هل أصبح المجتمع المصري أشد قسوة وأقل قدرة على إدارة حوار هادئ؟
أم أن هناك أطراف خفية تعمل على إشعال حرائق في معارك وهمية، باسم الوطنية حينا وباسم الأخلاق والآداب العامة أحيانا، وباسم الدين في أغلب الأحيان؟
نطرح هذا السؤال، وكلنا أمل أن تكون معركة فيلم “أصحاب ولا أعز” –المبالغ فيها– قد هدأت وعاد كل منا إلى مكانه، مستقرا خالي البال يفكر في أمور أخرى، ويبحث على “ترند “جديد.
الفيلم الأزمة أو أزمة الفيلم التي كشفت عن واقع يحتاج إلى مزيد من التأمل والدراسة، ويطرح مجددا السؤال القديم/الجديد عن ماهية الفن ودوره وحدود خياله وضوابط رقابة المجتمع عليه؟
بل يطرح سؤالا أكثر إلحاحا، ويحتاج منا التحلي بالشجاعة والصدق وهو.. هل ما تظهره الدراما بكل أنواعها أشد قسوة من واقعنا أم أن الواقع أكثر قسوة بمراحل مما يقدمه صناع الفنون على شاشاتنا؟
ألا نتابع جميعا طبيعة الجرائم التي إن تناولتها الدراما؛ لانتفضنا جميعا واتهمنا صناعها بالمبالغة والقسوة .. الفن ليس دوره نقل الواقع كما هو بل دوره طرح الأسئلة والاقتراب من المناطق غير المطرقة وإلا تحوَّل إلى مجرد تسجيل لحياتنا التي صارت أكثر قسوة.. أكثر عنفا.
ملاحظات أولية
في البداية يجب أن نسجل مجموعة ملاحظات حول الفيلم الذى أثار جدلا واسعا.. من بين تلك الملاحظات أننا أمام عمل فنى في مجمله متوسط المستوى من حيث التكنيك الفني الذى لم يبهرنا ولم يقدم مستوى مغاير ومدهش للصورة بل على العكس كانت عيوب التجربة الأولى لمخرجه “وسام سميرة” واضحة؛ خاصّة في بناء المشاهد ونقل الكاميرا.. كما بدا البناء الدرامي لشخصيات العمل مبتورا في معظمه يخلو من العمق، ويبتعد عن التشريح الإنساني والمجتمعي.. وكان واضحا أن السيناريو يستهدف رسالة محددة يسعى لتقديمها أولا وأخيرا وتتركز في كشف عوراتنا –ربما لم يقصد الإنسان العربي تحديدا– وتناقضات الشخصية الإنسانية التي تمارس كل أشكال الفصام والتناقض النفسي والبنيوي.
أما عن المميز في العمل؛ فكان أداء بعض الممثلين الذى تفوقوا ونجحوا في تقديم شخصيات تغلّبت على سيناريو مُعلّب وحوار مرتبك كتبه “محمد حفظي”.. وربما يرجع ذلك لأن الكاتب حاول ترجمة العمل الأصلي ولم يسع لتعربيه.
وجاء أداء “منى زكى” ليؤكد أنها بلغت درجة من النضج في سنواتها الأخيرة؛ ظهرت بوضوح في مسلسل “لعبة نيوتن” كذلك قدَّم الممثل اللبناني “جورج خباز” أداءً صادقا ومتميزا.
جاء الفيلم الذي أنتجته شركة “نيتفلكس” العالمية، ذات الانحيازات الفكرية التي تتبنى ثقافة العولمة، وما بعد الحداثة كأحد أدوات الرأسمالية العالمية في فرض النفوذ الثقافي والمعنوي على شعوب العالم.
عن مناطق الجدل
وفى محاولةٍ للاقتراب من مناطق الجدل التي صاحبت العمل، والتي كان من أهمها اتهامات من قطاعات مجتمعية ونواب بالبرلمان وشخصيات أخرى، بأن الفيلم يخالف الآداب العامة، ويشجع المثلية الجنسية –بسبب ظهور شاب مثلى– أشار البعض إلى أن أبطال العمل لم يرفضوا “المثلي” لطبيعته تلك أو ينفروا منه.. وعلينا أولا أن نتذكر أن هذا الفيلم ليس الأول في تاريخ السينما المصرية الذى يقدّم شخصية “المثلي” فقد قدمه الراحل الكبير “يوسف شعبان” في فيلم “حمام الملاطيلى” للمخرج الكبير صلاح أبو سيف عام 1973، وقدَّمه الفنان المبدع “خالد الصاوي” فى فيلم “عمارة يعقوبيان ” للمخرج “مروان حامد ” عام 2006، كما قدمت السينما المصرية عام 2013، أول عمل فنى مصري بطله شاب “مثلى” وهو فيلم “أسرار عائلية ” للمخرج “هاني فوزي” الذي خاض بسببه صراعا كبيرا مع الرقابة على المصنفات الفنية بسبب قصة الفيلم التي ناقش من خلالها قضية المثلية الجنسية.. وكان المخرج أحمد عواض رئيس الرقابة آنذاك؛ قد طلب من صناع الفيلم حذف (13) مشهدا، ثم أجيز العمل بعد حذف مشهدين فقط.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد؛ فقد قدمت السينما عشرات النماذج للمثلية الجنسية لدى النساء في أعمال مثل “بوابة إبليس” حين قدمتها الفنانة “سناء يونس” وفيلم “حين ميسرة” حين قدّمتها “غادة عبد الرازق”.. أما عن الانحلال الأخلاقي والخيانة الزوجية؛ فقد قدمت السينما مئات الأعمال التي تتناول تلك الانحرافات، وتعددت مستويات المعالجة لها بين التلميح مثل ثلاثية “نجيب محفوظ” “قصر الشوق و”السكرية” و”بين القصرين” وبين التصريح والمباشرة واستخدام مشاهد جريئة كما جاء في “عفوا أيها القانون” على سبيل المثال.
نظرية محفوظ عجب
في عام 1966، قدم المخرج “صلاح أبو سيف” رائعته “القاهرة 30” عن قصة “نجيب محفوظ” ولم يتهم جمهور السينما “حمدي أحمد” الذى جسّد شخصية “محجوب عبد الدايم” بأنه “ديوث” يسمح لـ “قاسم بك” بمعاشرة زوجته “إحسان شحاته”.. ولم يُتهم حينها صنّاع العمل بالخروج على تقاليد المجتمع الذى لم يكن بالقسوة والتفسخ الأخلاقي والترويج للفسق والفجور.. إلى آخره من الاتهامات الجاهزة في عالم “السوشيال ميديا” الذى نعاني منه الآن.
كما يجب علينا محاكمة الراحل “محمود عبد العزيز ” الذي قدم شخصية قواد يدعى “صالح” في فيلم “درب الهوى” عام 1983، للمخرج حسام الدين مصطفى؟
إذن لما تلك الثورة على هذا العمل تحديدا على الرغم أنه يخلو تماما من أي مشاهد مثيرة أو عارية؛ بل إنه يخلو من قبلة بين أبطاله؟
وجه جميع منتقدي الفيلم سهامهم السامة نحو الفنانة “منى زكى” وهى الممثلة المصرية الوحيدة المشاركة في العمل حيث يحمل “إياد نصار” الجنسية الأردنية رغم عمله في مصر.. وهذا أحد أسباب استهداف “منى” وتناول البعض بالنقد الشديد لمشهد خلع السروال الداخلي الذي لم يستغرق سوى بضع ثوان. في حين تجاهلوا مثلا موقفها الحاسم والقوى وهى ترفض زوجها المتهم بالمثلية الجنسية!
جاء هجوم بعض المحافظين على “منى” من منطلق غضبهم من انهيار شعار ومنهج “السينما النظيفة” التي كانت ومازالت “منى زكى” إحدى رموزه المحببة للأسرة المصرية، وبالطبع هذا التفسير لا ينطبق سوى على النقد “النبيل” الذي اعرب اصحابه عن حزنهم، ولم يتطور إلى محاولة هدم جدار الفن على أصحابه والفن المصري تحديدا الذى برغم ما يعانيه من أزمات ومشكلات عديدة يبقى أحد مصادر نفوذنا المعنوي ورصيدنا الحضاري الذى تكوَّن خلال مئتين عام على الأقل.
كما أن هناك جانب من الذين هاجموا العمل أراد من خلال هجومه الحاد والعنيف –خاصّة على “منى زكى”– أن يتطهر من ذنوبه، ويتقرب إلى الله عبر جهاد “السوشيال ميديا” – ومن المؤكد أن عددا كبيرا منهم لم يشاهد الفيلم واكتفى بمشاهدة لقطات سريعة توضح وفقا لما وصفوه “السقوط الأخلاقي” للعمل وصناعه.
أما القطاع الأكبر والأخطر، فكان ذلك الجيش الذى يعلو صوته مع كل أزمة فنية يكون المبدعون المصريون طرفا فيها سواء في السينما أو غيرها من الفنون.. فيندفع طوفان لا تعرف مصدره ولا تدرك مداه لتشويه كل شيء والتشكيك في كل فنان.. ويبدو الأمر كأنه عملية ترهيب مُمنهج وتخويف متعمد؛ لكى يلزم كل فنان مخدعه لا يقاوم ولا يجاهر برفض الهجوم؛ ليتحول الأمر في النهاية إلى حالة متواصلة من الإرهاب الفكري. حدث ذلك لمجرد أن أعلنت “إلهام شاهين” عن رغبتها في تقديم نص الكاتب الفرنسي “جان بول سارتر” الذى يحمل عنوان “المومس الفاضلة “. تعرضت الفنانة المصرية لهجوم قاسٍ وعنيف، وصل إلى أروقة البرلمان وتهديدات باللجوء للقضاء؛ لأن هذا النص يتنافى مع الآداب العامة، وهو نفس النص الذي كانت قد قدمته سيدة المسرح المصري “سميحة ايوب” في ستينيات القرن العشرين!
في ظني أن الأمر لا يتعلق بفيلم “أصحاب ولا أعز ” بشكل مباشر على الرغم من أنه أحدث الأزمات، لكنها لن تكون الأخيرة ..
الأزمة قد تكون في طبيعة التلقي وقد تكون في دوافع خفية غير واضحة على الدولة –وزارة الثقافة- وصنّاع الفن البحث والسعي للوقوف بدقة على كل تفاصيل هذه الحالة المثيرة للقلق.
