في رحلتنا البحثية لاستخلاص الملامح العامة لـمفهوم “حكم” في كتاب الله الكريم، لنا أن نلاحظ أن لفظ “الحُكم” في السياق العام لمواضع ورودها في آيات التنزيل الحكيم، يأتي ليتمحور –في أغلب الحالات– حول مسائل الفصل القضائي، في ما يتعلق بطرفين أو فئتين.. وهو ما يبدو بوضوح، عبر تواتر صيغة “الحكم بين” في سياق النص القرءاني؛ أي: ورود الحكم من خلال صيغة حكم “بين” الناس، وليس حكمًا “لـ” الناس، أو “على” الناس.
بعبارة أخرى، ورود الفعل “أحكم” بصيغة “أحكم بينهم”، وليس بصيغة “أحكمهم”، لانتفاء معنى التحكم في مضمونه.. وهو ما يعني: إن تلازما يبدو بين الحكم وبين “القضاء” (كـ”فصل” بين طرفين) من جهة.. ومن جهة أخرى، التأكيد على هذا التلازم، عبر ورود صيغة “أحكم بينهم”، بصورة متواترة.
صيغة.. “الحكم بين”
من الجهة الأولى، يمكن ملاحظة التلازم بين الحكم والقضاء.. وذلك كما في قوله سبحانه: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” [النساء: 65].
إذ، وأيا يكن من أمر الخلاف حول أسباب نزول هذه الآية، فإنَّ المسألة التي اجتمع عليها العديد من المفسرين، مثل الرازي، والقرطبي، وابن كثير، ورشيد رضا، كأمثلة: أنّ “القضاء” هو “الحكم”.. خاصة، إذا لاحظنا: ليس، فقط، الترابط الدلالي بين “يُحَكِّمُوكَ” وبين “قَضَيْتَ” في سياق الآية؛ ولكن، أيضا، كيف أنَّ هذه الآية متصلة بالآية التي سبقتها، ما يجعلهما معا، ومع ما قبلهما من آيات، سياقًا متصلًا..
نعني قوله تعالي: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا • فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” [النساء: 64 – 65].
بيد أنَّ الأمر الذي نود التأكيد عليه، هنا، أنَّ التلازم بين القضاء والحكم، لا يعني أنَّ كلًا منهما مرادفًا للآخر، بالمعنى الدقيق لكلمة “مرادف” أو تحديدا لا يعني أن هناك علاقة “مساواة” بينهما.. ولكنه يعني –في نظرنا– أنَّهما عمليتان إنسانيتان متلازمتان فيما يخص مسائل “الفصل” في أي خلاف ينشب بين طرفين.
شروط.. “الحكم بين”
أمَّا من الجهة الأخرى، فيمكن ملاحظة ورود الفعل “أحكم” بصيغة “أحكم بينهم”، وليس بصيغة “أحكمهم”، لانتفاء معنى التحكم في مضمونه، وذلك بصورة متواترة.. بل إنَّ الأمر الجدير بالاهتمام والتأمل –في آن– هو ورود هذه الصيغة في صورة “فعل أمر مشروط”.. وهو ما يعني أنَّ ثمة شروطً ضرورية لتفعيل عملية “التحكيم” بما يتناسب مع وجوب أن يصل “الحكم” إلى مبتغاه، في “الفصل” بين طرفين مختلفين، بصورة صحيحة.
ـ فهناك شرط “الحق”.. كأهم الشروط لـ”الحكم بين”.. كما في قوله سبحانه: “إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ” [ص: 22].. وكما في قوله تعالى: “يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ …” [ص: 26].
وهنا لنا أن نلاحظ أنَّ “الحق” وإن كان شرطا لـ”الحكم بين” في الحالتين التي تحدثت عنهما الآيتان؛ إلا أنَّ هذا الشرط متبوع بشرط آخر، معطوف عليه ومكمل له.. “عدم الشطط” في حالة الخصمين في الآية الأولى و”عدم اتباع الهوى” في حالة الناس في الآية الثانية.. وهذا ما يؤكده ورود “لا” الناهية في “لَا تُشْطِطْ” و “لَا تَتَّبِعْ الْهَوَى”.
ـ وهناك شرطي “العدل” و”القسط” ضمن الشروط الواجب توافرها لـ”الحكم بين”..
ـ بالنسبة إلى شرط “العدل” كما في قوله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” [النساء: 58].
ـ أما بالنسبة إلى شرط “القسط”.. كما في قوله تعالى: “… فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” [المائدة: 42].
وهنا لنا أن نلاحظ أنَّ العدل والقسط، وإن كانا شرطين لـ”الحكم بين” كما جاء في الآيتين؛ إلا أنَّ شرط العدل جاء عند الحديث عن “الحكم بين الناس” وهو شرط ذو دلالة لجهة ما يمكن تسميته بـ”القاعدة” العامة” لـ”الحكم”..
أمَّا القسط فقد جاء شرطا عند الحديث عن “الحكم بين” فئة محددة؛ وهو كذلك شرط ذو دلالة ولكن لجهة ما يمكن تسميته بـ”القاعدة الخاصة” لـ”الحكم” أي عند التصدي للفصل في واقعة محددة، يكون قد سبقها حكم واضح. ويمكن الاستدلال على ذلك، بالآيتين التاليتين لهذه الآية مباشرة..
يقول سبحانه وتعالى: “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ • إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا …” [المائدة: 43 ـ 44].
أيضا، لنا أن نلاحظ أنَّ القسط جاء في الحديث عن اختيار بين حالتين: “فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ” (“أو” حرف عطف للتخيير)؛ لذا، جاء ذكر كل حالة على حدة عبر صيغة “وإن… فـ…”، أي صيغة الشرط وجوابه “وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا” و “وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ”؛ ثم يأتي قوله سبحانه: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”، كجملة مستأنفة لتعليل “الحكم بالقسط”، وليس لتفضيل الحالة الثانية على الأولى..
أما العدل، فقد جاء شرطا عامًا لـ”الحكم بين”، أي جاء في صورة فعل أمر “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ”، واجب النفاذ “أَنْ تَحْكُمُوا” بشكل عام “بَيْنَ النَّاسِ” ومشروط “بِالْعَدْلِ” وذلك في أي ظرف مستقبلي “إِذَا حَكَمْتُمْ”… يتبع