ثقافة

عن إخضاع النص وسطوة المتغلب.. وتواطؤ التاريخ!

لا تنفك تلك العلاقة الجدلية الملتبسة- تتجلى تداعياتها يوما بعد يوم في تأزّمات العقل العربي واختلالاته وفي تخلف وعينا الراهن، والمعاناة المتجددة في تلمس طريق الخلاص، وتصحيح المنهج، واستلهام الوسيلة الناجعة للنجاة.

إن العلاقة بين النص والسلطة والتاريخ لا تقوم على الوضوح، بل يمكننا القول أنها شائكة وحرجة، فالتاريخ غالبا ما يُصدر أحكامه في ظروف صنعتها سطوة المُتغلب، تلك السطوة التي تعتمد عزل النص وإخضاعه كآلية ضبط صارمة؛ كمبرر للقهر والاستبداد وإرغام الناس على القبول بالواقع، بوصفه قدرا محتوما؛ وصما للرفض والتمرد على ما تقوم به من ممارسات؛ بأنه ليس من صالح الأعمال.

أما السمات الأساسية للسلطة فلا ارتباط لها بالتاريخ، لذلك فهي غالبا لا تحفل به، فهي سلطة “الآن” التي تجتهد في تحقيق أهدافها بشتى الوسائل، دونما اكتراث بمبادئ الاستقامة والرشد، كما أنها لا تحمل لشهادة التاريخ أدنى تقدير يذكر، ففي الوقت الذي تنحلُّ فيه عقدة لسان التاريخ، تكون تلك السلطة قد ولّى زمانها، وليقل التاريخ وقتها ما يحلو له!

وتحتاج كل سلطة مهما بلغت درجة شططها وتبجّحها إلى شيء من التبصر، يمكنها من إيجاد صياغات شبه مقبولة لتطويع النص لغشمها وتعسّفها، قبل اللجوء إلى إقصائه إذا لزم الأمر.. فمن تعدد الشروح والتفاسير والأوجه التي تصل إلى حد التعارض، إلى التفريغ من المضامين الهامة، إلى احتجاز النص داخل حيِّزه الزماني والمكاني، إلى تعطيله وبته عن فاعليته، إلى تحويله إلى أوراد للتعبد فقط، إلى إفساحه وتعميمه على نحو يفقده القدرة على المناسبة والتأثير، إلى مجاورته بنصوص أخرى تستمد منه بعض القدسية، ثم ما تلبث أن تنحيه أو تزيحه؛ لتكون لها الكلمة العليا، بتبرير أن النص الأول حِكْرٌ على فئة من الناس دون غيرهم، يتعاملون معه وفق منهجية صارمة تتلمس النجاة من الزلل في كل خطوة تخطوها؛ فتعود في الغالب خالية الوفاض!

وتباعا تمت عملية نقل الحُجْيّة من النص إلى تلك النصوص المُزاحمة، حتى صير يحتج بقول السلف وفعلهم.. على النصوص ذاتِها وإن كانت قطيعة الثبوت واضحة الدلالة.

يقول المستشار عبد الجواد ياسين عن ذلك في كتابه “السلطة في الإسلام”: “لقد أصبح السلف – وهو تعبير غامض يحتاج إلى الضبط والتحديد- مصدرا للتشريع بما يخالف الشريعة”. والمعروف أن السلف هم الذي عاشوا في القرون الثلاثة الأولي من عمر الإسلام، والاحتجاج في ذلك بما روي عن عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن جعدة بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الآخر أردى”. مصنف ابن أبي شيبة.

السلطة في الإسلام

فإذا كانت الخيرية هنا هي المقصودة، والسبب فيها واضح وهو معاصرة الفترة النبوية أو الاقتراب منها، فلماذا ذهب القوم بها إلى حجية الأقوال، وشرعنة الأفعال، ومن ثم إنزال ذلك كله منزلة التشريع!

ويضيف المستشار عبد الجواد ياسين قائلا: “… ففعل السلف الذي وافق على الانقياد لأنظمة فاسدة يصبح دليل حكم بجواز ذلك الانقياد، وهذا نموذج لعلاقة التاريخ السياسي بتاريخ الفقه، نموذج ليس فقط لتنحية النص؛ بل لطريقة رسمه وإنشائه وتكوينه، فمنذ أن دُوِّنت النصوص ولا سيما السنة في كتب مستقلة كمتونٍ سرديةٍ صرف، بغير إشارة إلى سياقات الواقع التي كانت تلابسها في لحظات التلقي الأولى، أو في ظروف التدوين المتأخرة، والعقل الإسلامي يتعاطى معها ككائنات تشريعية مطلقة، وكاملة الكينونة، بمعزل عن العوامل الخارجية”.

ومما يعجب له حقا أن يحتج بتلك الشريعة الموازية؛ برغم ما حدث من الكثيرين بعد انقضاء فترة الخلافة الراشدة وأثنائها، خاصة بعد مقتل الفاروق عمر، فبعد أن آل الأمر إلى أمية؛ ما فتئوا يفسدون ضمائر الناس بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، حتى أنهم وجدوا من يبرر لهم هدم الكعبة وإتاحة مكة والمدينة للسلب والنهب وهتك الأعراض لأيام بعد القضاء على ثورة عبد الله بن الزبير.

وقد جرى التعامل مع النص في أحيان أخرى خارجيا بعد “تعليبه” على نحو ما لتتحول النصوص بفعل التقادم إلى ركام، لا يراكم قيمة كما يذهب عبد الهادي عبد الرحمن في كتابه “سلطة النص.. قراءات في توظيف النص الديني” إذ يقول: “… والإشكالية هنا تتضح في هذا (التعليب) الذي وصلنا عبر العصور جاهزا وعلينا أن نستهلكه كما هو دون أي تنقيب أو تمحيص أو حتى تذوّق.

وتبدو الحالة هذه، وكأنها حالة (انقطاع) فِعْلِي في التاريخ، كما لو أننا كنا نائمين كأهل الكهف ألف سنة، ثم استيقظنا فجأة لنجد النقود عينها في أيدينا، وعلينا بالتالي أن نتعامل بها. فرغم أن التاريخ لا تنقطع حلقاته- قد يبدو هكذا أحيانا- إلا أن التاريخ المعرفي قد يدور حول نفسه أو يسير في مكانه مدة من الزمن، لكن في حناياه تؤدي التناقضات إلى تغييرات جذرية؛ لينطلق إلى محطة أخرى يقف عندها بعض الوقت ليتقدم من جديد”.

وهذه حادثة تتعدد دلالاتها نود أن نقف عندها؛ لنتبين أفقا آخر لتلك العلاقة بين النص والسلطة.. فقد روي عن الأعمش أنه قال : كان سالم بن عبد الله بن عمر قاعدا عند الحجاج، فقال له الحجاج: قم فاضرب عنق هذا، فأخذ سالم السيف، وأخذ الرجل وتوجّه باب القصر، فنظر إليه أبوه وهو يتوجه بالرجل، فقال: أتراه فاعلا؟! فردَّه مرتين أو ثلاثا، فلما خرج به قال له سالم: صليت الغداة؟ قال: نعم. قال: فخذ أي الطريق شئت، ثم جاء فطرح السيف، فقال له الحجاج: أضربت عنقه؟ قال: لا، قال: ولِمَ ذاك؟ قال: إني سمعت أبي هذا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن صَلَّى الغَدَاةَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ حَتَّى يُمسِيَ”!!

لن نسل فيما قعود عبد الله بن عمر وولده عند السفاح ابن يوسف، ولن نجادل في معرفة عبد الله بقول الحق عز وجل”وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) الأنفال، ولكن هل تتوقف حياة الناس وتستحل دماؤهم وفق قوله: أتراه فاعلا؟! وكأننا في لعبة مسلية يزجي بها اللاعبون أوقات فراغهم، وماذا لو لم يعرف سالم، حديث رسول الله، وماذا لو كان نسيه وقتها، فأي حجية في فعله، وكيف لم يجادل سالم- حامل السيف والحديث- عن الرجل وماذا كانت جريرته التي استوجبت القتل؟!

يخلص ياسين نهاية إلى أن الإسلام ليس شيئا سوى النص، وأن الخلط بين النص والتاريخ بما حفل به من وقائع كان هدفه انتقاص الإسلام بافتراض أنه التاريخ السياسي للمسلمين، كما أن الخلط بدا واضحا بخصوص السلطة في الإسلام بين الشكل والموضوع، وذلك بإسقاط الأدلة النصية والتاريخية التي تنفي الإلزام بشكل معين من أشكال السلطة على منهاج السلطة الموضوعي ذاته؛ فانتقلت بذلك من القول بعدم وجوب الشكل إلى القول بعدم وجوب المنهاج أو عدم وجوده من الأساس.

علينا إذن أن نعيد النظر في كثير من المفاهيم المتعلقة بالتاريخ، وكذلك مدى حُجّية العديد من الأحكام التي اكتسبت شرعيتها بالطريقة التي بينت سلفا، كما يجب أن نعيد النظر إلى النص بمعزل عن تلك الحوائل الصدئة التي نعتت بالشروح والتفاسير، إذ نوقن أننا مخاطبون به كأهل القرون الثلاثة الأولى، وهو قادر على أن يمنحنا روحه بما يناسبنا فهو كما بَيّنَ المصطفى – صلى الله عليه وسلم- “… لا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock