رؤى

البابا وبوتين والأزمة الأوكرانية

ترجمة: كريم سعد

شكّلت زيارة البابا فرانسيس للسفارة الروسية في روما يوم الجمعة –دون شك– حدثًا بارزًا، لعدة أسباب أهمها عودة البابوية إلى السياسة العالمية مرة أخرى – وهذا بافتراض أنها كانت قد تركتها في المقام الأول.

حيث يتمتع البابا فرانسيس بسمعة دائمة باعتباره “البابا اللطيف والذي يُنسب إليه الفضل في الكثير من الآراء التقدمية – والذي رفض ذات مرة استقبال وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو – وجاءت رحلته إلى السفارة الروسية في غضون ساعات من التقارير التي تفيد بتقدم أول رتل من الدبابات الروسية ناحية ضواحي كييف.

وللفاتيكان مواقف في “السياسة الخارجية” منذ عدة قرون عن طريق الدبلوماسيين والجواسيس و”مراكز الفك” والصحفيين. ولا شيء يفعله البابا من قبيل الصدفة. فهناك أيضًا بيروقراطية الفاتيكان الهائلة التي تتخذ القرارات للبابا. ولكن، من المثير للاهتمام أن زيارة فرانسيس للسفارة الروسية يوم الجمعة لم تكن مدرجة في ورقة ارتباطاته اليومية المعتادة.

وهذه اللفتة البابوية هي عملية غير عادية وليس لها سابقة حديثة. وذكرت  شبكة “سي إن إن” أن البابا تحدث مع السفير الروسي لأكثر من ساعة ونصف.

ودعا فرانسيس في نهاية الجلسة لوضع نهاية سلمية للنزاع في أوكرانيا وحث الكاثوليك على تخصيص يوم الأربعاء يومًا للصوم والصلاة من أجل السلام في أوكرانيا.

دبابات الجيش الروسي في أوكرانيا
دبابات الجيش الروسي في أوكرانيا

وجدير بالذكر، أنه بعد الانقلاب الذي رعته “وكالة المخابرات المركزية” في أوكرانيا عام 2014 وبدء المسار المناهض لروسيا عن طريق النظام الجديد في كييف، تمت هندسة انقسام للمسيحيين الأرثوذكس، حيث فصلت أوكرانيا نفسها من خلال إنشاء كنيستها الأرثوذكسية الخاصة بها. والتي تُسمى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في ديسمبر 2018 – لتغدو متميزة ومستقلة عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.

وقال رئيس أوكرانيا آنذاك، بترو بوروشينكو، في تصريحات شهيرة، أثناء مخاطبته المؤمنين الذين احتفلوا بالقداس تحت القباب الذهبية لكاتدرائية القديس مايكل في كييف لإحياء الانقسام الرسمي، أن بلاده “لن تشرب بعد الآن السم من كأس موسكو”.

وبحلول أواخر عام 2018 وأوائل عام 2019، عندما أعلن المسيحيون الأرثوذكس في أوكرانيا الاستقلال، أو الاستقلال الذاتي، عن البطريركية الأرثوذكسية في روسيا، كان الروس –بشكل عام– يتنقلون بين عاطفتين..  الصدمة والدمار.

وعلى أي حال، شرعت الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية على الفور في الاعتراف باستقلال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، بينما رفض القادة الأرثوذكس الروس ذلك. وأصبحت النتيجة: فصيلان أرثوذكسيان متعارضان في البلاد اليوم.

ولقد دخل فرانسيس في دوامة هذا الانقسام في الكنيسة الأرثوذكسية. حيث أنه بلا شك كان يعي أن هناك فرضية مفادها أن الخلافات السياسية بين روسيا وأوكرانيا ستمتد إلى المجال الديني، مع الأخذ في الاعتبار أن الرئيس بوتين نفسه مسيحي أرثوذكسي متدين وهو مقرب بشكل شخصي من بطريرك موسكو كيريل.

ويقدر عدد الكاثوليك في أوكرانيا بحوالي 4-5 ملايين شخص، أي حوالي 9٪ من السكان. والسمة الرئيسية للكاثوليكية الأوكرانية هي هيمنة الروم الكاثوليك على كاثوليك الطقوس اللاتينية. فالكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية تخضع للطقوس الشرقية وتعترف بالبابا على رأسها ولكنها تتبع الليتورجيا البيزنطية.

ومن المعروف أن البابا فرانسيس يدعو إلى “الحركة المسكونية” من خلال العلاقات واللقاءات الشخصية والإيماءات المسكونية. وفي الواقع، منذ الانشقاق الكبير عام 1054 عندما انفصلت الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية من الناحية المجتمعية، كان فرنسيس هو أول بابا على الإطلاق يجتمع مع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية (أكبر الكنائس الأرثوذكسية الشرقية) عندما التقى مع البطريرك كيريل في فبراير 2016 في اجتماع تم الترتيب له مسبقًا في غرفة لكبار الشخصيات في المطار الدولي بالقرب من هافانا بكوبا. (وكان من بين الشخصيات الكوبية البارزة التي حضرت المناسبة الرئيس راؤول كاسترو). وبعد اجتماع خاص استمر ساعتين، وقعوا إعلانًا مشتركًا حول مجموعة من الموضوعات التي ركزت على وحدة الكنيسة المسيحية ودورها الفريد كـ “إخوة في الإيمان المسيحي”.

ويرى المحللون أن لقاء فرانسيس مع البطريرك كيريل كان له بعد جيوسياسي، بالنظر إلى تأكيد الرئيس بوتين على تأثير روسيا على المسرح العالمي و “تحالفه السياسي” مع البطريرك كيريل.

وهذا الأمر يحتاج إلى بعض الشرح، حيث أنه من المعروف أن سياسات البطريرك كيريل جعلت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أقرب إلى الدولة الروسية خلال العقدين الماضيين. وفي عام 2012، خلال الانتخابات الرئاسية الروسية، قام البطريرك كيريل بدعم بوتين علانية، وشبه رئاسة بوتين بـ “معجزة من الله”.

البطريرك كيريل
البطريرك كيريل

ولا يُعد الأمر سراً الآن أن بطريركية موسكو عملت كأداة للسياسة الدولية الروسية وكانت بمثابة ناقل فعال لمصالح الكرملين السياسية في جميع أنحاء العالم.

وفي الواقع، أثار فرانسيس بعض الانتقادات لأنه سمح لنفسه بأن يتم استخدامه من قبل روسيا الحريصة على تأكيد نفسها. ولكن حينها، كان رد فرانسيس جاهزًا. فعندما سُئل عن إمكانية أن يكون البابا الأول الذي يزور روسيا والصين، أشار فرانسيس ذات مرة إلى قلبه وقال: “الصين وروسيا، لديهما هنا (أي في قلبه)، صلاة خاصة”.

والتقى بوتين بفرانسيس ثلاث مرات. وهذا الأمر الخاص باجتماع البابا مع رجل دولة عالمي لثلاث مرات يُعد أمرا نادرا للغاية، ومن المعروف أنهما ناقشا الكثير من الأمور السياسية خلال تلك الزيارات.

ومع ذلك، لم يدخل أي زعيم للكنيسة الكاثوليكية بعد في مجال الأرثوذكسية الروسية. برغم أن روسيا لا تزال وجهة مرغوبة للرحلة البابوية. حيث يتمتع فرانسيس بسمعة طيبة في روسيا، ويشك البعض في أن كيريل قد يشعر بالغيرة من شعبية البابا الأرجنتيني.

وقد عُقد اجتماع بوتين الثاني مع فرانسيس في الفاتيكان لمدة 50 دقيقة (طويل جدًا بالنسبة للقاءات البابوية) وتمت المقابلة في يونيو 2015 أي بعد أشهر قليلة من عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وقال الفاتيكان في ذلك الوقت إن فرانسيس طالب بـ “جهود صادقة وشاملة من أجل السلام” في أوكرانيا، واتفق البابا وبوتين على ضرورة استعادة “مناخ الحوار” وأن على “جميع الأطراف” أن تلتزم باتفاقيات مينسك.

ومن المنطقي أنه في الاجتماع الذي عقد يوم الجمعة، نقل فرانسيس إلى الكرملين بعض الرسائل فيما يتعلق بالتطورات في أوكرانيا. والتي تبدو أنها كانت رسائل جوهرية حول الحرب نظرًا لطول مدة الاجتماع في السفارة الروسية، وقد حدث ذلك بعدما شوهد أول رتل من الدبابات الروسية في ضواحي كييف.

ونظرًا لميل فرانسيس للجغرافيا السياسية وتعاطفه مع السياسة الخارجية الروسية وانتقاده للغرب بعدة طرق، فإن الزيارة الشخصية إلى السفارة الروسية – حيث كان بإمكان فرانسيس دائمًا استدعاء السفير، وهي الممارسة المعتادة – جعلت منها لفتة غير عادية.

كريم سعد

مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock