بقلم: حسين عبد الغني، نقلًا عن موقع صحيفة عمان، لقراءة المصدر الأصلي: أضغط هُنا
قد يكون العنوان الرئيسي لهذا المقال مثيرا لدهشة البعض فالجميع يعرف أن الأزمة الأوكرانية الراهنة تدور رحاها بين الولايات المتحدة، أوكرانيا ودول الناتو من جهة وروسيا وحلفاء محليين وإقليميين من جهة أخرى. وأن الصين بالمعني المباشر ليست طرفا فيها لكن الحقيقة هو أن الأزمة الأوكرانية ليست أزمة أوروبية فقط وليست حتى أزمة أوراسية فحسب، وإنما هي بامتياز أزمة دولية. وما عناوينها المحلية في الصراع الداخلي بين السلطة المركزية في كييف وإقليم دونستك المنشق في شرقها وعناوينها الإقليمية في صراع روسيا وبيلاروسيا من ناحية وأوكرانيا ودول البلطيق ودول الناتو من ناحية أخرى إلا غطاء لصراع أكبر على النفوذ العالمي أو على الأصح على طبيعة النظام الدولي الحاكم، هل سيبقى هو نظام القطب الأمريكي الواحد المهيمن منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 أم سيكون نظاما دوليا جديدا متعدد الأقطاب تتقدم فيه الصين بشكل حاسم وروسيا بشكل شبه حاسم لمشاركة أو مزاحمة واشنطن في صناعة القرار الكوني وإعادة صياغة خرائط المصالح العالمية بشكل متوازن بما في ذلك فتح هامش مناورة عظيمة لدول متوسطة القوة وحتى صغيرة -إن امتلكت الإرادة السياسية- لإعادة تموضعها الإقليمي بشكل يخدم مصالحها الوطنية بصورة أفضل.
يكاد هذا المقال أن يقول أن الصين ربحت هذه الجولة من الصراع وحتى دون انتظار نهاية الأزمة ربحت الصين عندما فهمت بدقة شديدة طبيعة الأزمة وأنها موجهة إليها من الغرب قبل أن تكون موجهة إلى روسيا. بعبارة أخرى لقد استوعبت بكين أن حصار روسيا وتقزيمها وجعلها تشعر بالخوف والرعب من أي مواجهة شاملة مع الغرب هي إحدى أكبر المناورات الجيوستراتيجية التي تشنها الولايات المتحدة للحفاظ على وضعها الذي حازته من ٣١ سنة وهو وضع القيادة المنفردة للعالم ونظام علاقاته الدولية. وبالتحديد لمنع الصين من التقدم لتكون القوة الوازنة في النظام الدولي مع قوى أخرى مثل روسيا وغيرها. فوزير الخارجية الأمريكي بلينكن يقول بوضوح تام: إن “الكثير من هذا القرن سيتشكل من خلال ما يحدث في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”. وهذا ما استوعبته الصين بجلاء مدركة أن المناورة الأمريكية الاستراتيجية الكبرى وسياسة حافة الهاوية الخطيرة لحصار روسيا عبر المشكل الأوكراني هي خطوة أمريكية ضرورية إذا نجحت فيها -ستستطيع واشنطن وحلفها الرباعي، اليابان واستراليا والهند ومن ورائهم الناتو، حصار الصين نفسها في آسيا ومنع توسعها العالمي خاصة وان أمريكا باتت مدعومة بسلسلة التحالفات العسكرية التي أقامتها مع دول آسيوية مجاورة أو قريبة للصين من بينها فيتنام وسنغافورة والفلبين.
ولهذا كله دخلت الصين على خط هذه الأزمة بوضوح تام ودون مواربة كما اعتادت في مواجهات وأزمات إقليمية ودولية أخرى كانت تتفادى فيها التصعيد مع واشنطن. ففي الرابع من فبراير الجاري قدم الرئيس الصيني شي بينج في بيان رسمي مشترك دعما غير محدود لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، هذا الدعم يرقي إلى حد اعتباره تحالفا استراتيجيا يتحدى المحاولة الخطيرة ولكن ليست الأخيرة للقطب الأمريكي الأوحد للتشبث بقيادته المتفردة للعالم رغم أن توازنات القوى التي مالت لصالحه قبل ثلاثة عقود تغيرت تغيرا جوهريا وانتقلت من الغرب إلى الشرق. ففي البيان المذكور تبنت بكين مطلبي موسكو في الأزمة تبنيا كاملا وهما حق روسيا في الحصول على ضمانات أمنية تضمن الأمن لها وليس للناتو فقط، والثاني هو رفض توسع الناتو في شرق أوروبا بما يعني رفض ضم أوكرانيا وجورجيا لحلف الناتو وإعادة النظر في الانتشار العسكري للحلف.
وفي مسألة إضعاف أثر العقوبات القاسية التي لوحت بها أمريكا وحلفاؤها وعلى راسها إجبار ألمانيا على إلغاء مشروع خط نورد ستريم ٢ لتوريد مزيد من الغاز الروسي لألمانيا، منحت الصين روسيا عقودا لتوريد الغاز والبترول إليها بما قيمته مائتي مليار دولار. أي أن روسيا لن تركع على قدميها من أجل العملات الصعبة – حتى لو غامرت ألمانيا وزميلاتها بالاستغناء عن مصدر قريب ورخيص كالغاز الروسي. الأهم والأخطر هو أن الصين تعهدت بالاستمرار في نقل التكنولوجيا والاستثمارات التي هدد الغرب بمنعها عن روسيا ضمن حزمة العقوبات التي تم التلويح بها أي أن المعاناة الروسية المتوقعة من حظر المستلزمات الغربية المتطورة اللازمة للصناعات المدنية والعسكرية لن تكون جسيمة في ظل التقدم المتلاحق الذي تحققه الصين في ابتكار وإنتاج هذه المستلزمات، وإذا وضعنا إلى جانب ذلك حقيقة أن روسيا هي المورد الرئيسي لصفقات السلاح للصين ويتعاونان تكنولوجيا الآن في مشروعات تطوير أسلحة فإننا أمام تكتل عملاق متوافق استراتيجيا على إنهاء نظام القطب الواحد وعلي كسر هيمنته المطلقة على موارد ومصالح العالم.
تعرف الصين قبل غيرها أن روسيا لا تحتاج منها دعما عسكريا إذ مازال الروس حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي القوة العسكرية الثانية في العالم تقليديا ونوويا بعد الولايات المتحدة وتعرف -وهذا هو الأهم- أن روسيا لن تقع في الفخ المنصوب لها غربيا بان تستفزها فتغزو أوكرانيا فتغرق في وحل مستنقع الغزو كما فعل السوفييت في أفغانستان وكان احد أسباب سقوط دولتهم.
الروس كما هو واضح من السلوك بارد العقل في الأزمة لن يتورطوا في حرب شاملة في أوكرانيا كما لن يتراجعوا في نفس الوقت عن منع كييف من دخول الناتو وتهديد العمق الروسي. والحقيقة أن الروس لديهم من القدرة العسكرية هم ومنشقوا الشرق الأوكراني ما يجعلهم يكبدون القوات الأوكرانية هزيمة ثالثة مذلة في حال نفذ الرئيس الأوكراني تهديده بشن حرب جديدة على الإقليم الشرقي (هزمت القوات الأوكرانية في ٢٠١٤ وعقدت اتفاقية مينسك -١ ثم نكصت كييف عن تنفيذها وهزمت مرة أخرى في ٢٠١٥ وعقدت اتفاقية مينسك-٢ ولم تنفذها كييف أيضا).
ومن ثم فان احتمال حرب شاملة بين روسيا وأوكرانيا تستنزف ما بناه بوتين من عناصر القوة الشاملة لروسيا اقتصاديا وجيوسياسيا في العشرين سنة من حكمه هو أمر مستبعد، واحتمال تطبيق النطاق الشامل للعقوبات المخيفة التي تلوح بها أمريكا يتضاءل وستكون العقوبات جزئية في الغالب وليست شاملة. الأهم من ذلك أنها حتى لو فرضت هذه العقوبات فلن تكون قاصمة لظهر روسيا خاصة مع الدعم المالي والتقني والاستراتيجي الصيني لموسكو ومع التحسن الكبير في الوضع المالي لروسيا مع زيادة عن إيرادات العام الماضي قد تصل إلى ١٠٠ مليار دولار في عائدات النفط والغاز ومع وصول الاحتياطي الروسي من الذهب والعملات الأجنبية إلى ما يقرب من ٧٥٠ مليار دولار.
لن تحقق أمريكا انتصارا صفريا توقعته من الحملة الإعلامية السياسية التي اقترب شهرها الثالث علي الانتهاء دون أن يحدث الغزو الروسي الذي أنذرت بوقوعه.
فلن تستدرج روسيا إلى محظور الغزو كما لن تتراجع عن رفض أن ترث الولايات المتحدة نفوذ الاتحاد السوفييتي في شرق أوروبا والبلطيق.
روسيا كذلك لن تحقق انتصارا صفريا في الأزمة – وهي لم تتوقعه على أي حال – فهي ستتنازل في الغالب عن مطلبها بالحصول على تعهدات من الناتو بمنع انضمام أوكرانيا وجورجيا وقد تكتفي بتعليق ضمني لهذا الضم لأجل غير مسمى.
لم ولن تسلم الصين روسيا لقمة سائغة ولم ولن تترك موسكو وحيدة ليس من أجل الروس ولكن حماية لنفسها مما يسميه الروس الاستفراد الأمريكي/ الانجلو سكسوني.
فالصين ستدافع للحصول على مكانة دولية ونظام متعدد الأقطاب يعكس التكافؤ المتزايد بين الشرق والغرب ويترجم ما حققه اقتصادها منذ ١٩٧٩ بمتوسط نمو سنوي في هذه الفترة يصل إلى ١٦ ٪ سنويا، وبناتج محلي إجمالي وصل إلى ١٨ تريليون دولار بحيث أصبح يمثل لوحده ما يقرب من ٢٠٪ من الاقتصاد العالمي في المرتبة الثانية مباشرة بعد الاقتصاد الأمريكي.
روسيا بعد نجاحها الاستراتيجي في العودة للشرق الأوسط والمياه الدافئة عبر الأزمة السورية كلاعب أساسي بقوات وأسلحة وقواعد علي المتوسط وبعد تمكن بوتين من إنهاء مرحلة الانهيار الاقتصادي [روسيا تتنافس علي المركز العاشر عالميا بمساهمة تقترب. من ٢٪ من الاقتصاد الدولي] ومن إعادة حضور قوتها الناعمة والخشنة في أوراسيا لن تقبل أن تعامل كدولة تابعة للناتو أو واشنطن ولن تقبل أن تعامل روسيا التاريخية وهي قوة إقليمية شبه عالمية منذ القرن الـ١٢ معاملة رومانيا وبولندا وبلغاريا كتوابع صغيرة لمعونات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية ومعونات الناتو العسكرية.
باختصار تقول المؤشرات: إن أمريكا لن تحقق نصرا مبينا أو ساحقا من الأزمة الأوكرانية وهي أكبر مناورة استراتيجية تقوم بها لمنع سقوط علم القيادة الإمبراطوري منها وان روسيا ومن ورائها الصين معا قادران على الخروج منها دون هزيمة مذلة أو حتى خسارة موجعة وما دامت (الضربة التي لا تقتلك تقويك) فإن الصين ستتشبث أكثر بدور وازن لها في نظام تعددي الأقطاب.. على العالم العربي الذي مازال غارقا في وهم أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا أن يمد يده لكل القوى ويستفيد -من هامش الحركة والمناورة الذي يتسع باستمرار – في حماية أمن ومصالح دوله في التنمية المستدامة وعبور برزخ التخلف.