رؤى

عبد الرحمن الشهبندر.. اغتيال أمة في رجل

“إنَّ مصر شيبها وشبابها، ورجالها ووزراءها ورجال الحل والعقد فيها والعلماء والكبراء والأدباء والشعراء يتقدمهم النواب والشيوخ… تزحف إلى سرادق مأتم الفقيد، تقدَّم التعازي إلى أسرة “أبي فيصل”، تلك الأسرة التي إذا خلَّف لها “الشهبندر” الثكل واليتم؛ فإنَّه خلّف لها في الوقت نفسه شرفا لا يزول وسمعة لا تطويها الأيام”.

تلك الكلمات سمعها المصريون عبر محطة راديو القاهرة في صباح السابع من يونيو عام 1940، فمن “الشهبندر” الذي تكللت مصر بالسواد حزنا عليه، وكان استشهاده حدثا جللا فزع له العرب في أربعة أركان الأرض؟ من “أبو فيصل” الذي رثاه “العقاد” مطولا.. ثم ختم رثاءه بقوله: “يا للعجائب في هذه الدنيا.. أمَّا إنجاب الرجال الأفذاذ فشيء تفنى به جهود الأمم، وأمَّا القضاء عليهم فشيء يستطيعه شرذمة من الطغاة. سبحانك اللهم لك فيما تريد حكمة. ولعل من حكمة هذا المصاب أن يعرفَ الشرقُ أقدارَ الرجال”.

ضحى يوم الخميس السادس من يونيو 1940، دمشقُ وقد أرهقها القيظ، واستبدَّ بها الضجر؛ فبدت –تحت أشعة شمسها الساطعة– تتململ في كسل.. في شارع “الشعلاني” المكتظ بالمحال التجارية وعيادات الأطباء.. أشهر شوارع حي “الحبوبي” الواقع بمنطقة المهاجرين.. يظهر ثلاثة أشخاص يسيرون بتمهل؛ قاطعين الشارع نحو بناية “الشنواني” التي تضم عددا من عيادات الاطباء؛ لكنَّهم قصدوا واحدة بعينها.. عيادة الدكتور “عبد الرحمن الشهبندر”.. انتظر الرجال لفترة حتى يأتي دور مريضهم في الدخول.. أشير لهم؛ فهرعوا إلى غرفة الكشف، وماهي إلا لحظات حتى سُمِعَ صوت طلقات الرصاص التي استقرت في قلب الطبيب النابه شيخ المجاهدين “أبي فيصل”.. سارع الحاضرون بالقبض على القتلة، وتم التعرُّف على هوياتهم: “أحمد عصاصة” الذي حمل السلاح وأطلق النار، “صالح المعتوق” و”أحمد الطرابيشي” رفيقا المنفذ.. وقد أشارت أصابع الاتهام إلى ثلاثة محرضين هم: “جميل بك مردم”، “سعد الله الجابري”، “لطفي الحفار”، وهم من زعماء الكتلة الوطنية.. بالبحث عن المذكورين وجد أنَّ ثلاثتهم غادروا إلى العراق قبل وقوع الجريمة.. برَّأت جموع الشعب السوري “الجابري” و”الحفار” لما عُرف عنهما من الوطنية والشرف رغم استحكام الخلاف بينهما وبين الشهيد “الشهبندر” لكنَّ أصابع الاتهام ظلت تشير إلى “مردم” الذي كان وثيق الصلة بدوائر الانتداب الفرنسي.

أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية حكمها بالإعدام على المتهمين الثلاثة، وبرَّأت ساحة المتهمين بالتحريض.. تم تنفيذ الحكم في يوم الإثنين الثالث من فبراير1941.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى غادر العثمانيون سورية؛ وتنسم السوريون الذين كانت أشواق الحرية والاستقلال تداعب عقولهم وقلوبهم؛ فكانوا –وإن اختلفت مشاربهم الثقافية والفكرية– على قلب رجل واحد بشأن القضية الوطنية.. في تلك الفترة تشكلت أول حكومة سورية برئاسة “هاشم الأتاسي” التي تولّى فيها “الشهبندر” حقيبة الخارجية.. لكن الوزارة سقطت بإعلان فرض الانتداب الفرنسي على سورية.

محاكمة قتلة الشهبندر
محاكمة قتلة الشهبندر

كان “الشهبندر” على صلة وثيقة بعدد من القامات والزعامات الوطنية منذ تخرجه في الجامعة الأمريكية ببروت1906، على رأسهم “عبد الحميد الزهراوي” الذي أعدم ضمن من أعدموا على يد “جمال باشا السفاح” في السادس من أيار 1916.

 انضم د. “عبد الرحمن” إلى جمعية الاتحاد والترقي في الوقت الذي كانت فيه الجمعية تنتهج معارضة السلطان عبد الحميد.. وفور أن ظهرت نوايا الجمعية في الاتجاه نحو التتريك، رفض “عبد الرحمن” ورفاقه ذلك النهج رفضا تاما؛ إذ كان مؤمنا بفكرة الوحدة العربية واستقلال العرب.. وإن كان يظن أن التحالف مع قوى الحلفاء من الممكن أن يكون سبيلا من سبل تلك الوحدة.

خلال سنوات الحرب الألى تنقل “الشهبندر” بين العراق والهند ومصر.. التي استقر فيها لفترة وعمل بالصحافة.. وفور عودته إلى الشام صيف 1924، انخرط المناضل في صفوف المقاومة، كما أسس حزب “الشعب” وتولَّى رئاسته. وعند انطلاق الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي عام 1925 كان “الشهبندر” في مقدمة الثوار؛ ويذهب كثيرون إلى إنَّه كان العقل المدبر لهذه الثورة.. فقد أهَّلته سماته الشخصية ومؤهلاته العلمية وعمق ثقافته، وصدق إيمانه بمبادئه؛ لأن يكون في المكانة التي تليق به في صفوف الثوار.

الشهبندر
رفاق النضال ضد المحتل الفرنسي أثناء اندلاع ثورة 1925

 واصل “الشهبندر” العمل دون كلل منذ بدايات القرن العشرين – من أجل تثوير وعي الشعب العربي السوري، والعمل على ترسيخ مبادئ القومية العربية ووحدة الأمة كضرورة مُلِحَّة لا تحتمل الإرجاء والتسويف، فلم يترك لذلك سبيلا إلى مضى فيه، ولا بابا إلا طرقه.. “عمل في الطب والسياسة والصحافة والتدريس والترجمة وجمع مقالاته في كتاب نشر بعنوان “القضايا العربية الكبرى” وكان كتاب “مذكرات الشهبندر”، ثاني الكتب التي أصدرها، أي أنَّه أسهم في بلورة المشروع النهضوي التنويري.. كما تميّز بسياسته وأفكاره البعيدة عن العائلية والعشائرية والطائفية، وأسهم في خلق جو وطني واضح المعالم، ودافع عن المرأة لنيل حقوقها” .

رفض الدكتور عبد الرحمن الخطيب، ما عُرف بالمعاهدة الفرنسية السورية، ورأى أنَّها لا تنهي احتلال ولا تمنح استقلالا؛ فهي إذن حالة بينية من الممكن أن تُسمَّى “احتقلالا”!. ولقد جرَّ عليه هذا الرفض عداوة كثيرين ممن كانوا يرون في تلك المعاهدة، أفضل المتاح.. غاضين الطرف عن النوايا الفرنسية الواضحة في استمرار الانتداب مسيطرا على مقدرات الوطن السوري.

لم يخف الرجل عداوته لحزب الكتلة الوطنية الذي رأى في نهجه سبيلا لتفريق كلمة الأمة والحيلولة دون اجتماع شملها والأخذ بأسباب الخلاص من عدوها.. لم يكتف بذلك بل دعا السوريين الأحرار المخلصين إلى نبذ هذا الحزب، وكشف ممارساته غير النزيهة في ظروف يحتاج فيها الوطن السوري إلى كل جهد مخلص؛ لذلك شدد “الشهبندر” في خطابه الذي ألقاه في حفل أقيم لتكريمه–على نبذ الخلافات والغايات الشخصية، وتعظيم القواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد “لإنقاذ هذا الوطن من الوهدة الموجود فيها”.

أثار هذا الخطاب حفيظة زعماء حزب الكتلة الذين سماهم بأسمائهم، فكان ما كان من أمر التآمر على التخلص من الرجل؛ لتخلو لهم الساحة السياسية السورية؛ يمارسون فيها ألاعيبهم القذرة كيفما شاءوا.

باستشهاد الدكتور “عبد الرحمن الشهبندر” تكون أربعون عاما من الجهاد المتواصل قد انقضت، أربعون عاما قضاها بين النفي والسجن والتعذيب والتشريد في سبيل حرية الوطن السوري، ووحدة الأمة العربية.

“لقد كان “الشهبندر” تاريخا صادقا لهذا الوطن بمعلوماته وتجاربه واختباراته ومشاهداته، وكان ينبوعا صافيا للثقافة العالية والعلم الغزير، ومرجعا أمينا للإنسانية يخفف من حدتها وشدتها، ونورا يهدي الأمة إلى الطريق القويم، فهل في الدنيا أكثر إجراما من التي تآمرت على قتله؟ وهل تنفع الوطنية الصادقة، والعلم الصحيح، والتجرد لخدمة الصالح العام في وطن يحمل على أرضه قليلا أو كثيرا من هذه الضمائر التي تدفن ثروة الوطن بيديها؟!”.

في الرابع والعشرين من يناير 2010، أدلى “عبد الكريم النحلاوي” قائد ومنفذ الانقلاب على دولة الوحدة المصرية السورية، عام 1961، بشهادته على العصر وجاء فيها”… أحب السوريون الرئيس جمال عبد الناصر إلى حد القداسة بكل الاحترام والتبجيل، وعوَّلوا عليه في تحقيق الوحدة العربية والنصر على “إسرائيل”… وكان ذلك واقعا لحقيقة شعور كل مواطن سوري عسكريا كان أم مدنيا.. حتى أنه عندما كان يأتي إلى قصر الضيافة، كان السوريون ينامون لثلاث ليال متتالية في ساحة القصر انتظارا لرؤية الزعيم، وتحينا للحظة خروجه للشرفة ليلقي خطابه.. حتى عندما ذهب إلى حمص في الشمال؛ حمل السوريون سيارته ورفعوها عن الأرض.. وعندما حضر “عبد الناصر” عيد الجلاء في السابع عشر من أبريل 1960، كنت في المنصة الرئيسية مسئولا عن الأمن، وعندما انتهى العرض وكانت المسافة قصيرة بين مكان العرض بطريق بيروت وقصر الضيافة.. أقسم أنَّ الجماهير كانت تداس بين العربيات، وتُهرس من أجل النظر لعبد الناصر والاقتراب منه، حتَّى أنَّه في الطابق السفلي من قصر الضيافة اُسْتُدْعِيَ بعض الأطباء من المستشفى مع الأدوية اللازمة من أجل إنعاش من يُغمى عليه…”.

لم تكن تلك المشاعر التي خصَّ بها الشعب السوري زعيم الوحدة، وليدة يوم وليلة؛ بل كانت غراسا يانعا ونبتا طيبا لمشوار نضال ومسيرة عطاء الشهيد “عبد الرحمن الشهبندر” أحد رجال أمتنا العربية العظماء والذي لا يعرفه سوى القليلين منا.

بطاقة تعريف

ولد الدكتور “عبد الرحمن الشهبندر” في السادس من تشرين الثاني نوفمبر عام 1879، وهو ابن “صالح الشهبندر”.. تلقى علومه بدمشق وبيروت، وتزوج عام 1910 من “سارة العظم”،

درس “عبد الرحمن الشهبندر” الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت ليتخرّج فيها عام 1906.

تولى الشهبندر رئاسة تحرير جريدة “الكوكب” في مصر ثم تركها بعد أن تبيّنت له تبعيّتها للسياسة الإنكليزيّة، ونشر كتاباته في صحف أخرى و ساند ثورة الشريف حسين ضد العثمانيّين.

أسس حزب “الشعب” وقاد الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي.

اغتيل في عيادته بقلب دمشق في السادس من يونيو 1940.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock