ثقافة

جماليات التلفيق السردي في رواية “أورفيوس المنسي” لليمني علوان مهدي الجيلاني

أصوات:

صدر في القاهرة أواخر نوفمبر 2021، عن دار “عناوين بوكس” رواية “أورفيوس المنسي” للشاعر والروائي اليمني “علوان مهدي الجيلاني” وقد تناول العمل الضخم الذي يقع في 574)) صفحة من القطع الكبير، حياة الموسيقار السوداني اليمني “ناجي القدسي” (2014-1944) وصعوده الفني المدوي، ثم محنته وما لحق به من ظلم شديد، كذلك انتقالاته من السودان إلى السعودية والعراق وأخيرا اليمن التي شهدت ذروة مأساته.. ويستعرض الناقد “سعيد محمود” في هذا المقال بعض جوانب تميز الرواية مع مقدمة “مطوَّلة” عن هذه النوعية من الروايات المعروفة بالرواية “السيرية”.

–––––––––––

تتحدد قيمة الرواية السيرية سواء كانت ذاتية أو غيرية، من الناحية الموضوعية بقيمة المضمون، والتفاصيل التي ترد فيها، إضافة الى عنصر المكاشفة والجرأة، ومدى إقدام الكاتب على تسجيل التجارب الخاصة؛ التي يهرب منها الكاتب في العالم العربي غالب الأحيان، فنيا فإن الرواية السيرية لا تختلف في معظم الأوقات عن شروط الرواية بشكل عام، فكونها سيرية لا يعفيها من كونها رواية ناجحة؛ من حيث المعايير الفنية والجمالية. وكثيرا ما يلجأ الكتّاب حتى في الغرب إلى كتابة الرواية السيرية، فرارا من كتابة السيرة الذاتية بما هي تأريخ وقائعي؛ لأن الرواية فن يقدم نفسه من خلال الخيال السردي؛ ولا يحاسب صاحبه بخصوص مدى واقعية الأحداث.

ورغم أن بعض النقاد يرون أن الرواية السيرية صنف أدبي مستقل عن الرواية، يتقاطع معها في بعض جوانبها، كما يتقاطع مع فنون كتابية مختلفة؛ مثل المقالة والتحليل النقدي، والتوثيق البيوغرافي في جوانب أخرى. فإنه لا محيص من القول إن كاتب الرواية السيرية يلجأ إلى الاختيار والانتقاء، بمعنى أنه ليس مطلوبا من الرواية السيرية أن تتمتع بصدق موضوعي، إذ هي عمل فني محض، لذلك ترى الكاتب يختار حادثة ويهمل أخرى، وهو بهذه الانتقائية يفارق الاشتغال التوثيقي؛ كما يفارق ما نسميه فن الاعتراف في حالة أن كانت الراوية سيرية ذاتية.

 إن حادثة ما يعاد سردها، غالبا ما تسجل في ذهن أو ذاكرة الكاتب كما هي، ولا يمكن أن يستعيد كافة الانفعالات والهوامش والتأثيرات التي رافقت تلك الحادثة، لذلك تتدخل المخيلة في إعادة البناء. كما تتدخل اللغة الواصفة في تلوين المشهد وتجميل جنباته.

الموسيقار ناجي القدسي
الموسيقار ناجي القدسي

من هذا المقترب سأحاول قراءة رواية “أورفيوس المنسي” للكاتب اليمني “علوان مهدي الجيلاني” الصادرة عن دار عناوين بوكس في القاهرة نهاية العام الماضي 2021م، وهي رواية كبيرة الحجم، تنبني تقنياتها السردية كمدونة بين دفتي كتاب على إيهام فني واسع، يقدم شخصية واقعية هي شخصية الموسيقار “ناجي القدسي” ويشتبك بسيرته الذاتية إلى حد التماهي بها، لكنه في نفس الوقت يبني متخيلا سرديا، يتكئ على لغة تتوسل بالضمائر، ووصف الأمكنة والأزمنة عبر إعادة بنائها وتكييفها، ومن ثم إعادة “مَوضَعَتِها” في مشاهد استرجاعية واستشرافية.

كما في هذا المقتبس الذي يصور لحظة تلقي بطل الرواية عند عودته إلى الخرطوم خبر موت المزمل حامد، صديقه ورفيق لحظات إبداعه الفارقة، وكان قد انقطع عنه عدة سنوات منسيا في اليمن.

“لم أسأل عن سبب وفاته، ولا تذكرت واجب أن أعزي مضيفي، أو أسمع عزائي منه، فقدت صلتي بأي شيء حولي، خرجت أجرجر رجلي، ليس إلا جملة واحدة  يهمس بها لساني:

-مزمل حامد مات.. مزمل حامد مات.. مزمل حامد مات.

قادتني الخُطا حتى حاذيت البيت الكبير (بيت المزمل) ذكريات الزمن القديم تتوالى كشريط سينمائي يعرض أمام عيني، أنا ومزمل تحت شجرة المانجو، أنا ومزمل في الصالون، في العريش نختلي من أجل لحن جديد، مزمل أول من سيسمعه مني، تقدمت بي الخُطا إلى رملة الشاطئ على النيل، لم أهتم بما طرأ على المكان، أو ما لم يطرأ، لم أر النيل ولا رملته الحبيبة في تلك اللحظة، كنت أرى ذكرياتي وجلساتي مع المزمل قبل عشرين سنة، فوجئت أن المزمل قد سبقني، كان يجلس على الشاطئ وقد خلع ملابسه، كان يجلس بالمايوه، بجواره عدة السهر من أكل وشراب وسجائر ملفوفة:

-أهلا يا ناجي.

قالها، وهو يشعل لي سيجارة، بعدها أشعل لنفسه أخرى:

-شنو يا ناجي.. داير تسمعنا لحن من ألحانك؟ الجو الليلة مناسب جدا جدا.. أقوليك: اشرب هذا الكأس.. وخذ لك غطسة.. وبعدها سيجارة ثانية، ومن ثم نسمع منك.

لم أجبه، اكتفيت بتأمله، ثم أخذت العود، وبدأت أدندن (حمام الوادي يا راحل)، غنيتها كما لم أغنها من قبل، كنت أغنيها وأنا أنظر إلى صديقي، الذي تألق حتى تحول إلى نور يصعد في الفضاء، حين أنهيتها قال المزمل:

-أول مرة تغنيها يا ناجي بالشكل دا.. بعدين انته الليلة زي ما تكون تغنيها لي.

لم أجبه وبدأت أعزف.

-(أحلى منك قايله بلقا)، كنت أحور الكلمات أحيل الخطاب فيها للمذكر، أيقن مزمل أني أعنيه، زاده ذلك تألقاً وشفافية ونورانية.. حين أنهيتها.. قال ضاحكاً:

-الحاصل شنو يا ناجي..

-…………………………

-طيب.. خذ الكاس دا.. والسيجارة دي.

علوان مهدي الجيلاني
علوان مهدي الجيلاني

حسوت الكأس مصحوباً بأنفاس عميقة من السيجارة، احتضنت العود بحنان فائق وقد تلبستني حالة من الجذب، صدحت بصوت متهدج خيل لي أن المدينة كلها تسمعه، حجب الدمع المقيم في عيني وجه صديقي وأنا أشهق:

 حلو قيدي أنا المشبوك.

يا يا شيخي يا ود تكتوك

سال الدمع ورمشت، لم يعد صديقي المزمل حامد هو الجالس بجواري على رملة الشاطئ، كان الجالس شيخاً مجللاً بهالة من نور، يلبس ملابس خضراء مهيبة، استمع إلى الأغنية بوقار، تنفرج شفتاه عن ابتسامة بهية توحي بالحكمة واليقين، واصلت صداحي المتهدج، الذي تحول إلى استغاثات مقتولة، حين أنهيت الأغنية استدناني، دنوت حتى شممت رائحته الزكية، ضمني إليه، ثم مسح بيمناه على وجهي وصدري، شعرت بخدر ناعم يسري في أوصالي وغبت عن الدنيا.. لم أصح إلا بعد أن سلطت الشمس عليّ أضوائها، فتحت عيني ورحت أتذكر ما حدث، بدا لي  كأنه حلم مر بي.. تمتمت لنفسي:

-الله يرحمك يا مزمل”

من هذا المنطلق أفترض أن في هذه الرواية السيرية كمًّا من التلفيق في سرد الحوادث المفترض أنها حدثت، لكنه تلفيق جميل بدونه لا يكتسب العمل الفني روعته، الاتكاء على هذه التقنية وشبيهاتها، ينعكس على المعمار الفني وبناء الدلالات وآفاقها.

هذا المنحى سيتأكد باستعمال تقنية أخرى في السرد، فهو لا يتجه متجه السيرة الذاتية التي تتوسل بضمير المتكلم الحميم، الموحي بالأسرار والرغبة في كشفها؛ بل هو على العكس من ذلك يتمترس في أكثر  تقنيات الرواية نفاذا، حيث يتحرر في أوقات كثيرة من استعمال ضمير المتكلم؛ ليتكئ على ضميري المخاطب والغائب، وهو بهذا يحرر السرد من افتراضية التلفيق، وينقله إلى مضمار التخييل المقنع..  صحيح أن الرواية تعتمد على مقاصد مهمة في حياة بطلها الموسيقار “ناجي القدسي” وصحيح أيضاً أن الكاتب كان حريصا، وهو يحول حياة الموسيقار إلى عمل روائي على وضوح تلك المقاصد، إلا أنه نجح في الجمع بين التخييل الواسع، والحفاظ في الوقت نفسه على وضوح حياة البطل، والفترة الزمنية التي عاشها بتأثيراتها المختلفة التي مر بها. وهذا يجعلنا نشعر أن ما نقرأه ليس مجرد أحداث تتابع؛ بل منظومة من التقنيات تعمل على حضن العناصر الفنية؛ من زمان ومكان وشخصيات وأحداث وشكل فني، بالإضافة الى رؤية الكاتب في هذا العمل. إنها عناصر تضافرت لتشييد عمل روائي، يبدو في مجمله تركيبة معقدة من خيال الكاتب، وحياة بطل العمل، وتشابكات المؤثرات الأخرى، المتمثلة في الأمكنة والأزمنة والشخوص والأحداث؛ التي تشكل عالماً مكتمل الأرجاء في كل تفاصيله الكبيرة والصغيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock