تُمثِّل سيرة المناضل اليساري النبيل “أحمد محمد مصطفى” زادا ومددا لكل من يريد أن يسلك درب المخلصين، ويسير على جادة المجاهدين الأُصَلَاء.. “أحمد محمد مصطفى” هو أحد “الغارمين” الكبار الذين واصلوا المسير؛ ولم تَفُت المحن في عضدهم، ولم يفلتوا المبدأ ولا تراخت أيديهم عنه.. عرف “مصطفى” مبكرا أنَّه موهوب للكفاح؛ وأنَّه ابن هذا العناء الذي يكتوي به الأحرار؛ فلا يزيدهم إلا إصرارا ودأبا.. بعد القبض عليه في صيف 1946، في قضية “قاذفو القنابل” أودع سجن “الحضرة” لمدة أحد عشر شهرا كانت كافية جدا لأن يصبح عضوا في أحد التنظيمات الشيوعية المعروفة اختصارا باسم “نحش” الذي خرج للنور في فترة انقسامات “حدتو” التي أنتجت (28) كيانا في الفترة من خريف 1947 وصيف 1949.. سيتغير الاسم خريف 1949، إلى “نحشم” بعد الاندماج مع كيان شيوعي آخر هو “ع.ث”.
وجد الفتى جواب التعيين ينتظره في المنزل فور خروجه، وكانت الوظيفة مفتش جمارك في بورسعيد، أدرك “أحمد” أنَّ النية اتجهت إلى إبعاده عن الإسكندرية؛ لضرب النشاط النضالي ضد المحتل في المدينة التي بدأت الكفاح المسلح منذ يوم الرابع من مارس 1946. غادر “أحمد” إلى بورسعيد، وهناك فوجئ بارتفاع أسعار السكن، مع تواضع راتبه.. فتركها في أول فرصة سنحت إلى مدينة القنطرة التي كان بها مقرا للجمارك.
ذات مرّة لاحظ “مصطفى” ارتباك أحد المغادرين، وبتفتيشه تبين أنّه فلسطيني يحمل سلاحا لتهريبه إلى موطنه؛ لمقاومة العصابات الصهيونية المسلحة؛ طمأن “مصطفى” الرجل ووعده بمساعدته واتفقا على لقاءٍ تالٍ في الإسكندرية؛ حيث يسهل الحصول على الأسلحة المجلوبة من صحراء العالمين.. حضر الرجل وكان فارسنا قد اتفق مع شخصٍ كان قد اشترى منه رشاشين وخمس طبنجات للهجوم على الإنجليز بعد مارس 1946، أخلف الرجل الموعد ففكر مصطفى بالذهاب إلى مقر الإخوان لسابق معرفة بالمحامي “مختار عبد العليم” كبير الإخوان بالإسكندرية.. لم يكن “مختار” متواجدا بالمقر، كان “حسن البنا” متواجدا، فطلب “مصطفى” مقابلته؛ فتَّشه شابان منهم، فوجدا معه طبنجة، أخبرهم أنّها سلاح شخصي لا يفارقه.. فلم يسمحا له بالدخول على البنا إلا بعد تركها بالخارج.. سأله “البنا” بعد أن سمع منه، لماذا لم تزوده أنت بالسلاح من المصدر الذي حصلت منه على سلاحك، فأخبره “مصطفى” القصة، لم يبد الرجل اقتناعا؛ كان مرتابا في “أحمد” بسبب السلاح الذي كان يحمله؛ اعتقد أنَّ الأمر ربما يكون محاولة اغتيال.. لم يرد الرجل بالسلب ولا بالإيجاب، وانصرف “أحمد مصطفى” مع رفيقه، وفي صباح اليوم التالي فوجئ باستدعاء من رئيس البوليس السياسي وقتها وكان اسمه “رشدي زهران” وسأله عن سبب زيارته لمقر الإخوان المسلمين؛ وطلب منه التركيز في عمله كمفتش جمارك فقط، وأن ينسى أي شيء آخر غير عمله.
أدرك “احمد مصطفى” مبكرا حقيقة الجماعة التي كانت قد أعلنت نفسها المناصر الأول للفلسطينيين، والداعم الأوحد لقضيتهم العادلة.. لكن ذلك كان لأغراض الدعاية وجمع التبرعات، كما كُشف عنه بعد ذلك وتناوله منافسو الإخوان في صحفهم بأدق التفاصيل.
للمرة الثانية يخوض “أحمد مصطفى” تجربة الاعتقال بتهمة جديدة، هي محاولة قلب نظام الحكم الملكي، ويتحرك الجيش في صيف 1952، ويخرج المناضل النبيل من المعتقل؛ مفعما بالأمل في أن تكون حركة الضباط بداية عهد جديد.. اقتربت “حدتو” التي صار “مصطفى” أحد أعضائها من الضباط وظهرت كداعم ومساند للحركة، وظلت على هذا الحال حتى كان لها دور لا ينكر في حرب 1956، التي تطوَّع فيها بطلنا ضمن من تطوعوا في “بورسعيد” واضطرته الظروف ليعود بعد فترة إلى الإسكندرية، ليواصل بها عمله النضالي، إلى أن حدث الصدام بين الرئيس “عبد الناصر” والشيوعيين.. في ديسمبر 1958، ويُعتقل الرجل للمرة الثالثة ليقضي بسجن الواحات نحوٍ من خمس سنوات.. أتقن خلالها اللغة الإنجليزية ووصل لمستوى مترجم عتيد، كما برع في لعبة الشطرنج حتى صار مضرب الأمثال فيها.. ومن اللطيف أنَّ صحبة السجن قد جمعته بالدكتور “عبد العظيم أنيس” الذي كان يدرس الرياضيات البحتة، وبسبب الصداقة القوية التي نمت بين الشابين، أقبل “مصطفى” على دراسة الرياضيات مع صديقه، حتى ملكت عليه عقله وصار فيها من أنجب الدارسين.
بعد الخروج من المعتقل يعود “أحمد مصطفى” إلى عمله في إحدى شركات الورق بالإسكندرية ويواصل النضال، والعمل الأهلي والتطوعي في خدمة أبناء حي الجمرك بالإسكندرية.
في السبعينات كان العم “مصطفى” أحد مؤسسي حزب التجمع؛ يحدوه الأمل في تحقيق وحدة اليسار، وأصبح أمينا للتنظيم بالإسكندرية، وانصب اهتمامه في تلك الفترة على تعليم الأجيال الجديدة أسس وقواعد العمل التنظيمي.. وعقب مظاهرات الخبز والحرية في يناير 1977، أصدر السادات القانون رقم ٢ لسنة ١٩٧٧، الذي اعتبر بمثابة تجريم واضح للعمل السياسي.. في هذه اللحظة الفارقة رأى “أحمد مصطفى” أنَّ القرار السليم هو تجميد الحزب، وكذلك العمل السياسي بين الجماهير، لاستحالة ممارسة العمل من داخل النظام القائم كما فُرضَ آنذاك. لم يلق هذا الرأي الدعم من الهيئة التأسيسية لحزب التجمع، لكن “مصطفى” أصر على رأيه.. وانتهى الأمر –كما هو معلوم– باصطدام السادات بالجميع؛ ليحل المناضل “أحمد مصطفى” مجددا ضيفا على المعتقلات في الحملة الموسعة التي جرت في خريف 1981، ولم يخرج إلا بعد اغتيال السادات.
في الثمانينات اختاره الحزب مرشحا في انتخابات مجلس الشعب “التكميلية” في دائرة حي الجمرك، وقد خاض المناضل معركة سياسية مشرفة تليق به وبأمثاله من المناضلين العظام الذين يعملون في صمت، حبا للوطن وإيمانا بالمبدأ.. وكانت مؤتمراته الانتخابية تعج بالناخبين من البسطاء وأهل حي “الجمرك” الذين يعرفونه جيدا، ولولا تدخل الأمن في العملية الانتخابية؛ لكان لـ”أحمد مصطفى” شأن آخر.
داوم البطل على العمل من خلال حزب التجمع، وكان دائم الحضور في الفعاليات التي يقيمها الحزب، وظل مواظبا على الانخراط في الجوانب التثقيفية لشباب الحزب، والاهتمام بالجانب التكنولوجي على وجه الخصوص، فكان أول من أدخل “اللاب توب” إلى مقر التجمع بالإسكندرية في وقت كانت هذه الأجهزة قليلة جدا ومرتفعة الثمن.. ويذكر أنَّه في احتفاله بعامه التسعين كان منكبا على تعلُّم البرمجة، بعد أن انتهى لتوِّه من ترجمة أحد الكتب.. فور إتمامه كتابة مذكراته التي سترى النور بمشيئة الله في القريب.
ولم يتخلف الرجل عن كافَّة المشاهد الوطنية؛ فكان حاضرا في ثورة يناير2011، واعتبرها بمثابة قبلة حياة لمصر، وحذَّر مبكرا من الإخوان، والدور الذي سيلعبونه –بطمعهم– في إجهاض الثورة.. وكان بين جموع المصريين في 30 يونيه 2013، مؤيدا لإرادة الشعب في رفض حكمهم الذي كانوا قد أعلنوا بتبجحهم المعهود أنَّه سيمتد لخمسمئة عام!.
وفي الخامس من مارس 2016، أقيمت احتفالية في مكتبة الإسكندرية تحت اسم “مذبحة الإسكندرية” حضرها عدد من السياسيين والمهتمين بالشأن العمالي، بينهم الراحل “فتح الله محروس” أحد أبرز القيادات العمالية، و”عبد الرحمن الجوهري” المحامي، و”معتز الشناوي” المسئول الإعلامي لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي وغيرهم، فيما جلس على المنصة أربع قامات رفيعة هم الدكتور “حمزة البسيوني” وإلى جانبه الدكتور “محمد رفيق خليل” نقيب أطباء الإسكندرية، والدكتور “علي الشخيبي” والمناضل الأنبل “أحمد محمد مصطفى” الذي تمَّ تكريمه في هذا اليوم.
وفي صباح الخميس الماضي الموافق 13 يناير، وعن عمر ناهز السادسة والتسعين؛ رحل عن دنيانا المناضل النبيل “أحمد محمد مصطفى” بعد حياة حافلة بالتضحية في سبيل الوطن ورفع المعاناة عن البسطاء، ونشر الفكر المستنير بين أبناء شعبنا العظيم.