الإسكندرية في صيف عام 1798، تقف المدينة التاريخية شبه عزلاء أمام الغزاة الفرنسيين.. جنود وعلماء.. باحثون ومهاويس بالشرق -مصر على وجه الخصوص- أفاقون وسماسرة وتجار، يتدفقون عبر الساحل، والمصريون في جزع من هول ما يجري.. لا يدرون ماذا هم فاعلون؟
المماليك بين أملٍ خابٍ يدفعهم نحو مواجهة هذه الآلة الحربية الهائلة، ويأس يستحثهم على الهرب، واللجوء إلى الصعيد، حيث يصعب تعقبهم والوصول إليهم.. أما الاتراك فقد استبد بهم الاضطراب فصاروا فريسةً للقنوط من كل وجه.
لم يستغرق الأمر طويلا حتى كان رجال نابليون على أبواب القاهرة.. بعد معارك ومناوشات كان بعضها أشبه بالنزهة، ما زاد في أوهام النصر لديهم، بسهولة الاستيلاء على بلد بحجم مصر كنز الشرق ومكمن أسراره.. سيعرف الفرنسيون بعد ذلك صعوبة الأمر مرارا إلى أن يضطروا إلى العودة إلى ديارهم خائبين مدحورين.. بعد أن فقدوا أسطولهم في أبي قير، وبعد أن رضخوا لشروط أقل ما توصف به أنها مُذلة.
إنشاء المجمع العلمي
يختلف كثيرون حول تحديد الأهداف التي حدت ببونابرت إلى إنشاء المجمع العلمي، غير أنه من المؤكد أن دراسة طبيعة البلاد المصرية، والكشف عن كنوزها وثرواتها كان سببا مباشرا لإقامة المجمع؛ بعد أن كانت أحلام تأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق مركزها مصر- قد استبدت بالسيد بونابرت، الذي كان ما يزال يعيش زهوا علميا خاصا منذ انتخابه في العام1797م عضوا بالمعهد القومي الفرنسي، الذي حل بديلا للأكاديمية الفرنسية أثناء الثورة.
في الثاني والعشرين من اغسطس 1798م يصدر أمر الإنشاء متضمنا ستا وعشرين مادة توضح المهام والأغراض التي أنشئ من أجلها المجمع، ومن أهمها: تقدم ونشر العلوم والمعارف في الديار المصرية، وبحث ودراسة وطبع المباحث الطبيعية والصناعية والتاريخية لمصر؛ كذلك استشارته في المسائل المختلفة التي ترى الحكومة عرضها عليه.
بالطبع لم يكن هدف الفرنسيين نشر العلم والمعرفة في عموم الديار المصرية، كما أوردوا في بيانهم، كان الهدف الأهم والرئيس هو اكتشاف تلك البلاد بطريقة تحقق الاستفادة القصوى خلال فترة الوجود الفرنسي بها؛ إذ أيقن الفرنسيون منذ وطأت أقدامهم ساحل الإسكندرية أن أيامهم لن تطول في تلك البلاد.
المصريون وكيف تعاملوا مع الحدث الكبير؟
يقول مسيو لاكروا وهو يصف طريقة تعاطي المصريين مع هذا الحدث: “إن إنشاء المجمع لفت نظر الأهالي كما أن المكتبة وجميع الآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية والنباتات المختلفة والأحجار المتنوعة التي جمعها العلماء لتحقيق مباحثهم، وما أشبه ذلك من الأمور، استدعى اهتمام الأهالي فصاروا يفكرون في الأسباب الداعية لهذه المساعي، حتى خُيّل لبعضهم أن الغرض منها صناعة الكيمياء أو صناعة الذهب؛ لكنهم عندما أدركوا الغرض الحقيقي من ذلك؛ تحببوا إلى العلماء وتقربوا إليهم ومال إليهم المتعلمون من المصريين وكثير من الطبقة الدنيا من أصناف العمال والصناع الذين كان العلماء يسألونهم عن صناعاتهم وأعمالهم”.
أما الجبرتي فيصف الأمر بشكل أكثر تفصيلا فيقول أن الفرنسيين “أفردوا للمديرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية، كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحُسّاب والمنشئين، حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت، مثل بيت قاسم بك وأمير الحج المعروف بأبي يوسف، وبيت حسن الكاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيّده وزخرفه وصرف عليه أموالا عظيمة من مظالم العباد”.
وقد تعجب الجبرتي من كثرة الكتب التي ضمتها مكتبة المجمع، ودقة القائمين عليها في معرفة أسمائها ومجالات علومها، وسرعة توصُّلهم إليها متى طلبت من قبل الطلبة والمراجعين؛ وذكر أنهم كانوا يتلطفون في تعاملهم مع المصريين؛ حتى أنهم إذا رأوا في أحدهم “قابلية أو معرفة أو تطلعًا للنظر في المعارف- بذلوا له مودتهم ومحبتهم، ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكرات البلاد والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الأنبياء”…ويضيف أنه ذهب إليهم مرارا ورأي لديهم كثيرا من الكتب الإسلامية مترجما بلغتهم، وأن بعضهم يحفظ سورا من القرآن الكريم، كما أفاد بأنهم خصصوا بيت إبراهيم كتخدا السناوي للمصورين الذي برعوا في رسم كل شيء على نحوٍ لا يصدق، كما خصصوا جزءا من بيت حسن الكاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي.
مصر تدخل عصر الطباعة
جلب الفرنسيون معهم مطبعتين ظلت واحدة بالإسكندرية لنهاية عام1798م وكان أول كتاب يطبع في مصر- حسب المؤرخ ج. كرستوفر هيرولد- هو كتاب “تطبيقات في العربية الفصحى” مختارة من القرآن لينتفع بها دارسو العربية، أما المطبعة الأخرى فقد كانت ملكا خاصا للمواطن الفرنسي مارك أوريل، أحد أصحاب الامتيازات الذين كانوا يرافقون الجيوش الفرنسية. تم إصدار أول صحيفة في مصر وعُرفت باسم “بريد مصر” ثم صحيفة “العقد المصري” الناطقة بلسان حال المجمع العلمي.
حال التعليم المصري أثناء الحملة
يرى المؤرخ المصري أحمد حافظ عوض أن “الحملة الفرنسية إن كانت قد فشلت من حيث هي، ولم تخلِّف وراءها لدى المصريين سوى الآثار المحزنة، والتذكارات المؤلمة، إلا أن العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف.. قد غطى على تلك العيوب وأبقى إلى اليوم أثرًا علميًا فاخرًا باهرًا، إن لم يكن قد أفادنا من وجهة مباشرة فائدة مادية علمية، وحتى وإن لم تستفد منه فرنسا ما آملته، إلا أن ذلك لا يمنع من الاعتراف بأنه عمل تطأطئ أمامه الرؤوس إجلالا وإكبارا”.
أنشأ الفرنسيون في تلك الأثناء مدرستين، لكن الدراسة فيهما اقتصرت على أبناء الفرنسيين دون غيرهم، وفي المجمل فإن أحوال التعليم المصري قد ساءت جدا في تلك الفترة، ويعود ذلك إلى الفوضى العارمة التي أحدثها الغزو الفرنسي للبلاد، وشيوع المظالم التي صارت منظمة ومقننة على يد الفرنسيين، بينما كانت عشوائية وهوائية على يد المماليك، وأغلب الظن أن هذا هو حال المصريين في كل عصر يتقلبون بين أشكال من المظالم دون أن يعرفوا للحكم العادل سبيلا.
وكما يذكر الجبرتي.. فإن إعدام العلماء وفرارهم إلى الأصقاع النائية، كان قد شاع في تلك الفترة؛ إذ اتهموا طوال الوقت من قبل الفرنسيين؛ بأنهم يحرِّضون عموم المصريين على الثورة، والحقيقة أن أسباب الثورة كانت تنحصر غالبا في الضرائب والجبايات التي لم يكف الفرنسيون عن استحداثها، وفرضها على المصريين.
وبالرغم من أن بونابرت قد فطن إلى ضرورة استمالة المشايخ إلا أنه لم يأمن جانبهم، بينما كانت الاستكانة والخضوع له وهو “الكافر المارق” أمر تأباه النفوس التي جُبلت على عزة الدين ورفعته.
انحياز بعض الطوائف للفرنسيين
في حين وجد الفرنسيون العون والمساعدة من الأقباط وبعض الشوام، فقد أسس المعلم يعقوب الفيلق القبطي الذي كان قوامه حوالي ألفي جندي من أقباط الصعيد الذين خضعوا لتدريب عسكري على أيدي الضباط الفرنسيين، ونالوا حظا من التعليم على أيدي علماء الحملة، وقد انضم الفيلق للجيوش الفرنساوية وارتدى جنوده الزي العسكري الفرنسي، وقد مارس يعقوب وجنوده العديد من الممارسات التي تدل على الحقد والضغينة التي أضمروها لعموم المصريين، وقد رحل المذكور غير مأسوف عليه مع الحملة عند جلائها عن مصر، وحُمَّ ومات قبل أن تصل السفينة التي أقلته إلى فرنسا؛ فألقيت رمته في البحر.
وضم بونابرت إلى الجيش الفرنسي صغار المماليك والأتراك ممن تراوحت أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين، وقد خضع هؤلاء لتدريبات مكثفة، ونالوا قسطا من التعليم العسكري أيضا، كما ضم أدميرال أسطول مراد بك نيقولا اليوناني مع يونانيين آخرين، وتم الاستعانة ببعض الأتراك لحفظ أمن القاهرة وتمت الاستفادة من الشوام في أعمال الترجمة.
صدمة حضارية وتهيُّؤ للنهوض
في نهاية الأمر اضطر الفرنسيون للرحيل بعد أن أمضوا بمصر قرابة الأعوام الثلاثة، وكان المجمع العلمي قد أنجز المؤلَّف الكبير المعرف بوصف مصر، وهو سفر جليل يلخص أعمال علماء المجمع ومشاهداتهم وملاحظتهم في شتى مناحي الحياة المصرية، كما كان من آثار تلك الحملة فك رموز حجر رشيد على يد العالم الفرنسي شامبليون.
نهاية لم يضف الوجود الفرنسي في مصر شيئا ذا قيمة للمصريين، اللهم إلا تلك الصدمة الحضارية التي نبهتهم إلى أن الشُّقة بينهم وبين الحضارة الحديثة ما زالت بعيدة، وربما كانت تلك الصدمة الحضارية سببا في تهيئتهم، لما أعده لهم القدر من نهضة حقيقية، ليس في مجال العلم والتعليم فحسب؛ بل في جميع مناحي الحياة، على يد من سيئول إليه الأمر بعد أقل من أربعة أعوام من طرد الفرنسيين، محمد على الكبير الذي يعتبر بحق أحد أهم بناة مصر الحديثة.