إذا كان استعمال مصطلح “الحكم” بمعنى “الحكم السياسي” وإسقاط هذا الأخير على مصطلح “الحكم” في التنزيل الحكيم، يمكن أن يؤدي –أو بالأصح هو يؤدي– إلى تغيير في معاني الألفاظ والمصطلحات الواردة في آيات الله البينات؛ بل وإلى تبديلٍ لمقاصد التنزيل الحكيم.
رغم ذلك فإنَّ تساؤلاتٍ تطرح نفسها هنا، وهي تساؤلات مشروعة في إطار المتوالية البحثية التي نقدمها حول “الإسلام والحاكمية” أهمها وماذا إذًن عن الآيات البينات التي ورد فيها صراحة أنَّ “الحكم لله”.. ألا تمثل هذه الآيات “القاعدة العامة” ومن ثم يكون شعار “الحاكمية” شعارا صحيحا من منظور الإسناد الحاصل اعتمادا على هذه الآيات.
الحاكمية.. مقاربة دلالية
في مواجهة هذه التساؤلات يمكن القول –بادئ ذي بدء– إنَّ جميع المؤمنين بالله عامة، والمسلمين خاصَّة، يسلمون –بلا جدال– بأنَّ الحاكمية هي لله سبحانه وتعالى في جميع شئون خلقه وغيبه، وفي ما شرع لعباده من نهج وأحكام. ولكنَّ طرح “المودودي” للمسألة على النحو المشار إليه من قبل، وتحوُّلها على يد تلميذه “سيد قطب” إلى التجريد والتعميم، أدَّى بالتأكيد –لدى تيار بعينه– إلى مُصادرة الدور الإنساني المشروع إلهيا، وإسلاميا، في خلافة الأرض وإعمارها.
نقول: إنَّ هذا الطرح، على ذلك النحو الذي أراد واضعوه اتخاذه شعارا سياسيا، ورفعه من قبل الجماعات التي أطلقت على نفسها صفة “الإسلامية” كان قد جدد اللبس بين مفهومين، بينهما فارق كبير.. نعني اللبس بين مفهوم “الحكم” الإلهي، وبين مفهوم الأمر المتروك للإنسان في تسيير شئونه العامة، وفي مقدمتها الشأن أو الأمر السياسي.
إلا أنَّ المسألة الواجب علينا مواجهتها والتعامل معها من منظور “الدلالة” تلك التي مفادها أليست آيات التنزيل الحكيم ذات كينونة مطلقة؟ أليس النص القرآني كينونة في ذاته.. فكيف إذن، لا تُمثل الآيات المًشار إليها، نعني الآيات [المائدة: 44، 45، 47] أو تحديدا نهاياتها “… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ… وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ”.. كيف لا تُمثل حكما عاما؟.
في نظرنا، فإنَّها تُمثل –بالطبع– قاعدة لـ”الحكم” إذ من النافل القول إنَّ “يَحْكُمْ” كـ “قاعدة” ينتمي إلى المجال الدلالي الذي تحدده مواضع ورود اللفظ في الكتاب كله، أي “المعنى القضائي”.. وبالتالي، فإنَّ “مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ” بالمعنى الدلالي لا بالمعنى الذي تم إسقاطه على المفردة، فأولئك هم: “الْكَافِرُونَ.. الظَّالِمُونَ.. الْفَاسِقُونَ”.
بعبارة أخرى.. إذا فهمنا هذا السياق عبر مفهوم “الحكم” كما ورد في كتاب الله (“الحكم” بالمفهوم القضائي، وليس بالمعنى السياسي) يمكن القول: إنَّ مفهوم الآيات يختص بتحقيق، أو بالأحرى بتطبيق، “أحكام” الشريعة الإلهية في المجال القضائي، تحقيقًا للعدل الشرعي بين الناس؛ ولا يتناول كيفية ممارسة السلطة السياسية، وأساليبها وخياراتها، واختلاف الاجتهادات والمصالح بشأنها (كما يُستفاد من لفظ “يحكم” في استعمالنا المعاصر).
فالمسألة إذن هي مسألة “حكم قضائي” صريح، يتعلق بتحقيق العدل “القانوني” حسب الشرع الإلهي وهو في هذا، ينطبق –قياسا– على المسلمين انطباقه على غيرهم من أهل الكتب السماوية.
وهنا لنا أن نقترب من الآيات التي ورد فيها صراحة اصطلاح “الحكم لله”.
جاء اصطلاح: “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”، في مرات ثلاث..
يقول الله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ” [الأنعام: 57].. ويقول سبحانه: “مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف: 40].. ويقول تعالى: “وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ” (يوسف: 67].
هنا لنا أن نلاحظ إنَّ اصطلاح، “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” جاء في الآيات الثلاث بمثابة القاعدة العامة التي تنفي الحكم عن غير الله، وتحصره به سبحانه وتعالى “إن” أداة نفي و”إلا” أداة حصر، و”الحكم” جاءت معرفة بـ”ال” التعريف).
ولنا في الوقت نفسه أن نلاحظ إنَّ هذه القاعدة العامة جاءت في سياق يتضمن “أمرا” من الله سبحانه وتعالى.. أمر خاص بكل من مواضع “الورود” الثلاثة.. ففي مرتين منها جاء الأمر تاليا للقاعدة، وفي مرة منها، جاء الأمر سابقًا للقاعدة ففي [يوسف: 40] جاء الأمر تاليا للقاعدة “أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ” وفي [يوسف: 67] أيضا، جاء الأمر تاليا للقاعدة “عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ”.. أما في [الأنعام: 57]، فقد جاء الأمر سابقًا للقاعدة “قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي”.
الحاكمية.. مقاربة مفهومية
إضافة إلى اصطلاح: “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” هناك اصطلاح “لَهُ الْحُكْمُ” الذي جاء –كذلك– في مرات ثلاث..
يقول سبحانه وتعالى: “ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ” [الأنعام: 62].. ويقول سبحانه: “وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” [القصص: 70].. ويقول تعالى: “وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” [القصص: 88]..
هنا، لنا أن نلاحظ إنَّ “لَهُ الْحُكْمُ” قد جاءت في سورة القصص، في سياق ارتباطي بين حصر “الألوهية” بالله سبحانه “لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ” من جانب وبين التذكير بالرجوع إليه “وإليه الرجوع” من جانب آخر وبين التأكيد على أنَّ “كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ” وعلى أنَّ: “لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ” من جانب أخير..
بل، وإن هذه الجوانب الثلاثة قد جاءت عبر التأكيد من خلال فواتح الآيتين الأخيرتين، على الوحدانية: “وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ” [القصص: 70]، و: “وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ” [القصص: 88]. وبالتالي، لنا أن نفهم قوله تعالى: “لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” بمعنى إلى موضع حكمه وقضائه وحسابه ترجعون. وهو ما يتأكد عبر الآية الواردة في سورة الأنعام: حيث “الرد” يكون إليه سبحانه “ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ” من حيث كونه تعالى “مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ”، ومن حيث كونه “َهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ”.
ولنا أن ندرك، هنا، أنَّ “أَلَا لَهُ الْحُكْمُ” قد جاءت للتنبيه عبر الحرف “ألا” على السياق الارتباطي بين التأكيد بأنَّه سبحانه “مَوْلَاهُمْ الْحَقِّ” وبين التأكيد بأنَّه تعالى “هُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ”.
وهكذا.. في هذا السياق، يمكن الاطمئنان إلى القول: إنَّ “الحاكمية” وإن كانت مشتقة من مفهوم “الحكم” الوارد في كتاب الله.. فإنَّ من الحكم –في الكتاب– ما هو لله وحده “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” و “لَهُ الْحُكْمُ” ومنه ما هو لأنبيائه ورسله “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ” ثم منه ما هو للقائمين به من بني الإنسان كالقضاة و”الحكام” ومن هم في معناهم “وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”.
وإذا كانت الآيات التي ورد فيها “إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” وكذلك الآيات التي ورد فيها “لَهُ الْحُكْمُ” تمثل مستند “الحاكمية لله” وحده.. فإنَّ الآية الأخيرة “وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ…” تدل من وجه آخر، على أنَّ الله سبحانه وتعالى أوكل قدْرا من “الحاكمية” للإنسان المسئول، ليحقق العدل بشرع الله في هذا العالم، بكل ما يعنيه العدل من توازن وتناسب وتناسق في مراتب الوجود.
وفي هذا السياق أيضا، يمكن الاطمئنان إلى القول إنَّ خطأ الإسناد يحصل أو إنَّ الإشكالية المفهومية تبدأ، عندما يقع المزج والخلط بين ما لله سبحانه وتعالى من حكمٍ متمثل في كتابه الكريم وآياته البينات، وبين ما للإنسان (الجماعة) من دورٍ في التفسير والتقدير والتقرير الاجتهادي بما يحتمل الصواب والخطأ.
ثم لنا، أخيرا، أن نُؤكد إنَّ شعار الحاكمية وإن كان قد ظهر في العصر الحديث على يد “المودودي” و”سيد قطب” إلا أنَّه لم يكن–في حقيقته– إبداعا أصيلا؛ حتى ولو كان خطأ، لأيٍ منهما.
فهذه الحاكمية كـ”شعار” وكـ “مصطلح” وكـ “فكرة” تعود في أصولها إلى صدر الإسلام.. إذ –آنذاك– تبدت الإشكالية نفسها عندما رفع قدماء “الخوارج” مقولة “لا حكم إلا لله” وذلك احتجاجا على تحكيم الحكمين (الأشعري وابن العاص) في الظاهر، ورفضا لسلطة الحَاكِمَيْن” (علي ومعاوية) في الواقع.