رؤى

عدد السكان.. عوامل الضعف والقوة

لعل العزوف الشعبي المُلاحظ، في أكثر من منطقة في العالم –ومنها منطقتنا العربية– عن السياسة والسياسيين، وضعف الثقة الواضح تجاه النُخب التي تمثلهم؛ يؤكد أنَّ الأهم من الحديث الدائر حول الديمقراطية وأهميتها –بل ضرورتها– هو مدى دوران عجلة الاقتصاد، ومدى نجاح الحكومة –أية حكومة– في إدارة الاقتصاد؛ إنَّه النجاح الذي تحدده إجابة عدد من التساؤلات: نسبة التضخم وارتفاع الأسعار، وهل انخفض عدد العاطلين عن العمل، وما هي حال العملة الوطنية أمام العملات الدولية الرئيسة، مثل الدولار واليورو وغيرهما؛ وهي التساؤلات التي تهم، بالدرجة الأولى، الطبقة المتوسطة وما تحتها من فقراء ومعدمين.

إلا أنَّ الملاحظة التي نود أن نسوق –في هذا المجال– تلك التي تتعلق بالحجة الجاهزة التي تتخلل تصريحات معظم مسئولي الحكومات، في بلدان “جنوب العالم” ومنها البلدان العربية.. نعني عدد السكان ومشكلة الموارد.

وفي نظرنا، فإنَّ هذه الحجة تعود –في ما تعود إليه– إلى نظرية عالم الاقتصاد السياسي الأمريكي “توماس مالتوس” حول “مبادئ السكان” تلك التي نشرها قبل ما يزيد على مائتي وعشرين عاما –تحديدا في عام 1798– التي حذَّر فيها من اختلال العلاقة بين السكان والموارد؛ فالسكان –حسب نظريته– يزدادون بمتوالية هندسية (2، 4، 8، …)، والموارد تزداد بمتوالية عددية (2، 4، 6، …)، وهو ما يؤدي إلى الاختلال.

توماس مالتوس
توماس مالتوس

ومنذ ذلك الحين، وإرهاصات التشاؤم في نظرية “مالتوس” ما زالت تتردد بها هواجس القلق، ليس في تصريحات مسئولي الحكومات وحسب؛ بل –أيضا– في كافة المؤتمرات الدولية السكانية، التي عُقِدت خلال العقود الخمسة الماضية. ومنها–على سبيل المثال– مؤتمر القاهرة عام 1994، ومؤتمر مكسيكو عام 1984، ومؤتمر بوخارست عام 1974، وغيرها.

وفي ما يبدو، فإنَّ الانفجار السكاني يقذف بشظاياه التي تتناثر فوق أوراق عمل المؤسسات الدولية، وفوق ملفات الطرح لكافة استراتيجيات المواءمة في مسودة ما أطلق عليه البعض “النظام العالمي الجديد”.

السكان والتنمية والبيئة

وبالرغم من اعترافنا بأنَّ الاكتظاظ، أو الانفجار السكاني هو مشكلة على المجتمع الدولي أن يواجهها، إلا أنَّ الجدير بالإشارة –في هذا المجال– أنَّ الحديث عن القضية السكانية بشكلٍ “إحصائيٍ” مجردٍ، يصرف الذهن في اتجاه العوامل التي تُحكِم حركة التزايد السكاني؛ وهو ما يعني الدفع ناحية تبني منظور تقليص عدد السكان كحلٍ وحيدٍ لهذه القضية، دونما دراسة العلاقة المُعقدة بين جوانب القضية الثلاثة: عدد السكان، التنمية، البيئة.

هنا لا نُغالي إذا قلنا إنَّ المُشاهَد حاليًا، أنَّ الدول المتقدمة تؤكد –بشكل لافت للنظر– على المعنى المُحدد لقضية السكان، أي جانب التزايد السكاني.. بل وتسعى إلى التركيز على العوامل المُؤثرة في التوالد؛ بُغيةَ دفع المجتمع الدولي إلى تبني عدد من الإجراءات التي تتعلق بالحد من الزيادة السكانية؛ وتتبنى –في الوقت نفسه– سياسات الحد من حركة الهجرة من بلدان عالم الجنوب إلى دول الشمال، لإيقاف زحف الفقراء على الأغنياء.

ولا شك أنَّ هذا التركيز، وذلك التوكيد يأتي موازيا، بل تاليا لتلك المقولة الغربية بالأساس التي ترى في النمو السكاني السبب في ما تعانيه البلدان النامية –بما فيها البلدان العربية– من مشكلات وفي مقدمتها التراجع والتعثر الاقتصادي.

الازمة السكانية فى مصر

وإذا كان من المنطقي أنَّ التزايد السكاني السريع يُمثل مشكلة؛ إلا أنَّ الأمر الذي يتجاهله أولئك، الذين يقفون وراء المقولة المُشار إليها، هو التساؤل التالي: متى استطاعت الدول الغربية أن تحقق ما تتصف به –راهنا– من استقرار في نسبة النمو السكاني، وهل كان هذا قبل أو بعد ما حققته من تقدم اقتصادي؟.

وإذا كان التقدم هو فعلا الذي يُهيِّئ المناخ الملائم لحلٍ سليمٍ للمشكلة السكانية، فلماذا يتم دفع البلدان النامية إلى أن تضع العربة قبل الحصان؟. بل إنَّ التساؤل الأهم هو لماذا يتم التركيز على خطر النمو السكاني في البلدان النامية، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل آثار هذا النمو في الدول الصناعية المتقدمة؟.

السكان ومشكلة الإدارة

يكفي هنا أن نشير إلى الملاحظة التي ذكرها “نورمان مايرز” من جامعة أكسفورد، خلال مؤتمر “أكاديميات العلوم العالمية للسكان” قبل ما يزيد على ربع قرن من الزمان نيودلهي 1993، من أنَّ النمو السكاني في بريطانيا البالغ 0.2 %، يُزيد السكان 116 ألف نسمة سنويا، وذلك في مُقابل عدد سكان بنغلاديش الذين ينمون سنويا بنسبة 2.4 %، فتصبح الزيادة 2.7 مليون نسمة. رغم ذلك، فإنَّ استهلاك كل فرد بريطاني من والقود الأحفوري يعادل 80 مرة قدر استهلاك الفرد البنغلاديشي؛ أي أنَّ البريطانيين –والكلام مازال لـ”مايرز”– يُضيفون غازات مُلوثة للجو تزيد ثلاث مرات ونصف عما يُطلقه أهل بنغلاديش.

هذه الملاحظة –ولا شك– تؤكد أنَّ المشكلة أكثر تعقيدا من محاولة حصرها في مجرد قضية تزايد سكاني؛ بل وتؤكد على ضرورة مواجهة المشكلة عبر دراسة التفاعل بين أبعادها المختلفة.. عدد السكان، التنمية، البيئة. فالمسألة إذًن ليست مجرد تزايد سكاني في مواجهة محدودية الموارد؛ بقدر ما هي في القدرة على إيجاد التوازن بين السكان والموارد.

نورمان مايرز
نورمان مايرز

وإذا كان يحلو للبعض القول بضرورة “الحد من زيادة السكان” بينما يحلو للبعض الآخر القول بضرورة زيادة الموارد؛ فإنَّ الصحيح –في نظرنا– هو ضرورة معالجة طرفي المعادلة، بمعنى.. إنَّ عدد السكان لا يمكن أن يكون عيبا في ذاته، لكنَّ المسألة تتعلق بالكيفية التي يُمكن من خلالها حل هذه المشكلة، لنُحوِّل السكان إلى ثروة، بدلا من أن يتحولوا إلى عبء تنوء الحكومات بحمله، كما تدعي.

المسألة إذن أنَّ البشر يمكن أن يصبحوا عبئا على المجتمع في حال عجزت إدارته عن الإفادة منهم، في حين يمكن أن يكونوا ثروة ينهض بها المجتمع إذا استطاعت حكومته استثمار طاقاتهم، بشرط أن يتخلى هذا المجتمع نفسه عن التعامل مع الإنسان على أنَّه مجرد رقم يضاف أو يحذف. وليس في ما نقوله جديدا فإنَّ تأمل الصين والهند كفيل بتأكيد ما نُشير إليه.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock