نقلا عن موقع المشهد.. لقراءة المصدر الأصلي أضغط هنا
لا توجد قطعة في الشطرنج مثيلة له.. اسمه الحصان ولقبه أمير الدهاء، والرشوة مهنته.. يقدم هدايا مجانية للخصوم على طبق من الطمع، داخل علبة قطيفة قرمزية اللون، بمجرد أن يفتحها الخصم يخرج شبح يمتطي الحصان، شاهرا سيفه.. والباقي أنتم “عارفينه”.
الشبح يجول ويصول على رقعة الشطرنج، بالقفز فوق كل الأحجار.. هو اللص الشريف، تجده ببشرة سوداء أو بيضاء، يقيم الفخ بدهاء.. ولا يشفع لهذا اللص دفاعه المجيد والمستميت عن ولي نعمته الملك، فالتضحية بحياته من واجباته.
على رقعة السلطة، يقفز حصان “السياسة” أعلى من حصان الشطرنج، قفزة إلى القصر الرئاسي مباشرة، إما بالانتخابات وإما بالانقلابات.
الانتخابات تجرى على الهواء مباشرة، أما الانقلابات فتجري في تكتم وسرية.. في الانتخابات لا يستطيع حزب أو تيار سياسي القفز على السلطة في “يوم وليلة” بينما يستطيع الجيش القفز على السلطة خلال 24 ساعة باعتباره “اللص الشريف” الذي “يسرق السلطة” من أجل ملايين البسطاء.
بعد الاتفاق السياسي الذي عقده “البرهان” مع “عبدالله حمدوك” والذي خرج بمقتضاه الأخير من “الحجز” إلى رئاسة الوزراء، التقى الرجلان يوم 17 ديسمبر الماضي، عقب الانتهاء من صلاة الجمعة، داخل منزل خاص برجل أعمال سوداني مشهور ومقرب من دوائر السلطة في الإمارات.. وعلى دعوة الصداقة وأكواب الشاي، دار الحوار الأخير بين الرجلين، داخل صالون “أوبيسون” حفظ للحوار رونقه، ودار على إيقاع المكاشفة التي تميز بها “حمدوك” واحترمها “البرهان”.
بدا اللقاء الذي جرى بين الرئيسين وكأنه صراع بين “حصاني سياسة” حول مربع السلطة.. “البرهان” وأعضاء المجلس العسكري يسيطرون عليه ويسددون ثمن ذلك، مرة بالذهاب إلى “عنتيبي” وترضية رئيس الوزراء الإسرائيلي بالموافقة على تطبيع العلاقات، ومرة بالابتزاز الأمريكي، بواسطة الكونجرس ذاته الذي يهدد “البرهان” ورفاقه بتشريع قانون يسمح للأمريكان بفرض عقوبات على الأشخاص الذين يصفهم بالذين “يعرقلون التحول الديمقراطي” .. و”حمدوك” يفكر في الحركة التي يتعين عليه اتخاذها، ليدخل بتيار الحرية والتغيير إلى هذا “المربع” الاستراتيجي.
كان “حمدوك” مثل أبطال الروايات التراجيدية، وبلغة الشطرنج لم يكن أمامه سوى “النقلة الأخيرة” التي قد تحدث المفاجأة الكاملة على رقعة السياسة في السودان.
“الضغط” يصلح عنوانا للقاء.. عاصفة من الابتزازات الإقليمية والدولية، سيول من الغضب والخوف والجوع في الشارع، أزمة ثقة بين النخب السياسية والعسكرية، أجواء مسمومة بالتخوين واتهامات بـ”بيع” الثورة.. وفوق كل ذلك يدور داخل النخبة السياسية صراع حول سلطة اتخاذ القرار، ولمن تؤول داخل التيار المدني الواسع ذو “الملامح الإسلامية” كما يصفه الدكتور “عبد الله البطحاني” أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم.
بعد الانتهاء من فنجان الشاي، تأكد “حمدوك” بشكل قاطع أن الجيش لن يترك “مربع السلطة” .. وهو (أي حمدوك) لن يكون “الحصان” الذي يضحي بحياته السياسية (وربما الشخصية) من أجل الملك، فقرر أن تكون النقلة الأخيرة له تقديم استقالته على الهواء؛ لعجزه عن استعادة “العافية” الوطنية للسودان بسبب الجيش القابض على سلطة لا تسمن ولا تغني من جوع ملايين الفقراء والبسطاء، وبسبب النخبة السياسية التي تكرر أخطاءها التاريخية، ما ينذر بعواقب وخيمة كما قال وأعلن.
قد يكون “حمدوك” مصيبا في نقلته الأخيرة، على الأقل في نظر اللاعبين الأمريكي والإسرائيلي، باعتبار أن الاستقالة تساهم في تعرية المجلس العسكري أمام القطاع المدني العريض الذي يطالب الجيش بتسليم السلطة، ما يجعل البرهان وحيدا أمام الابتزاز الأمريكي.. وقد تكون النقلة الأخيرة لـ”حمدوك” على خطأ في نظر اللاعبين الإقليميين على الأقل، لأن “المشرحة لا ينقصها قتلى” والأزمات الكبرى المزعجة لم تترك مكانا على الخريطة العربية.. وقد تكون نقلة حصان “حمدوك” بتعبير ووصف الراحل الكبير الأستاذ هيكل “قفزة إلى الظلام” في نظر النخبة السياسية على الأقل باعتبارها “نقلة” تحدث فراغا يربك المشهد كله.
عموما، سيناريو الأحداث لم يصل إلى مشهد النهاية بعد، أو الـ “الإند جيم” بلغة الشطرنج، فالشارع السوداني يمكنه القفز فوق الجميع وتحقيق المفاجأة الاستراتيجية والاستيلاء على “مربع السلطة” والتهديد بـ “كش ملك” المميتة، كما حدث من قبل في عهود العسكريين الثلاثة (عبود ـ النميري ـ البشير) والتي استقطعت من عمر السودانيين؛ اثنتين وخمسين عاما من زمن الاستقلال، وتركت للتيار المدني كله اثني عشرعاما فقط منذ أول حكومة مدنية منتخبة بعد الاستقلال العام 1956 بقيادة إسماعيل الأزهري
على أية حال، فإن سيناريوهات النهاية قد تبدأ بإعلان الجيش العودة إلى ثكناته، لكنها لن تنتهي عند تسليم السلطة إلى المدنيين، فسرعان ما يدور الزمان وينقض الجيش على الحكومة المدنية المنتخبة؛ ليخرج بعدها الشعب السوداني ثائرا محتجا، لتنقض النخبة هي الأخرى على مكتسبات الثورة، وتخوض فيما بينها صراعا عبثيا حول غنائم السلطة، وتقتسمها تحت قبة البرلمان، ليخرج الجيش من ثكناته، ثم يعود المدنيون، ويخرج الجيش مجددا.. هكذا دورة الحياة السياسية في السودان، تدور على قعقعة السلاح وهتافات الحرية.
في الشطرنج تتشابه البدايات، وتختلف النهايات حتما، وفي الخرطوم تتشابه البدايات، ولا تختلف النهايات، وبين البداية والنهاية ينتفض الشعب بـ”كش جيش ” وينقلب الأخير بـ”كش انتخابات”.