة عن القلق و الاضطراب النفسي.
الشعور المأساوي بالحياة “دون كيخوته” و”سانشو” نماذج حية”
الحياة في أوسع معانيها تمثل شعورا مأساويا عند “أونامونو” فالشعور المأساوي وراءه تصور كامل للحياة نفسها وللعالم، وفلسفة واعية إلى حد ما. وهذا الشعور كما يرى “أونامونو” قد يملكه أفراد أو شعوب كاملة. ويحدد هذا الشعور الأفكار أكثر مما ينبع منها، وإن كانت هذه الأفكار تؤثر فيه بالطبع وتعززه. وفي هذا السياق يشير “أونامونو” إلى وجود نماذج بشرية من لحم وعظم امتلكت هذا الشعور المأساوي بالحياة، منهم على سبيل المثال “أوغسطين”، “روسو”، “كيركجورد”.. وهناك –أيضا– شعوب تمتلك هذا الشعور المأساوي بالحياة. وبناء على ذلك فإنَّ نقطة الانطلاق لفهم الشخصية الإنسانية وكل فلسفة هو الشعور المأساوي بالحياة. ويربط “أونامونو” في لفتة لا تخلو من عمق في التفكير بين الشعور المأساوي للأفراد والشعوب، وبين الشعور المأساوي عند الأسبان. ويقول أنَّ الشعور المأساوي بالحياة لدى البشر والشعوب هو على الأقل شعورنا المأساوي بالحياة –شعور الاسبان.. مثلما ينعكس في وعيي الذي هو وعي كل اسباني تَشَكَّلَ في إسبانيا. وهذا الشعور المأساوي بالحياة هو الشعور الكاثوليكي ذاته بها، لأنَّ الكاثوليكية وخاصَّة الشعبية منها مأساوية. وما سماه “دانتي” الكاثوليكي الكبير كوميديا إلهية، هي أكثر المآسي التي خطتها يده؛ مأساوية.
ثم يشير “أونامونو” إلى وجود شخصية تراجيدية على شكل كوميدي، شخصية ترى فيها الكوميديا البشرية في عمقها المأساوي، إنَّها شخصية “دون كيخوته” المسيح الإسباني الذي تتلخص فيه روح هذا الشعب، شعب إسبانيا. وربما كانت آلام الفارس ذي الوجه الكئيب وموته هي آلام الشعب الإسباني وموته. ومن هنا يقول “أونامونو” أنَّ الفلسفة في روح الشعب الإسباني كأنَّها تعبير عن مأساة عميقة شبيهة بالمأساة في روح “دون كيخوته” كأنَّها تعبير عن الصراع بين ما هو عالمٌ كائنٌ حسيٌ؛ يُبْدِيه لنا العقل العلمي وبين رغبتنا في أن يكون حسبما تخبر به عقيدتنا الدينية. ويطالب “أونامونو” الشعب الإسباني أن يتمثل روح “دون كيخوته” و”سانشو” كأمثلة حية على الشعور المأساوي بالحياة. يقول “أونامونو” “اجعلوا من “دون كيخوته” داخليا واجعلوا من “سانشو” داخليا وبطوليا أيضا إلى جانبه، ثم أخبروني بمأساته المضحكة”.
صفوة القول
كان “أونامونو” يعيش أفكاره ويطبقها في حياته وهذا ما جعل أفكاره تحيا، بل أثرت في الشعب الاسباني كله، لأنَّه يتصرف ويعيش ما يعتنقه من أفكار. إنَّ العظمة الحقيقية لأي إنسان ألا يصنع فجوة بين أفكاره وحياته. وهذا ما طبقه “أونامونو” على نفسه. وجعل التاريخ يخلِّد تلك الأفكار التي تمثل السمو والرفعة في الإنسان. ذلك الكائن الذي يحيا بالمشاعر والعواطف إلى جانب العقل.