في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتزامن مع بدء التنقيب عن البترول في شبه الجزيرة العربية، وعندما قامت إحدى الشركات الأمريكية بحفر أول بئر بترول شرق المملكة.. وبعد العديد من الاكتشافات البترولية – أوعز أباطرة النفط الأمريكيين إلى الإدارة الأمريكية، التي كان على رأسها آنذاك الرئيس “روزفلت” بضرورة تأمين منطقة الخليج وحفظ الاستقرار السياسي بها؛ نظرا لأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، وكان من نتائج ذلك أن أعلن الرئيس “روزفلت” في العام 1943، أنَّ الدفاع عن المملكة العربية السعودية يمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، ثم قام بإرسال أول بعثة عسكرية أمريكية إلى السعودية.
على ظهر باخرة في قناة السويس –تحديدا في منطقة البحيرات المُرَّة– في فبراير عام 1945، التقى “روزفلت” والملك عبدالعزيز، وهو اللقاء الذي أعتبر بمثابة البداية الحقيقية للعلاقات الأمريكية السعودية.
سبق هذا اللقاء بنحو عامين إبداء الولايات المتحدة، لرغبتها في تأمين وجود قاعدة جوية استراتيجية في الخليج؛ وذلك لربط مسرح عمليات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بجنوب آسيا، ووقع اختيار الهيئة المشتركة لرؤساء الأركان على “الظهران” الواقعة شرقي السعودية؛ لتكون المكان المناسب لهذه القاعدة. وبعد مفاوضات سرية قطعت شوطا قصيرا؛ منحت السعودية الولايات المتحدة حق تأجير القاعدة لفترة محدودة دون اتفاقية رسمية. وعقب الاجتماع المذكور أعلنت السعودية الحرب على ألمانيا.. إثر ذلك أنشأت أمريكا مفوضية دائمة لها في جِدة، وفي عام النكبة؛ رُفع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى السفارة، وقد شهدت تلك الفترة “زيادةً مضاعفةً في الصلات الدبلوماسية والعسكرية والفنية والاقتصادية”.
وتعتبر الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” عام 1957، هي بداية الشراكة السياسية الحقيقية بين الولايات المتحدة والسعودية، تلك الشراكة التي بدا فيها كل شيء واضحا، حيث سعى الطرف الأمريكي لهذه الشراكة عقب تحذيرات بريطانية من تقارب سعودي مصري سوري يسعى لفك ارتباط الأردن ببريطانيا، كما شملت التحذيرات خطورة تدفق المال السعودي لتمويل صحف ذات توجهات يسارية في سورية والأردن ولبنان، ما ينذر بانتشار الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط، وتعاظم الدور السوفييتي الذي يعني استحواذ الدب الروسي على ثروات المنطقة؛ ما سيضر بشكل مباشر بالمصالح الغربية!.. كانت تلك التحذيرات وغيرها ضمن رسالة أرسلها رئيس الوزراء البريطاني “أنتوني إيدن” في مطلع العام 1956، وقد حرص “أيزنهاور” على تطمين “إيدن” وكتب خطابا له بالفعل؛ لكن الخطاب الذي تضمن التأكيد على إدراك الولايات المتحدة الكامل لحجم المشكلة، ومعرفتها بما يجب اتباعه حيالها– لم يرسل، وكان السبب هو أدراك الإدارة الأمريكية أن بريطانيا تريد إفساد العلاقات الأمريكية السعودية بتحريضها على اتباع سياسة متشددة تجاه السعودية، وهو ما بدا واضحا في حديث أحد الدبلوماسيين البريطانيين أثناء مباحثات بريطانية أمريكية في نفس العام قبل زيارة “إيدن” لواشنطن حين وصف الدبلوماسي البريطاني النظام السعودي بأنه “فاسد ومتخلف ومعاد للغرب”.. بالطبع فإنَّ المشكلات البريطانية كانت تتعاظم في كل الاتجاهات مع الإيذان بالرحيل عن المنطقة، ومنها مشكلة واحة البريمي التي أحدثت خلافا حادا بين بريطانيا والسعودية، وكان من أهم أسباب اندفاع الجانب السعودي نحو الولايات المتحدة – ما حدث في العراق عام1958، إذ أطيح بالنظام الملكي العراقي، ليحل محله نظام عسكري راديكالي. توترت العلاقات بين البلدين إذ شعر النظام السعودي بالخطورة البالغة لوجود نظام ثوري مدعوم بالسلاح من الاتحاد السوفييتي في العراق، وكان السعوديون قد بدءوا في استشعار نفس الخطر تجاه النظام الثوري بقيادة عبد الناصر في مصر.
وكانت الاستراتيجية الأمريكية التي وضعها الرئيس “أيزنهاور” قد حددت أهمية المملكة العربية بالنسبة للولايات المتحدة في عدة نقاط أهمها تحكُّم المملكة في أكثر من ربع المخزون العالمي المعروف من البترول، كذلك سيطرة الدولة السعودية جغرافيا على شبه الجزيرة العربية، وحدود كل من الخليج العربي والبحر الأحمر، كما أنها تقع إلى الجنوب من منطقة الأمن بالنسبة لإسرائيل، وبالنسبة للجانب الاقتصادي، فإن الاستراتيجية رأت أن القرارات المتخذة من جانب قادة المملكة بشأن استخدام عوائد النفط، سيكون له أثر كبير في النظام الاقتصادي الغربي، كما أنَّ اعتبارها –أي المملكة– مركزا للدين الإسلامي يتيح لها لعب أدوار تتعلق بالحفاظ على الاستقرار والأمن في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي، ومنطقة البحر الأحمر.. هذا بالإضافة إلى إمكانية جعلها سوقا رائجة للمنتجات الأمريكية بما فيها السلاح.
بالطبع فإن هاجس انتشار الشيوعية واستحواذ الاتحاد السوفييتي على منطقة الشرق الأوسط كان الدافع الأساسي للولايات المتحدة لاتخاذ خطوات استباقية، منها المسارعة بإرسال القوات وإقامة القواعد العسكرية، كما تضمنت الخطة الأمريكية تقديم المساعدات المالية ودعم النهوض الاقتصادي –وفق حدود– مع غض الطرف عن الأوضاع الداخلية لبلدان الشرق الأوسط التي خلت من أي نظام ديمقراطي، وتوزعت أنظمتها الاستبدادية بين الحكم العسكري والعشائري؛ لذلك كان من الطبيعي أن تتخذ الولايات المتحدة، من السعودية نقطة ارتكاز مهمة لتنفيذ سياساتها في الشرق الاوسط، بعد أن برهنت الأخيرة على عدائها للاتحاد السوفياتي ورضاها التام عن سيطرة الشركات الأمريكية على الثروة النفطية بها، كما أظهرت المملكة استعدادها الكامل لتقديم كافة التسهيلات العسكرية للولايات المتحدة.
بحلول العام1960، وصل إلى مقعد الرئاسة الأمريكية “جون كيندي” لكن شيئا ما لم يتغير في طبيعة العلاقات الأمريكية السعودية، فقد بدا كل شيء مستقرا وغير قابل للتعديل أو التغيير، وكذلك كان الحال في عهد الرئيس “جونسون” إذ استمرت الأوضاع على ماهي عليه؛ لكن تسارع الأحداث والمتغيرات الدولية وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط أواخر الستينات، وطوال عقد السبعينات، كان له تأثير كبير على العديد من تحولات السياسة الأمريكية في منطقة الخليج، وكانت تلك المتغيرات تعزز من الدور السعودي تارة، وتعيده إلى الخلف تارة أخرى، خصوصا بعد إعلان بريطانيا في عام1968، اعتزامها الانسحاب من منطقة الخليج بحلول نهاية عام1971، وكان ذلك الإعلان بمثابة استدعاء للولايات المتحدة لتحتل مقعد القيادة في المنطقة، وقد أوجب ذلك عليها أن تعيد صياغة سياساتها في الشرق الأوسط بما يتفق مع الوضع الجديد.